الفكرالإسلامي
بقلم : د . رشيد كهوس أبو اليسر
جامعة محمد الأول المغرب الأقصى
8– الوسطية:
إن الوسطية في كل شيء من أهم ما تميز به الإسلام عن غيره من الشرائع السابقة والقوانين الوضعية، ويقصد بها الاستقامة وعدم الحيدان، كما يقصد بها التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، أو التوسط بينهما؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ويحيف عليه، ولا يأخذ أحدهما الحق أكثر من الآخر ولا ينفرد بالتأثير ويطرد الطرف المقابل.
وفي قوله تبارك وتعالى:﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾(60)، نلمح إشارةً قويةً إلى الوسطية، فلا وكس ولا شطط، ولا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، في السنن القرآنية.
وهذا الضابط- الوسطية – صان قانون الله وناموسه “من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك.. هذه الآفات التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية، بما أضافته إليها، أو نقصته منها، أوَّلته تأويلاً خاطئاً، وأضافت هذا التأويل الخاطئ صلب العقيدة”(61).
فالوسطية من مميزات هذه الأمة؛ وتتجلى هذه الوسطية في كل شيء؛ فمثلاً ذم الله البخل لكنه ذم كذلك الإسراف، وجعل الإنفاق في سبيل الله هو المطلوب شرعاً. قال الحق جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾(62).
وكل نهج خالف ضابط الوسطية دين الله برئ منه ، ولئن أشرك كفار قريش مع الله وجعلوا له أندادًا وأنكروا الإله الواحد، فقد غالت أيضًا اليهود فقالت: عزير ابن الله، وغالت النصارى فقالوا: الله ثالث ثلاثة وقالوا: المسيح ابن الله – تعالى الله وتقدس عما يقولوا المفترون المضلون علوًا كبيرًا-.
وجاءت شريعة الإسلام بالحنفية السمحة، والوسطية والاعتدال، وبالقول الفصل الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
كيف لا تنضبط السنن بضابط الوسطية، وهي مستمدة من كلام الله تعالى، على عكس ما نراه في أي نظام يصنعه البشر الذي لا يخلو من التفريط أو الإفراط؛ ذلك أن من المعضلات التي لم تنجح القوانين الوضعية في حلها التطرف في التشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار، وبعض آخر يجنح إلى أقصى اليمين، غرضها تحقيق مصالح الفئة الحاكمة، أو الملذات الدنيوية الزائلة، أو الاستجابة للمطامح المادية الفانية. وقلما يوفق واضعو القوانين البشرية إلى التوسط والاعتدال في قوانينهم، ذلك أن الوسطية ليست بالأمر الميسور الهين.
لكن السنن الإلهية الربانية المصدر سلكت طريقاً وسطاً من غير تفريط ولا إفراط؛ فلا هي تضيق الخناق على الناس حتى تملها نفوسهم وتنفر منها قلوبهم. ولا هي أرخت لهم العنان في السهولة حتى تغرق النفوس في أوحال شهواتها وبراثين ملذاتها، وتبلغ منتهى هواها ومآربها.
هكذا انضبطت سنن الله بضابط الوسطية؛ بالاعتدال والتوسط دون إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وصدق الله جل وعلا القائل في كتابه الحكيم:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(63).
9- الأجل(64):
قال الحق عز سلطانه: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾(65)؛ أي: لكل كتاب أجل قُدِّم الخبر هنا، ولو أخر لتوهم للسامع أنه صفة، ولهذا فإن الله تبارك وتعالى قيد كل شيء في هذا الوجود “بقدر معلوم إلى أجل معلوم. والأجل يختلف باختلاف الأشياء، والسبب الذي أجلت له. لكن لا ينفك عن الزمن والأجل، ومن هنا كان عامل الزمن ضابطاً من ضوابط السنن الإلهية”(66).
وعليه؛ فنلمح مما سبق أن أجل كل شيء يختلف عن الآخر؛ فمنه ما يعد بالشهور نحو قوله جل وعلا: ﴿وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾(67)، ومنه ما يقاس بالعمر كما جاء في قوله تعالى وتقدس: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً﴾(68)، وقوله عز من قائل: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(69)، وقوله جل ذكره:﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾(70)، ومنها ما يدوم بدوام الدنيا كقوله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾(71).
ولولا انضباط سنن الله بهذا الضابط للحق بالكافرين العذاب في أول وهلة، قال الحق عز وجل: ﴿وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(72)، وقال الله جل ثناؤه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾(73).
هكذا ترتبط سنن الله بالأجل؛ فلكل شيء أجل، فإذ جاء أجله فلا يتقدم ولا يتأخر: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(74).
10- مبدأ استمرارية الحياة:
إن حكمة الله تعالى في الزواج أن جعله وسيلةً ليستمر النوع البشري ولا ينقطع النسل، لتستمر الحياة إلى أجلها. ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(75).
ألهم الله تبارك وتعالى مخلوقاته سبل التناكح وحبب إليهم ذلك وزينه لهم،وجاءت الشريعة لتنظم تلك الغرائز والطاقة الكامنة في الإنسان ؛ إذ لا يسعى الإسلام إلى كبتها أو مشاكستها أو إبادتها أو وأدها، وإنما يسعى إلى تصريفها بطريق منظم لا تنتج عنه مخاطر ومفاسد على المجتمع؛ ويسر الطريق إلى ذلك ببناء الأسرة على دعائم شرعية متينة، وبذلك تتم استمرارية الحياة وفق توازن وفي ثبات كما أراد خالقها تبارك وتعالى. وبهذا حفظت السنن الإلهية العنصر البشري من الانقراض، وما المخلوقات الأخرى إلا أمم أمثالنا.
وجعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، كما جعل فيها مؤمنين ليتوازن صراع الحق والباطل ولهذا حذرنا القرآن ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(76). وبهذا حفظت السنن الإلهية مقومات بقاء الجنس البشري.
إن من سنن الله في خلقه سنة صراع الحق والباطل والخير والشر والنور والظلام، هذا الصراع الذي بدأت فصوله مع بداية وجود الإنسان على الأرض، وهو مستمر – ما دام هناك حق وباطل – إلى الأجل الذي قدر لهذا الإنسان فوق الأرض، هذا على عكس التحليل المادي للتاريخ الذي يحصر الصراع كله في الطبقية، ويحصر أسبابه في الملكية الفردية، ثم يزعم أن ذلك الصراع سينتهي حين تزول الملكية الفردية. وما ننتظر من الذين لا يعرفون سنة الله في خلقه، ولا يدركون لها معنى، ومن فكر وتحليل مقطوع الصلة بربه غير هذا التخمين!
وإن ما تموج به الحياة من تدافع وصراع وتنافس إلى أهداف شتى، من ورائه سنة الله المطردة التي تقود إلى تحقيق مبدأ استمرارية الحياة فيكون البقاء فيها للأصلح، وهنا نرد على التحليل المادي الجدلي للتاريخ الذي يعتبر الصراع هو الوضع الوحيد للإنسان زاعماً أن الصراع والتناقض من قوانين المادة، فهذا الصراع يحكم حياة الناس بحكم أن نشأة الإنسان مادية وهذا غير صحيح ولا يكون صحيحاً أبدًا؛ لأن الصراع أو التنازع أو التدافع -الذي جعله الله سنةً من السنن- في الحياة البشرية، يقود إلى غاية وإلى سنة إلهية وهي استمرارية الحياة البشرية على الوجه الصحيح.
وإن الله تبارك وتعالى لا يعجز عن إزالة الفساد من الأرض، بغير عباد يقومون لله تعالى بالقسط؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجاهدون في الله حق الجهاد، ويبذلون كل المساعي والجهود لتحقيق العدل في الأرض؛ لأنه يقول للشيء كن فيكون. ولو شاء الله لخلق البشر منذ البدء بحيث لا يعصون ولا يزيغون عن الطريق المستقيم، ولو شاء لجمع الناس على الهدى؛ ولكن مشيئة الله قد اقتضت أن يكون الإنسان حرا في نطاق معين، يختار لنفسه الخير أو الشر، الهدى أو الضلال، الاستقامة أو الغواية، ثم يتحمل تبعة اختياره ونتائجه. فترتب على هذه المشيئة ابتداء أن يكون في الناس محسنون ومسيئون.
ثم اقتضت مشيئته كذلك أن يجري قدره في الحياة البشرية من خلال أعمال الإنسان، فتـرتب على ذلك أن يتم دفع الفساد الذي يحدثه فريق من البشر من خلال عمل يقوم به فريق آخر من البشر، فيبتلى هؤلاء بهؤلاء بقدر من الله.
فقد يظهر الفساد في الأرض، ويتأله بعض الطغاة، ويتبع الناس الشهوات؛ لكن الله تبارك وتعالى ليحقق ذلك الاستمرار – ولا يتحقق إلا بالصلاح والخير لا بالفساد والشر- يقيض(77) لأولئك قوةً إيمانيةً وزمرة من المؤمنين تقف في وجههم وتجاهد في سبيل الله لإعزاز كلمة الله ونصرة دينه، وطرد الطواغيت من أرض الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، حتى يحقق الله لها النصر ويورثها الأرض، ويدمر ويمحق الطغاة والمفسدين، هكذا اقتضت سنة الله أن الله لا يورث أرضا حتى يهلك من سبقهم بعد أن يصيروا غير أهل لقيادة الناس وملك الأرض. مصداقاً لقول الحق جل وعلا:﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(78).
من أجل ذلك جعل الله تبارك وتعالى تدافع الحق والباطل سنةً من سننه لكي لا يسود الفساد في الأرض، إن قام به فريق من البشر، بل تقوم فئة أخرى من أهل الخير بمدافعته فلا يستقر.﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ(79)﴾(80).
وقد ينتفش الباطل فترةً من الزمن وفق (سنة الإملاء)، حتى يستجمع شروط فنائه ومحقه وتدميره – وهو يظن أنه حقق غلبةً وانتصارًا – فتحصده سنة الله على يد فئة من أهل الحق القائمين في وجه الظالمين والطغاة المفسدين، قال الحق جل وعلا: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(81)، وقال جل ذكره: ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾(82).
ولا ننسى كذلك أن فترة انتفاش الباطل هي في حقيقتها فترة ابتلاء للمؤمنين ليستحقوا النصر والتمكين، وفترة الإعداد والتحضير لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وفق سنة الله في النصر والتمكين، وسنته في نصر المستضعفين وقطع دابر الكافرين: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾(83)، ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾(84).
ولولا ذلك الصراع الذي جعله الله سنةً من سننه في خلقه لتعفنت الحياة ولفسدت الأرض وتأسنت وساد فيها الركود والعجز والخمول.
أما ما انبنى عليه الكون الفسيح، من التنظيم الدقيق، والتناسق العجيب، والتوازن الفريد بين مكوناته لدليل واضح على مبدأ استمرارية الحياة، وخاصة ذلك التنسيق الدقيق في المجموعة الشمسية؛ بحيث لو اختل عنصر واحد منها ما أمكن استمرار الحياة، ولو اقتربت الشمس من الأرض شيئًا قليلاً لاحترقت كل الكائنات الحية، ولو ابتعدت شيئًا قليلاً لهلكت كل الكائنات الحية من الصقيع.. ولو اقترب القمر من الأرض أكثر لارتفع المد حتى يغرق كل الأرض. ولو زاد الأكسجين لاشتعلت الكائنات ولو قل لم تجد كفايتها للحياة… كل ذلك التوازن الكائن، والتنسيق الدقيق، والانضباط التام في مكونات الكون، ليتحقق بذلك مبدأ استمرارية الحياة واطرادها إلى نهايتها المحدودة.
ألا يَكْفِ هذا للقول أن (مبدأ استمرارية الحياة) ضابط من ضوابط سنن الله، قال الحق جل ذكره: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(85)، وقال عز من قائل: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(86).
وعلى ضوء ما سبق يضحي “مبدأ استمرار الحياة” ضابطاً من ضوابط سنن الله وعاملاً من عواملها.
ومجمل القول في ضوابط سنن الله: أن تلك الضوابط لا تعطل المشيئة الإلهية، فسنة الله التي تحكم هذا الكون بما فيه هي قدر الله جل وعلا الذي أراد أن تنضبط بهذه الضوابط الربانية.
ولهذا فإن كل من حاول عزل تلك الضوابط وفصلها عن مصدرها وأصلها ضل الطريق، وغطى شمس الحقيقة بغربال الجهل.
هكذا نجد سنن الله في الحياة البشرية دقيقة تلك الدقة، منضبطة ذلك الانضباط، وهي تعمل مجتمعةً متناسقةً، فيكون حصيلتها في هذه الحياة ما هو كائن بقدر الله I ومشيئته الأزلية.
ومن ثم فإنه لابد من العمل بمقتضى سنن الله للوصول إلى النتائج المرغوبة والمقاصد المحددة المطلوبة. ومخالفة السنن ومصادمتها ومصارعتها لا يتأتى عنها إلا النتائج الوخيمة المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية المعطرة.
* * *
الهوامش :
(60) سورة الرحمن: 7-9.
(61) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص119.
(62) سورة الفرقان: 67.
(63) سورة البقرة: من الآية143.
(64) الأجل: المدة المضروبة للشيء. مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة: أجل، حرف الهمزة، ص65.
(65) سورة الرعد: من الآية38.
(66) التجديد في دراسة الحديث النبوي الشريف على نور السنن الإلهية، ص122.
(67) سورة الحج: من الآية 5.
(68) سورة آل عمران: من الآية 145.
(69) سورة المنافقون: 11.
(70) سورة الحجر: 5.
(71) سورة لقمان: 29.
(72) سورة العنكبوت: من الآية 53.
(73) سورة فاطر: 45.
(74) سورة نوح: من الآية 4.
(75) سورة الروم: 21.
(76) سورة البقرة : 217.
(77) للتدافع طريقان: الأول: أن يدفع أهل الإيمان والحق أهل الكفر والباطل، وذلك عن طريق الجهاد القتالي. والثاني: أن يتدافع أهل الباطل فيما بينهم؛ أي يسلط الله بعضهم على بعض بمقتضى سنة الله المطردة: ﴿وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا﴾ (الأنعام: 129).
(78) سورة الأنبياء: 105.
(79) وللإشارة فإن البقاء وحده لا يحمل معنى الأفضلية في جميع الأحوال حتى تجتمع معه عوامل أخرى أساسية ومهمة. وذلك إذا رجعنا إلى سنة الإملاء التي يملي بها الله للطغيان والكفر، والفساد والانحراف، فيبقى في الأرض فترة تطول أو تقصر.. لحكمة يريدها الله.
(80) سورة الرعد: من الآية 17.
(81) سورة آل عمران: 178.
(82) سورة الحج: 44.
(83) سورة البقرة: 214.
(84) سورة آل عمران: 140-142.
(85) سورة الحج: 65.
(86) سورة يس: 38-40.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر 2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34