الفكرالإسلامي
بقلم : محمد قطب عبد العال
يغلب التصوير الحسي على مشاهد الجنة في القرآن. وهذا التصوير يجعل المشهد المحسوس حيًّا متحركاً وبارزًا مشخصًا. وتتضافر مكونات المشهد في وحدة جمالية متنوعة بحيث تؤدي الدور المرسوم. وتوحي بالمعنى المستكن خلف المشهد فتخفق القلوب، وتتشوق الأرواح، وتسري في النفس الطمأنينة ويشيع سكون القلب.. وذلك كلما خطر على القلوب خاطرُ الجنة ومشاهدها البالغة الروعة.
ومشاهد الجنة بما تتضمنه من متع وجمال ولذة قد أعدت للذين آمنوا وعملوا الصالحات. ومن منطق التقابل لإدراك جمال النعمة، وعظمة الرضى الإلهي، ورحمته بالمؤمنين.. تأتي مشاهد النار حافلةً بالعذاب ناضحةً بالألم، دامغةً بمفردات التكوين الجمالي، حافلةً بصور شتى تنضح بالمتعة في أنساق مادية ولونية وحركية فتتجسد عالمًا كامل التكوين، حافلاً بالروعة والمتعة، والراحة، والرضى.. “وتتراءى عشرات من الأوضاع والأشكال والسمات، وتؤلف بذلك ملاحم فنية رائعة، تتملاها النفس، ويتابعها الخيال، ويستغرق فيها الحس، وتتراءى فيها الظلال، وتضيف إلى الثروة الأدبية الفنية صفحات مفردةً، لاشبيه لها ولا مثال”(1).
إنها مشاهد حية تقاس فيها الأبعاد بالمشاعر والوجدان، وتصور المشاهد متفاعلةً في النفوس، وقد خلعت عليها الطبيعة الحياة بأبعادها المتنوعة.
ويصبح النعيم في الجنة، وقد تمتعت به الأجسام وسعدت به الجوارح – دقيقًا في رسمه، عميقًا في تصويره، يحمل الظلال النفسية الرقيقة التي تتبَّدى على الملامح سكينةً، وجمالاً وحبورًا واطمئنانًا.
.. ولعل أهم ملامح التصوير في مشاهد الجنة، هو تجسيم ذلك النعيم تجسيمًا ماديًا ملموسًا.. كأنك تلمسه بأصابعك وتحسه بنفسك. ويتحول المشهد المادي إلى قطعة مصورة من الجمال؛ حيث يتجلى التناسق في مفردات المشهد من حيث التماثل أو التشابه أو التقابل أو التداعي كما يتجلى في جرس الألفاظ ليعطي الإيقاع المناسب لجو المشهد، كما يتجلى في اتساق المشهد كله بألفاظه ومعانيه وجرسه وإيقاعه مع السياق العام الذي يعرض فيه. ذلك أن مشاهد الجنة “مسوقة لأداء الغرض الديني، ذلك الغرض الأول للقرآن؛ ولكنها تتصل بالوجدان الديني عن طريق الوجدان الفني”(2).
… ولنقف أمام مشهد الجنة الذي ورد في سورة الواقعة، لنتدبر هذا التناسق الجميل في تكوينات المشهد الجمالية.
قال تعالى: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقـٰـبِلِيْنَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(3).
وهذا مشهد حسي من مشاهد النعيم التي يتمتع بها أهلُ الجنة؛ فهم يجلسون على أسرة مذهبة، ويضطجعون في استرخاء لذيذ شأن الإنسان المترف المنعم، يتواجهون في سرور وحبور لا ينظر أحدهم في ظهور أحد انطلاقاً من حسن العشرة وتهذيب الأخلاق .
ويطوف عليهم، يخدمونهم ويلبون حاجاتهم، أطفال صغار يتسمون بالنضارة والجمال، ومعهم الأقداح والأباريق والكؤوس وقد امتلأت بخمر لذيذة تتدفق من العيون، فيها لذة لمن يشرب، ولاتتصدع من شربها الرؤوس، ولا تغيب الحواس منها أو تتخدر العقول.. وهم في متعتهم تنضاف متع أخرى تشعر باللذة حين يمدون أيديهم فيتناولون ما يشتهون من فاكهة طازجة ناضجة، ولحم طير على أشهى ما يريدونه.
“قال ابن عباس: يخطر على قلب أحدهم لحم الطير، فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقليًا أو مشويًا”(4).
ويتألق النعيم الحسي حين يأتي الحديث عن نعيم النساء الذي وُعِدَ به أهل الجنة. فهن نساءٌ واسعات العيون، بالغات حدًّا فائقًا من الجمال والبهاء والصفاء وكأنهن في نقاء اللؤلؤ وصفائه. إنه لؤلؤ مكنون لا يتغير حسنه ولا يتبدل..
سألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال: “صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي”.
وهذا التشبيه الحسي يجمع بين طرفين حسيين يشع الجمال منهما..
* ولقد وردت هذه الصورة متكررةً في آيات آخرى.. مما يوحي بحرص القرآن على تكريس الصورة الحسية.. والتي تحمل معنىً خلقيًا عفيفًا في جوانب الصور الأخرى ..
قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُمْ قـٰـصِرَاتُ الطَّرْفِ عِيْن* كَأَنّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُوْنٌ﴾(5).
إن نساء الجنة يتمتعن بالعفة والحياء؛ فهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن؛ فلا يسرحن النظر هنا أوهناك، لما يتمتعن به من حياء يصون عليهن الكرامة، وهو حياء يحتوي النفس والسلوك معًا.. وهو ما يشعر بالحب للزوج والوفاء له. وهن مع هذا الحياء جميلات العيون يتصفن بالحسن والبهاء؛ فعفتهن عن ثقة بالنفس وعن تكامل في الجمال، وليس عن انتقاص في الشكل والهيئة.. كما أنّهن كاللؤلؤ المكنون في أصدافه. “لا تبتذله الأيدي ولا العيون. والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها”.
وقال تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوْتُ وَالْمَرْجَانُ﴾(6).
فالنساء في جمالهن وصفاء ألوانهن والوجوه المشربة بالحمرة كأنهن الياقوت في صفاء لونه، والمرجان في حمرته الدافئة .
“قال قتادة: كأنهن في صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلتَ في الياقوت سلكاً ثم نظرت إليه لرأيته من ورائه”.
ولعل الصورة التشبيهية التي وضحت المعنى المراد من الجمال والبهاء، قد عقدت صورةً حسيةً كاملة الأبعاد حتى أصبح الطرفان في الصورة واضحين في مجال التشبيه من حيث البهاء والصفاء”.
“إن تشبيهات القرآن الكريم أيًّا كان وجهها صور بيانية، تتضح منها الحقائق الظاهرة، والمعاني العاطفة، كأنها أمور محسوسة مرئية، فإذا كان التشبيه بأمر محسوس كانت الصورة البيانية كأنها مرئية واضحة”(7).
فكأننا نرى رأى العين النساءَ في الجنة، جمالاً وبهاءً وصفاءً كأنهن قطع من اللؤلؤ والياقوت. تشع وجوههن بالبهاء، ويشى لونهن باحمرار يتغلغل في بياض ناصع كالدر المكنون.. وتبدو المرأة كأنها قُدّت من اللؤلؤ الخالص. إنه تصوير يريك الجمال والبهاء مُجَسَّدَيْن في صورة متحركة تشبع القلب وتريح الحس وتُثِيرُ الوجدان..
* وتصوّر آيات أخرى في “الواقعة” نساء الجنة تصويرًا يعطي تكاملاً لأبعاد الصورة المرسومة للمرأة في الجنة.. فتبدو الصورة متناسقةً مع مشهد النعيم الذي يتمتع به الرجل.
قال تعالى: ﴿إنَّا أَنْشَأْنـٰـهُنَّ إنْشَاءً * فَجَعَلْنـٰـهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا﴾(8).
الصورة فيها تكوين جديد يعطي أبعادًا عميقةً تشرح البهاء والجمال في الآيات السابقة..
فلقد خلق الله نساء الجنة خلقًا جديدًا؛ فهن دائمًا عذارى، وهن دائمًا متحببات للأزواج، عاشقات لهم.
قال مجاهد: هن العاشقات لأزواجهن، المتحببات اللواتي يشتهين أزواجهن”. كما أنهن مستويات ومتماثلات في السن. فهن “على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارًا. فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وا وجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هناك وجع”(9).
.. إن مفردات الصورة تعطينا أبعاد المشهد في تكوين يحتوي عناصر المتعة والجمال.. وقد توخت الصورة البعد الحسي انطلاقًا من تقريب البعيد، وتجسيد المتخيل، وتجسيم المعنوي، وتأكيدًا على المعنى الديني العميق الذي يترقرق تحت الصورة.. وهو رضى الله عن عباده المؤمنين المتقين، وإغراءٌ بالتقوى لنيل هذا النعيم الممتع اللذيذ .
* ويتكرر المشهد في صور مماثلة تقريبًا.. ويتأكد الجمال من خلال السياق وعبر المفردات المحملة بظلال من المعاني المصاحبة في جدّة وتجدُّد.
* قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّـٰـتٍ وَنَعِيمٍ* فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقـٰـهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنـٰـهُمْ بِحُورٍ عِينٍ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنـٰـهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ* وَأَمْدَدْنـٰـهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ* وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾(10).
فالمتقون يتنعمون بالجنة نعيمًا مقيمًا، ويتلذذون بما أعطاهم الله من أصناف المأكل والمشرب. ويَمُنّ الله عليهم أن نجاهم من النار.
“يقول ابن كثير: وتلك نعمة مستقلة بذاتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة”(11).
وهم يجلسون في جنتهم على سُرر مذهبة مكللة بالياقوت مرصعة بالدر مع زوجات بيضاوات حسان، ومعهم الأبناء حتى تقر العيون وتهدأ النفوس.
وراحة النفس معنى صاحب أهل الجنة من المتقين، بما يضفي على النفس السكينة وبما يجعل طبيعة المشهد ساكنةً في جلال، مطمئنةً في رضى، تشع عنصرًا جماليًا نفسيًا يضاف إلى عناصر الحس الممتعة الأخرى.. فالنفس لاتتوزع ولا تنشطر ولا يشغلها شاغل..
قال ابن عباس، إن الله عز وجل ليرْفَع ذرية المؤمن معه إلى درجته في الجنة.. وإن لم يبلغها بعمله، لتقَرّبهم عينه).
“ويقول الزمخشري: فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور، بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أهلهم ونسلهم بهم”(12).
وهم يتعاطون في الجنة كؤوس الخمر يتجاذبونها في تلذذ وأنس وسرور، دون أن يقع بينهم ما يسيء، ولا يلحقهم أذى مما يحدث في خمر الدنيا .
“قال قتادة: نزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام الفارغ الذي لافائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش ووصفها بحسن منظرها، وطيب طعمها”.
ويخدمهم غلمان مخصصون لهم كأنهم اللؤلؤ جمالاً وصفاءً.. وهم في نهاية المشهد يتشامرون تلذذًا واعترافًا بالنعمة، متسائلين عن أحوال الدنيا وأعمالهم فيها؛ حيث كانوا خائفين من الله مشفقين من عذابه وهاهم قد مَنّ الله عليهم بالجنة ووقاهم عذاب جهنم .
ذلك أنهم “عاشوا على حذر من هذا اليوم، عاشوا في خشية من لقاء ربهم، عاشوا مشفقين من حسابه. عاشوا كذلك وهم في أهلهم، حيث الأمان الخادع؛ ولكنهم لم ينخدعوا، وحيث المشغلة الملهية، ولكنهم لم ينشغلوا”(13).
* ولعلنا نلاحظ في المشهد تنوعًا جديدًا في التعبير يصوّر حالة المؤمنين تصويرًا دقيقًا، ومن ثم وشت المفردات بذلك .
فالكأس يتنازعها أهل الجنة، وليس في الجنة تنازع وإنما هي المنادمة على الشراب زيادةً في الصفاء وتأكيدًا للمحبة؛ فالتبادل تلذّذ بالكأس المشتركة وهي تدور عليهم فردًا فردًا مع ما يصاحب الفعل من حركة ونظرة وحديث. وأصبحت الكأس قاسمًا للذة مشتركةً تبعث على السرور والرضى. وهي ليست واحدةً إنما متعددة تحوي شرابًا من نوع واحد.
(والكأس “لاَ لَغْوٌ فِيْهَا وَلاَتَأثِيْمٌ” وهو تعبير لطيف؛ فهذه الكأس لا لغو فيها. كأنما اللغو الذي يهذر به الشاربون من خمر الدنيا كامن في ذات الكأس التي بها يشربون. أما هذه الكأس الفردوسية فمبرأة من اللغو، مبرأة من الإثم أيضًا)(14).
.. كما أن مشهد السمر اللذيذ الممتع يعكس حالة الاسترخاء المحبب وحولهم كل ما يلذ ويشتهي .
“وبهذا المشهد تتم صورة المتاع؛ فهو متاع الحس، ومتاع الخاطر، ومتاع الضمير”.
* والمشهد استعراض لمفردات الصورة التي تناولت النعيم ومساحته وتنوع لذائذه .
ولعلنا نلاحظ مساحة المجال – المكان – وقد انفسح وتنوع. وغلب على المكان اللون، وأصبحت المساحة تشكلّ صورةً مرسومةً لتكوينات لونية حسية تشغل حيزًا في المساحة، وكل تشكيل يتنامى مع الآخر فيعطي للمجال التشكيل التصويري العام .
وأرضية اللوحة الكلية مترعة بجمال حسيٍّ متعدد الدرجات. فثمة بساط من الخضرة، وقد رصت على جوانبه أرائك تتحاور لونيًا مع لون المساحة.. فيبرز الذهب والياقوت في تألق لوني وبهاء مشع. وفي وسط المساحة تتبدى الفاكهة في طزاجتها ونضجها أنواعًا من اللون في درجاته المتنوعة، واتخذت نظامًا يعكس جمالاً في مجال الرؤية؛ حيث رصت في نظام بديع يكشف الجمال اللوني، ويغري بالاشتهاء.. ومن خلال هذه الطزاجة اللونية والحسية، تفوح الرائحة من الفاكهة والطعام؛ فتثير النفس وتنعش القلب، وتدغدغ الحس.
والكأس شغل حيزًا متحركاً يضوي بالنور ويمتليء بشراب له لون الخمر يتناسق ويتحاور مع بهاء الولدان وما يتبدى منهم من جمال .
والأفراد يضفون على سكون المجال وسكينته حركةً متوازنةً مع توزع مفردات المساحة وتنوعها.
إن اللون يتسيّد الوحدة التصويرية ويستدعي إثارة الحس البصري واستكناه الخيال لإدراك الصورة .
ولقد تكاملت الوحدة بتنويعات تشكيلية منسجمة .
** وثمة نمط مشهدي آخر يتناول صور النعيم فيفصلها تفصيلاً .
قال تعالى : ﴿إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقـٰـهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّـٰـهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزٰهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلـٰـلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عـٰـلِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقـٰـهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾(15).
الآيات الكريمة تشى بصور النعيم الحسية المفصلة. ولقد وصفت الأبرار بما يناسب النعيم الهادئ الرغيد.
فشرابهم في الجنة ممزوج بالكافور من عين تتفجر تفجيرًا، فيها الكثرة والوفرة. ولذة الشعور به تتضاعف وترقى. وهو نعيم يتلاءم مع عباد الله، الأبرار، الذين شفّت قلوبهم وأخلصت لله العبادة. وقد آنسهم الله وأكرمهم ولعل الإضافة المعنوية في عبارة (عباد الله) توحي بهذا المعنى. ومن ثم صورت الآيات هؤلاء في صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة عازمة على الوفاء. إنهم يلتزمون بدينهم شاعرين بثقل الواجب، يتصفون بشعور البر والعطف والخير، يخافون الله ويخشون يوم الحساب. ومن ثم أسرع السياق بوقايتهم من شر هذا اليوم وإنعامه عليهم بالجنة.
وكانت صورة الجنة بمفرداتها واشيةً بهذا الجزاء. وتمازجت الصورتان صورة المحتفى به، وأدوات الاحتفاء .
فهم يتمتعون بجو جميل لا هو بالبارد ولا هو بالحار، يستروحون جمال الظلال؛ فهم لايرون فيها شمسًا ولازمهريرًا، كما أن الظلال دانية، والثمار دانية.
قال ابن عباس: إذا همّ أن يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد .
وتضاف صورة جديدة لألوان المتعة واللذة التي ينعم بها الأبرار المتقون وهي أنهم يلبسون ثيابًا غايةً في الجمال والنعومة؛ حيث صنعت من الحرير ما رقَّ منه وما غلظ كما يتزينون بالأوساور الفضية.. وهذا النعيم كله إنما هو عطاء من الله. عطاء كريم من معطٍ كريم .
ومن الجدير ذكره أن الأساور قد تنوع وصفها في السياق القرآني فقد وردت في سورة الكهف ﴿يُحَلَّوْنَ فِيْهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾. وفي سورة فاطر ﴿يُحَلُّوْنَ فِيْهَا من مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَّلُؤْلُؤًا﴾.. (إنهم تارةً يلبسون الذهب فقط، وتارةً يلبسون الفضة، وتارةً يلبسون اللؤلؤ فقط على حسب ما يشتهون، ويمكن أن يجمع في يد أحدهم أسورة الذهب والفضة واللؤلؤ)(16).
وثمة تفصيل آخر يدور حول مفردة من مفردات الصورة؛ فهذه أواني الشراب الفضية صافية كالزجاج، متنوعة الأحجام في تناسق بديع، ثم هي تمتزج بالزنجبيل مرةً بالكافور مرةً أخرى. كما تملأ من عين عذبة جارية.. ولعل المناسيب الجمالية مقدرة بحيث يتحقق المتاع والجمال معًا. ومما يزيد جمال الأواني أن الساقين أطفال في سن الصباحة والوضاءة؛ كأنهن قطع من اللؤلؤ الفائق الجمال .
إن السياق يمد بأبصارنا فحيثما اتجه النظر فثمة نعيم عظيم وملك كبير، وتتمازج مفردات المشهد في إبراز هذا النعيم العظيم؛ فعباد الله يتنعمـون بمتاع الجنــة من شــراب، وظلال، وثياب وحُلى .
وصورة عباد الله وهم على أرائكهم صورة تبين هذا النعيم المقيم . فثمة استرخاء وتمدد، وراحة واسترواح وإحساس بالسعادة تشرق به الوجوه، فتلك الأشجار التي تلقي بظلالها تنويعًا لألوان المتاع، تتدانى بأغصانها المترعة بالثمر فتتدلى الثمار حتى تصبح عند أطراف الأصابع تلتقطها في شوق ولذة .
* وفي سورة محمد يتضح لنا بعد آخر من أبعاد الصورة .
قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهـٰـرٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهـٰـرٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهـٰـرٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهـٰـرٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾(17).
الآية الكريمة تعطينا بُعدًا آخر لصورة الجنة، بُعدًا تتكامل فيه الجزئيات، وتسيطر مفردة واحدة على المساحة. إنها الأنهار الجارية، الممتلئة المتدفقة التي ينبثق من جريانها هذا الصوت الجميل فتسعد به النفس ويمتلىء القلب سرورًا.. إن العين في رصدها للمجرى تحدث لذةً جماليةً، والأذن وهي تتسمع هذا الصوت تلتذ بإيقاع الحركة المتناغم الداخل إلى الوجدان الباعث في الشعور سرورًا وفرحًا.. ثم تأتي حاسة التذوق بما يسدّ رغبات النفس والجسم معًا.
لقد توزعت المفردة الكبرى (الأنهار) إلى جزئيات تتباين من حيث المادة التي يحتويها المجرى.. إنه تنوع في المحتوى، يحدد طبيعة النهر وسر النعمة فيه.
فثمة أنهار تجري فيها المياهُ الصافية العذبة التي لايتغير طعمها أبدًا؛ فتظل تحتفظ بعذوبتها، وأنهار تمتلىء باللبن المصفى حلاوةً ودسمًا لايفسد ولايتحول، وأنهار تجري بخمر لذيذة الطعم يتلذذ بها الشاربون، خاليةً من كل ما يُفسد أو يسيء، وأنهار جارية بالعسل المصفى حسن اللون والرائحة، طيب الطعم حلو المذاق، وذلك فضلاً عن الثمرات المتعددة من كل نوع وصنف .
ولعلنا نلاحظ الأداء التعبيري الذي يصف الصفاء في محتوى النهر، ماءً ولبنًا، وبأنه مرةً “غير آسن” ثم “لم يتغير طعمه” ووشت المفردات بالمعنى عن طريق النفي، كما أن اللفظين “لذة” و”مصفى” يؤكد أن المعنى عن طريق الإثبات.. ثم تتحاور الألفاظ لتثبت المعنى وتؤكده .
وصور النعيم ترق وتشف كلما ارتقى السامعون في درجات الرقي الأخلاقي. ولقد واكبت الآيات أنواع المخاطبين وتنوع حالاتهم التي تتكرر كنماذج بشرية .
“والله الذي خلق البشر أعلم بمن خلق. وأعرف بما يؤثر في قلوبهم، وما يصلح لتربيتهم، ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم، والبشر صنوف، والنفوس ألوان، والطبائع شتى، تلتقي كلها في فطرة الإنسان، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان، ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب، وصنوف المتاع والآلام وفق علمه المطلق بالعباد)(18).
وهذا هو الهدف الديني الذي يترقرق خلف مشاهد الجنة.
** والجنة هي ملاذ الآمنين المتقين .
ولقد وردت صورة الجنة في آيات قرآنية بما يصفها بالهدوء والسكينة .
قال تعالى في سورة الواقعة: ﴿لاَ يَسْمَعُوْنَ فِيْهَا لَغْوًا وَّلاَ تَأثِيْمًا إلاَّ قِيْلاً سَلاَمًا سَلاَمًا﴾. فالجنة مكان مبرأ من كل ما يسيء أو يجرح المشاعر؛ إنه مكان يصون النفس ويحافظ على الكرامة ويحقق الاحترام. إنه ليس المكان الجميل فحسب؛ وإنما هو المكان النظيف؛ فلا يصل إلى أسماع أهل الجنة كلام فاحش أو لفظ نابٍ، ومن ثم فلا ارتكاب للإثم ماداموا لايقولون أو ينطقون فاحشًا من القول أو هذرًا من الحديث. وينحصر القول والحديث في إشاعة التحية الجالبة للمسرة والمودة، فكل واحد يلقي السلام على أخيه؛ فيفشو السلام ويسود الإلف .
وهذا تصوير نفسي جميل حيث تعطي الآية دلالةً للشعور الداخلي الذي يجعل النفس تشعر بالسكينة والهدوء، وتُقْبل على التمتع في شوق ورضى وإحساس باللذة لايكدره كدر ولا تشوبه شائبة.. ومن ثم ورد التكرار ليكرس هذا المعنى النفسي الجميل، ولتصبح حياتهم سلامًا وليشع في جنبات الجنة السلام حتى ليضحي الجو ناعمًا آمنًا والسلام يبسط أجنحته وينشر عطره الذي يشمل النفس والمكان معًا .
وقال تعالى في سورة مريم: ﴿لاَيَسْمَعُوْنَ فِيْهَا لَغْوًا إلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيْهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ “فلا فضول في الحديث، ولا ضجة ولا جدال، إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الحالم الراضي.. هو صوت السلام”(19).
ويكلل هذا الجو الناعم سماعهم للملائكة يسلمون عليهم على وجه التحية والتكريم. ولقد تمازج التعبير عن الرزق مع هذا الجو الناعم الرضيٍ؛ فالزق في الجنة مكفول لايحتاج إلى كدّ، ولا يشغل النفس، ولا يقلقها ولايجعل للخوف سبيلاً إلى القلوب .
إنه أمان نفسي مكفول للنفس في سكينتها ورغباتها معًا.
وهذا البعد الصوتي الجميل – من أبعاد الصورة الكلية – ينساب في جنبات المكان في إيقاع محبب يريح النفس ويرطب الوجدان .
* * *
الهوامش :
- مشاهد القيامة في القرآن سيد قطب ص 43.
- مشاهد القيامة ص 47 .
- سورة الواقعة الآيات 15-24 .
- صفوة التفاسير ج3 ص 307.
- سورة الصافات الآيات 48-49.
- سورة الرحمن آية 58.
- القرآن – المعجزة الكبرى محمد أبو زهرة ص 255.
- سورة الواقعة الآيات 35-37.
- الكشاف ج4 ص 59.
- سورة الطور الآيات 17-26.
- مختصر ابن كثير ج3 ص 290.
- الكشاف ج4 ص 34.
- الظلال ج6 ص 3397.
- مشاهد القيامة ص 207.
- سورة الإنسان الآيات 5-22.
- صفوة التفاسير ج3 ص 495.
- سورة محمد الآية 15.
- الظلال ج6 ص 3291.
- مشاهد القيامة 119.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1431 هـ = ديسمبر 2009 م ، يناير – فبراير 2010م ، العدد : 1-2 ، السنة : 34