دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
لا ينظر الإسلام إلى الفقر على إنه عيب اجتماعي أو ذلة للفقير…(1) ومنقصة من كرامته فقد علّم الإسلام أبناءَ هذا المجتمع ومنهم الفقير نفسه أن الكرامة والرفعة فيه ليست بالثروة وما يملك المرء من عقار ومنقول ومن فضة وذهب؛ بل بالإيمان والعلم والعمل الصالح والتقوى كما في قوله – تعالى – في سورة “المجادلة” آية “11” (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْكُمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وقوله – تعالى – في سورة “الزمر” آية “9” (قُلْ هَلْ يَسْتَوِيْ الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ) وقوله – تعالى – في سورة “غافر” آية “58” (وَمَا يَسْتَوِيْ الأَعْمَىٰ وَالبَصِيْرُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَـٰـتِ وَلاَ المُسِيْءُ) وقوله – تعالى – في سورة “الحجرات” آية “13” (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَـٰـكُمْ).
ولقد كان الناس في المجتمع العربي الجاهلي يقيسون أقدارَ الناس بمبلغ ما يملكون من أموال وما يصحبها من جاه وسلطان، حتى أنهم ليعترضون على نبوةٍ محمد – صلى الله عليه وسلم – في أول الأمر؛ لأنه فقير وتمنّوا لو أن الوحي نزل على أحد الرجلَين الثريَّيْن الشهيرَين في مكة أو الطائف: الوليد بن المغيرة القرشيّ وعروة بن مسعود الثقفيّ، قال تعالى في سورة “الزخرف” آية “31” (وَقَالُوْا لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيْم)…(2) وقد كان هذا هو نفس مسلك بني إسرائيل عندما اعترضوا على أن يكون طالوت ملكاً عليهم لفقره قال تعالى في سورة “البقرة” آية “247” (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ طَالُوْتَ مَلِكاً، قَالُوْا أَنّىٰ يَكُوْن لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ) ولما قالتْ ساداتُ العرب وأغنياؤهم للنبي – عليه الصلاة والسلام – “اجعل لنا يومًا ولهم يومًا يجيئون إليك ولا نجئ، ونجئ إليك ولا يجيئون” يعنون بذلك التفريق بينهم وبين الفقراء في المجالس نزل عليه قوله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَع الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَداوةِ وَالعَشِيّ يُرِيْدُوْنَ وَجهَه وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيْدَ زِيْنَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً، وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) سورة “الكهف” آية “28-29” وعندما استأذن “ابن مكتورم” على النبي – صلى الله عليه وسلم – وعنده رجل من أشراف قريش فشقّ ذلك على النبي – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلّىٰ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَىٰ وَمَا يُدْرِيْكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرٰى أَمَّا مَنْ اِسْتَغْنىٰ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّىٰ وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزّكّىٰ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّىٰ، كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَة فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه) سورة “عبس” آية 1-12″…(3)
فالإسلام حطّم أيَّ حواجز أو سدود تفرِّق أو تميِّز بين الغني والفقير وبين الأغنياء أو الفقراء بعضهم البعض غير التي سبق ذكرها، ففي العبادات نجد الفقير يوديها بجوار الغني مثل بمثل وكم بكم وكذلك المعاملات والحدود تقام على الغني مثل الفقير لا يستثني منها شخص لفقره أو لغناه، وبيّن الإسلام أن حقيقة الإنسان في إيمانه وعمله لا في شحمه ولحمه وفضته وذهبه أو ملبسه وزينته، فيقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – (رُبّ أشغث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه) وروى “أحمد” و “مسلم” عن “أبي هريرة” مرفوعًا (رُبّ أشعث مدفوعًا بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه) وروى “الحاكم أبو نعيم” في “الحلية” عنه أيضًا (رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعينُ الناس لو أقسم على الله لأبرّه) وروى “البزّار” عن “ابن مسعود” مرفوعًا (رُبّ ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) ورمز لهما السيوطي بعلامة الصحة وفي مقابل ذلك يقول (يأتي الرجل العظيم السمين يومَ القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) رواه “البخاري” واقرؤوا إن شئتم (فَلاَ نُقِيْمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا) سورة “الكهف” آية “105” …(4)
وفي مجال تكريم الفقير في الآخرة يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – (يقول الله تعالى يوم القيامة: “أين صفوتي من خلقي؟ فتقول الملائكة ومن هم يا ربنا؟ فيقول: فقراءُ المسلمين القانعون بعطائي الراضون بقدري أدخِلوهم الجنةَ فيدخلونها ويأكلون ويشربون والناس في الحساب يترَدَّدون) رواه “أبو منصور الديلمي” في مسند “الفردوس”. وقال – عليه الصلاة والسلام – (يدخل فقراء أمتي الجنةَ قبل أغنيائها بخمسمائة عام) أخرجه “الترمذي” من حديث “أبي هريرة” وقال حسن صحيح. وفي رواية أخرى (بأربعين خريفًا) أخرجه “مسلم” من حديث “عبد الله بن عمر” إلا أنه قال (فقراءُ المهاجرين) الترمذي من حديث “جابر” و”أنس”…(5)
وينظر الإسلام ينظر الفقر على أنه ابتلاء من الله – عز وجل – لعبده المؤمن قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالجُوْعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَـٰـبـِرِيْنَ) سورة “البقرة” آية “155” وقال تعالى في سورة “آل عمران” آية “186” (لَتُبْلَوُنَّ فِيْ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ويُثاب العبدُ الصابر على الابتلاء بالضرّاء كما يُثاب العبدُ الشاكر على الابتلاء بالسرّاء ففي الحديث الشريف (عجبًا للمؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابتْه سرّاء شَكَرَ فكان خيرًا له وان أصابتْه ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له) رواه “مسلم”…(6)
ولابدّ أن يختبر المولى – عز وجل – عبادَه؛ فيبتعليهم بالمصائب تارةً وبالنِعَم تارةً أخرى بالشر تارةً وبالخير تارةً أخرى يبتليهم بالشدة أو الرخاء بالصحة أو السقم بالغنىٰ أو الفقر وبالحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلال فالفتنة والابتلاء كما تكون بالشدة والحرمان تكون بالرخاء والعطاء كما في قوله (وَنَبْلُوْكُمْ بِالشَرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) سورة “الأنبياء” آية “35” فينظر مَن يشكُر ومَن يكفر ومن يصبر ومن يَقْنط؛ ليجزى كلَّ عبد بأعماله، ويظلّ العبدُ يُبتلىٰ حتى يُكَفَّر عن سيئاته ويلقىٰ الله وما عليه خطيئة كما قال – عليه الصلاة والسلام – (وما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقىٰ الله وما عليه من خطيئة) ويُبتلىٰ المؤمن على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء وأشد الناس بلاءً الأنبياءُ فالفقر إذن ابتلاء…(7).
كما ينظر الإسلام إلى الفقر على أنه كعقاب نتيجة للكفر أو الشرك أو المعصية والعياذ بالله منهم، قال تعالى في سورة “النحل” آية “112” (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَّأْتِيْهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوْعِ والخَوْفِ بِمَا كَانُوْ يَصْنَعُوْنَ) والمقصودُ بالقرية في الآية السابقة “مكةُ المكرمةُ” وضرب مكة مثلاً لغيرها من البلاد أي أنها مع جوار بيت الله وعمارةِ مسجده لَمَّا كفر أهلُها أصابَهم القحطُ فيكف بغيرها من القرى وقد قيل أنها “المدينة” وقيل أنها مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى…(8)
وقال تعالى في سورة “النساء” آية “160” (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِيْنَ هَادُوْا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) فبسبب ما ارتكبه اليهود من منكرات عديدة حُرِّمتْ عليهم طيبات كانتْ حلالاً لهم، قال تعالى في سورة “إبراهيم” آية “32-34” (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـٰـوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَـٰـرَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) فهذه الآية الكريمة تقرّر بكل وضوح أن الله تعالى قد أوجد للإنسان في هذا الكون الفسيح كلَّ مصالحه ومنافعه ووفّر له المواردَ الكافية لإمداده بأسباب حياته وحاجاته المادية؛ ولكن الإنسان هو الذي يضيع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له، بظلمه وكفرانه بالنعم الإلهية، وهما السببان الأساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان…(9) ورحم الله المفكّر الإسلامي “مالك بن نبي” قائلاً: التخلّف الذي يعاني منه الشرق لا يتحمّل الإسلامُ وزرَه فهذا التخلّف يُعَدُّ عقوبةً مستحقةً من الإسلام على المسلمين لتخلّيهم عنه لا لتمسّكهم به كما يزعمون وصدق الله العظيم (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمىٰ) سورة “طه” آية “124”…(10) وقد كان الجدبُ والقحط ونقص الثمرات عقابًا دنيويًا لآل فرعون لظلمهم وطغيانهم، قال تعالى في سورة “الأعراف” آية “130” (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِيْنَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُوْنَ)…(11) وقال تعالى في سورة “الروم” آية “41” (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْ النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الَّذِيْ عُمِلُوا لعلَّهم يَرْجِعُوْنَ) أي إن انقطاعَ المطر ووقوع الجدب والقحط ومَحْقَ البركات ونقص الثمار والزروع بسبب ما ارتكبوا من معاصي؛ ليذيقوا وبالَ بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يُعاقَبوا بها جميعًا في الآخرة وكما قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِّنْ مُصِيْبَةٍ فِبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْكُمْ) سورة “الشورى” آية “30” وعن “الحسن” أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقُكم؛ ولكنَّكم تحرمونه بخطاياكم…(12) وعن “ثوبان” قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (إن العبد ليُحْرَم الرزق بالذنب يصيبه ولا يردّ القدرَ إلا الدعاءُ ولا يزيد في العمر إلا البرُّ)…(13) وعن “ابن عباس” – رضي الله عنه – قال: ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعبَ ولا فشا الزنا في قوم إلا كثُر فيهم الموت ولا نقص قوم الميكالَ والميزان إلا قطع الله عنهم الرزقَ ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا ختر قوم بالعهد إلاّ سلّط الله عليهم العدوَّ. رواه “مالك” موقوفًا والطبراني مرفوعًا…(14) وعن “عبد الله بن عمر” قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتُليْتُم بهن وأعوذ بالله إن تدركوهن لم تظهر الفاحشةُ في قوم قطّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعونُ والأوجاع التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا الميكالَ والميزانَ إلا أُخِذُوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعُوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلاّ سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا ببعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
ولكنّنا قد نرى أعداء الله وأعداء الحق متروكين لا يأخذهم العذاب كما أخبرتْنا الآياتُ والأحاديثُ السابقة؛ بل وقد نراهم متمتعين في ظاهر الأمر بالقوة والسلطة والمال والجاه ما يُوقع الفتنةَ في قلوب الناس ومما يجعل ضِعاف الإيمان يظنّون بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية يحسبون أن الله (حاشاه) يرضىٰ عن الباطل والشر والجحود والطغيان فيملي له ويُرخي له العنان أو يحسبون أن الله لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل فيدع للباطل أن يحطّم الحق ولا يتدخل لنصرته أو يحسبون أن هذا الباطل حقٌّ وإلا فلِم تركه الله ينمو يكبر ويغلب؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر، وهذا كله وهمٌ باطل وظنٌّ بالله غير الحق والأمر ليس كذلك، والله سبحانه وتعالى يحذر من هذا الظن وأنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم ولا معاصيهم وذنوبهم وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون؛ فإنما هي الفتنة وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد حيث تزداد معاصيهم وينمو طغيانُهم وتكبّرهم ثم ينتظرهم العذابُ المهين كما قال تعالى في سورة “آل عمران” آية “178” (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) وقال تعالى (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ سورة “آل عمران” آية “196-197” وقوله تعالى (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيْلاً ثـُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلىٰ عَذَابٍ غَلِيْظٍ) سورة “لقمان” آية “24” وقوله تعالى (أيَحْسَبُوْنَ أنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالْ وَّ بَنِيْنَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِيْ الخَيْرَاتِ بَلْ لاَ يَشْعُرُوْنَ) سورة “المؤمنون” آية “55-56” وقوله تعالى (وَلاَ يُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُّعَذِّبَهُمْ بِهَا فِيْ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسْهُمْ وَهُمْ كَافِرُوْنَ) سورة “التوبة” آية “85”…(15) وروى “عقبة بن عامر” أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال (إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشأون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم)…(16) استدراج كقوله تعالى (فَذَرْنِيْ وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيْثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثَ لاَ يَعْلَمُوْنَ) سورة “القلم” آية “44”.
كما ينظر الإسلام إلى الفقر على أنه إرادة إلهية لمصلحة عباده، قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِيْ الأَرْضِ وَلـٰـكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدْرِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيْرٌ بَّصِيْرٌ) سورة “الشورى” آية “27” أي لو أعطاهم وفق حاجاتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا قال قتاده كان يقال: خيرُ العيش مالا يُلْهيك ولا يطغيك، وأنه عزوجل يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لايصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه)…(17) وقيل إن هذه الآية نزلتْ في قوم من أهل الصفة تمنوا سعةَ الرزق وقال “خباب بن الأرت”: فينا نزلت نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلتْ الآية ومعناها لو وُسِّع عليهم في الرزق لطغوا وعصوا. قال “ابن عباس” بغيهم طلبهم منزلةً بعد منزلةً ودابةً بعد دابةً ومركبًا بعد مركبًا وملبسًا بعد ملبس. وقيل أراد لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه لقوله – عليه الصلاة والسلام – (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثًا) وهذا هو البغي وهو معنى قول “ابن عباس”. وقيل لو جعلناهم سواء في المال لما انقاد بعضهم لبعض ولتعطلت الصنائع. وقيل أراد بالرزق المطر أي لو أدام المطر لتشاغلوا به عن الدعاء فيقبض تارةً ليتضرّعوا ويبسط تارةً ليشكروا. وقيل كانوا إذا أخصبوا أغار بعضهم على بعض فلا يبعد حمل البغي على هذا…(18).
وقرّرتْ آياتٌ أخرى في القرآن الكريم ارتباط أو اقتران الطغيان بالاستغناء كما في قوله تعالى (كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) سورة “العلق” آية “6-7” ويقصّ علينا القرآن في سور عديدة من أنباء الأمم التي خَلَتْ ما يؤكِّد هذه الحقيقة ويفيد الإطلاق في هذا الحكم الذي يجعل الاستغناء سببًا للطغيان، والمستغنون الذين دفعهم الاستغناء إلى حياة الترف كانوا طلائعَ الجحود وأئمةَ الكفر؛ ولذلك وجدناهم قاده المقاومة للدعوات الدينية والمحاولات التي قادها الرسل والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام –، ففي مواجهه نبي الله “شعيب” – عليه السلام – وقف المترفون ينكرون التوحيد ويتمسَّكون بعبادة ما كان آباؤهم يعبدون ويتمسكون بحريتهم المطلقة في التصرّف المطلق بما جمعوا من أموال. قال تعالى في سورة “هود” آية “87” (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلـٰـوتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وقال تعالى في سورة “سبأ” آية “34-35” (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) …(19) ومثالٌ أخر من السيرة يبيّن طغيانَ المال وأثـَره في تغيّر النفس البشرية، روى عن “ابن أمامة الباهلي” أن “ثعلبة بن حاطب” قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال (يا ثعلبه قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه) قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال (يا ثعلبة املك في أسوه أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى؟ والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبًا وفضةً لسارتْ) قال والذي بعثك بالحق نبيًا لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقَّه ولأفعلن ولأفعلن… قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم ارزق “ثعلبة” مالاً) فأتخذ غنمًا فنمَتْ كما ينموا الدود فضاقت عليه المدينة فتنحّىٰ عنها فنزل واديًا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما ثم نمت وكثُرت فتنحّىٰ حتى ترك الجماعة إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو الدود، وطفق يلقىٰ الركبان يوم الجعمة فيسألهم عن الأخبار في المدينة وسأل رسول الله – عليه الصلاة والسلام – عنه فقال (ما فعل “ثعلبة بن حاطب”؟) فقيل يا رسول الله اتخذ غنمًا فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال (يا ويح “ثعلبة” يا ويح “ثعلبة” يا ويح “ثعلبة”) وقال وأنزل الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) سورة “التوبة” آية “103” وأنزل الله فرائضَ الصدقة؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم على الصدقة وكتب لهم بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين، وقال (مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان رجل من بني سليم خذا صدقاتهما) فخرجا حتى أتيا “ثعلبة” فسألاه الصدقة وأقرءَاْهُ كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا جزية، ما هذه، إلا أخت الجزية! انطلقا حتى تفرّغا ثم تعودا إلى فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا: لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك قال: بلىٰ خذوها، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرّا بثعلبه فسألاه الصدقة فقال: أروني كتابكم فنظر فيه فقال: هذه أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي – عليه الصلاة والسلام – فلما رآهما قال (يا ويح ثعلبة) قبل إن يكلماه ودعا للسليمي بأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله في ثعلبة (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَـٰـنَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصـٰـلِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) سورة “التوبة” الآيات “75-77” وعند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه فخرج حتى أتي ثعلبة فقال: لا أم لك يا “ثعلبة” قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتي النبي – عليه الصلاة والسلام – فسأله أن يقبل منه صدقتَه فقال (إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك) فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (هذا عملك أمرتك فلم تطعيني) فلما أبىٰ أن يقبل منه شيئًا رجع إلى منزله فلمّا قُبِضَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جاء بها إلى “أبي بكر الصديق” – رضي الله عنه – فأبىٰ أن يقبلها منه، وجاء بها إلى “عمر بن الخطاب” – رضي الله عنه – فأبىٰ أن يقبلها وتُوُفِّي ثعلبة في خلافة “عثمان” فهذا هو حال ثعلبة قبل أن يغنيه الله من فضله وبعده فأيهما أصلح لدينه؟ حقًا أنه ينطبق عليه الحديث (إن من عبادي لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه) فعندما أغناه الله من فضله تخلّف عن صلاة الجماعة ثم تخلّف عن صلاة الجمعة ثم بخل عن إعطاءه زكاة المال حتى وصل به الحال إلى ما وصل عليه…(20)
كما أن الله – تبارك وتعالى – عندما يفقر من يفقره ويغني من يغنيه، يصنع الحكمة أخرى من وراء ذلك؛ ولكنها لمصلحة الجماعة ككل؛ حيث تصلح بها أحوالُ الدنيا وتعمر بها الكون وهي حكمة إيجاد تفاوت في أرزاق الناس، ناتج عن اختلاف قدراتهم ومواهبهم وإمكانياتهم العقلية والجسمية والذي يؤدي بدوره إلى تسخير هذا لذاك وتسخير ذاك لهذا وتعاونهم معًا وبالتالي تأخذ الحياة دورتها قال تعالى (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰـتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) سورة “الزخرف” آية “32” فطبيعة الحياة البشرية قائمة على التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يودّيه كل فرد من عمل والتفاوت فيما مدى إتقان هذا العمل. وهذا التفاوت ضروري لتنوّع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض فلو لم نكن متفاوتِيْن متفاضِلِين أرزاقًا وأقدارًا ومختلفين خبرةً وتخصّصًا لما قام مجتمع ولا استقامت حياة ولو كان الناس نُسَخًا مكرّرةً ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة ولبقيت أعمال كثيرة جدًا لا تجد لها مقابلاً من الكفايات ولا تجد من يقوم بها والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتةً تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها وعن هذا التفاوت في الأدوار تتفاوت الأرزاق…(21) وهذا التفاوت بغية التعاون بين أفراد المجتمع وأن يكون الكل خلايا في نسيج كامل متكامل لا للتغابن والتشتت، وللتراحم لا للتظالم بين سادتهم ومسوديهم بين فقرائهم وأغينائهم بين حكامهم ومحكوميهم، فلا يتخذ السادة من قيام هذا التفاوت ذريعة إلى إعنات المسودين ولا يتخذ الحكام منه ذريعة لهضم المحكومين…(22) ولا يتخذه الأغنياء ركيزة ليزدادوا غنى على حساب زيادة فقر الفقراء فالأغنياء إذا لم يؤدوا حق الله في أموالهم يكونون سببًا في فقر الفقراء. أو كما قال “علي بن أبي طالب”: إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم فان جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذِّبهم عليه…(23) أو كما قال “كرم الله وجهه”: ما جاع فقير إلا بما منعه غني. وقال: ما رأيت نعمةً موفورة إلا إلى جانبها حق مضيع. كما أن الله – سبحانه وتعالى – حينما يمسك الرزق على أحد لابتلائه إنما يتم بتقصير الآخرين في أداء حق المال الذي فُرِضَ عليهم. وهذا معنى قوله تعالى في سورة “الفجر” آية “15-20” (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَـٰـضُّوْنَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) أي إن الإكرام والإنعام من الله ابتلاء للعبد بمعنى أنه وكّله على المال وجعله مستخلفًا فيه ليبتليه بينما التضيّق في الرزق على الأخر وإن كان بإرادة الله لابتلائه إلا أنه في الحقيقة ناتج من تقصير الذين استخلفهم الله على المال في أداء الحق المعلوم للسائل والمحروم، فنفي أن يكون ذلك الشر منسوبًا لله؛ حيث قال (كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُوْنَ اليَتِيْمَ)؛ فجعل سلوك الأغنياء والمستخلفين على المال المخالِف لتشريع الله المالي السببَ في فقر الفقراء وجوع الجائعين…(24)
ولكي يدخل كلامنا هذا مجال التطبيق العملي الواقعي سوف نقارن بين مستوى الدخل السنوي والمستوى المعيشي في الدول النامية والدول المتقدمة لنرى الهوة الشاسعة بينهما ففي تقرير للبنك الدولي صدر في “واشنطن” يوم 16 يوليو عام 1990م أشار إلى أن 1,1 مليار نسمة يعيشون تحت حزام الفقر الذي حدّده التقرير بمتوسط دخل سنوي للفرد(370) دولار وهم يمثِّلون ربعَ سكّان العالم وأكثر من 33٪ من سكان العالم النامي، وأشار التقرير إلى أن (630) مليون نسمة يصل متوسط دخل الفرد السنوي منهم إلى أقل من (270) دولار ويمثّلون 18٪ من إجماليّ سكان العالم…(25) ومتوسط الدخل هذا لايمنع من وجود أعداد غفيرة من البشر لا تحصل عليه بدليل حدوث مجاعات تقضي على حياة الملايين، فعلى الرغم من أن إنتاج الغذاء في العالم يزيد بمقدار 10٪ عن حاجات السكان كلهم إلا أن هناك حوالي 20 مليون شخص يموتون سنويًا من الجوع كما تشير منظّمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” وأن 14 مليون من هؤلاء الضحايا من الأطفال بمعدل 40 ألف طفل يوميًا أي طفل كل ثانيتين وهو ما يتجاوز مجمع الضحايا إذا ألقيت كل 3 أيام قنبلة ذرية في حجم قنبلة هيروشيما على منطقه مزدحمة بالسكان…(26) وقد حذّر تقرير للأمم المتحدة من التزايد الضخم في مخزون الحرمان البشري في العالم وقال التقرير: إن هناك ألف مليون إنسان يعيشون في فقر مُدْقِع وبدون مياه شرب نظيفة و 900 مليون نسمة يعانون من الأمية كما أشار التقرير إلى أن هناك 100 مليون إنسان من المشرَّدين و 150 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون سوء التغذية …(27) وقد وصل الجوع ببعض سكّان أفريقيا إلى درجة الوهن والضعف والعجز عن الحركة، وكانت رسالتهم إلى العالم إذا أردتم أن تكرمونا حقًا فاحضروا لنا قبورًا؛ لأننا لا نقوى على حفرها…(28) وعلى الجانب الأخر جاء في التقرير الإحصائي للبنك الدولي لعام 1989-1990 أن متوسط الدخل السنوي للفرد في الدول النامية بلغ عام 1988 ما يساوي متوَسط دخل الفرد في الدول الصناعية في أسبوعَين أو أكثر قليلاً…(29) أي إن متوسط الدخل السنوي للفرد في الدول المتقدّمة يعادل متوسط الدخل السنوي لـ24 فردًا من الدول النامية، والولايات المتحدة تَعتبر أن الشخص الذي تجاوزت ثروته مليونًا ونصف المليون دولار في عداد المليونيرات ووفق هذا التصنيف؛ فإنه يُوجد في الولايات المتحدة مليونير من بين كل 250 شخص أمريكي أي أنه يُوجد بالولايات المتحدة عدده مئات من الألوف من السكان، ثروة الواحد منهم مليون ونصف المليون من الدولارات، كما يوجد في الولايات المتحدة اليوم أكثر من 70 ألف أمريكي تقدّر ثروةُ الواحد منهم بأكثر من 10 ملايين دولار. كما يوجد 20 ألف مليونير في ألمانيا الغربية تزيد ثروة كل واحد منهم عن 20 مليون مارك. وفي بريطانيا 18 ألف مليونير تزيد ثروة الواحد منهم على 20 مليون جنية إسترليني. وتتفوق اليابان وألمانيا الغربية وكندا على بريطانيا في عدد المليونيرات كمًّا وعددًا…(30) كما تبلغ ثروةُ أحد أثرياء العالم ما يفوق ميزانية دوله بأكملها وأن الأثرياء السبعة في العالم تبلغ ثرواتهم 85,6 بليون دولار وهو رقم يفوق ميزانية عدّة دول مجتمعة…(31) وهم الياباني “يوشيكي تسوتسومي” تقدّر ثروته بـ 16 بليون دولار وهو أغنى رجل في العالم يليه “يكيتشيروموري الياباني” ثروته 15 بليون دولار يليه، عائلة “سام والتون” بأمريكا ثروتها 13 بليون دولار ثم عائلة “بونت” بأمريكا ثروتها 10,7 بليون دولار ثم “هانس وفاد روزينغ” بالسويد ثروته 10,6 بليون دولار ثم “كيتارو واتيان” باليابان وثروته 10,2 بليون دولار ثم “بول والبرت ورالف ريتشمان” بكندا وثروته 10,1 بليون دولار…(31) أما أغنى سيدات العالم الملكة “أليزابيث” الثانية وتقدّر ثروتُها بـ6,6 مليارات جنية إسترليني “13,2 مليار دولار تقريبًا” تليها “جوهانا كواندت” وثروتها مليارين و 600 مليون جنية إسترليني ثم “إيمليدا ماركوس” ثروتها 1,5 مليار جنية إسترليني ثم “كوكس تشامبرز” ثروتها 1,4 مليار ثم “باربرا كوكس أنتوني” 1,4 مليار ثم “ليليان تينكورت” 1,3 مليار ثم “جاكلين مارس فوغل” 1,2 مليار ثم “أليس والتون” مليار واحد ثم “هايدي هورتون” 950 مليون ثم “غريث شيكداتر” 900 مليون…(32)
هذا لنقارن بين مَن دَخْلُه أقلّ من 300 دولار في العام أو قد لا يجد ما يقيم به حياته وبين مَنْ دَخْلُه 16 بليون دولار؛ ليتأكد لنا صدقُ “علي بن أبي طالب” عندما قال: ما رأيت نعمة موفورة إلا إلى جانبها حق مضيع أو كما قال: ما جاع فقير إلا بما منعه غني، وسنرى خلال بحثنا هذا كم من ملايين تنفق هباءً منثورًا هذا على مستوى الأفراد أما على مستوى الدول فبينما تزخر البلدان المتقدّمة بنحو 70٪ من ثروات العالم وعدد سكانها لا يتجاوز ربع سكان العالم نجد أن باقي الثروة العالمية يتقاسمه ثلاث أرباع سكان المعمورة…(33)
كما أن نصيب سكان الدول النامية من الدخل العالمي 6,5٪ مع أنهم يمثّلون ما يقرب من ثلاثة أرباع سكان العالم كما أن العالم الثالث لايحصل من الإنتاج الصناعي العالمي إلا على ما يقارب 7٪ على الرغم أنه يملك 80٪ من الموادّ الأولية. إن كمية الأسمدة المستخدمة في مروج الولايات المتحدة وملاعب الجولف فيها ومساحة مقابرها تعادل ما تستخدمه الهند لإنتاج الغذاء. تستهلك أجهزه التكيّف في “الولايات المتحدة” من الكهرباء ما يزيد على مجموع استهلاك جمهورية الصين على الرغم من أن سكّان الأخيرة يزيدون على المليار نسمة. تستهلك “السويد” من الكهرباء أكثر من الهند مع أن عدد سكان “السويد” لا يزيد عن أحد عشر مليونًا…(34) إذن فهناك فئة تنعم بالإسراف في كل ما لذّ وطاب من صنوف الأطعمة والأشربة وغيرها من مُتَع الحياة وقد تموت بالتخمة من فعل الشَبْع الزائد وتتورَّم حتى قِططها بكثرة ما التهمت مما ألقى إليها وفاضت بها براميلُ المخلَّفَات والقُمَامةُ من طعام دسم وهي السبب في وجود فئة أخرى، كان الله في عونها تموت جوعًا؛ لأنها لا تجد ما تسدّ به الرمق وتتساقط هياكلها العظيمة أو جلودها اللاصقة بالعظم من فعل الإعياء والجوع لتلقى حتفها المحتوم.
* * *
المراجع :
“حديث الثلاثاء” للأمام حسن البنا سَجَّلَها وأعدّها للنشر “أحمد عيس عاشور” ص: 411.
“مشكلةُ الفقر وكيف عالجها الإسلام” “يوسف القرضاوي” ص:134.
“إحياء علوم الدين” الإمام “أبي حامد الغزالي” ج4 ص182.
“مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام” “يوسف القرضاوي” ص:134.
“إحياء علوم الدين” للإمام “أبي حامد الغزالي” ج4 من ص:180 إلى 185.
“في ظلال القرآن” “سيد قطب” ج2 ص: 1090.
“تفسير القرآن العظيم” “لابن كثير” ج3 ص:178.
“الجامع لأحكام القرآن” “لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي” ج10 ص:194.
“التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي” “عبد الحق الشكيري” ص:49.
“الحرمان والتخلّف في ديار المسلمين” “نبيل صبحي الطويل” ص:71.
“في ظلال القرآن” “سيد قطب” ج3 ص:3356.
“الجامع لأحكام القرآن” “لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي” ج17 ص:41.
“تفسير القرآن العظيم” “لابن كثير” ج4 ص: 380.
“مختصر الترغيب والترغيب انتقاء” “الحافظ ابن حجر العسقلاني” ص: 154.
“في ظلال القرآن” “سيد قطب” ج1 ص:524.
“الجامع لأحكام القرآن” “لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي” ج6 ص:426.
“تفسير القرآن العظيم” “لابن كثير” ج4 ص: 115.
“الجامع لأحكام القرآن” “لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي” ج16 ص: 27.
“الإسلام والمستقبل” “محمد عمارة” ص: 118-119.
“إحياء علوم الدين” “الإمام أبي حامد الغزالي” ج3 ص:254.
“في ظلال القرآن” “سيد قطب” ص: 3186-3178.
“دين ودوله” “أحمد محمد جمال” ص: 340.
“مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام” “يوسف القرضاوي” ص: 116-117.
“القضاء والقدر في الإسلام” “فاروق دسوقي” ج1 ص:428.
مجلة “اليسار” العدد السادس أغسطس عام 1990م الموافق محرم 1411هـ .
جريدة “الأهرام” الاثنين 28/5/1990م الموافق 4/ذوالقعدة عام 1410هـ .
“الأهرام” 25/5/1990م .
مجلة “رسالة الجهاد” العدد 88 مايو عام 1990م.
“الأهرام” 29/4/1990م .
“الأهرام” 10/5/1990م .
جريدة “الحياة” العدد 10026 الأربعاء 11/7/1990م الموافق 19/ذي الحجة عام 1410هـ .
مجلة “العالم” العدد 366، 16/2/1991م الموافق 1/شعبان 1411هـ .
مجلة “الحوادث” العدد 1749، 11/5/1990م ص:37.
مجلة “رسالة الجهاد” العدد 90، يوليو عام 1990م.
* * *
* *
*
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34