نصيحتي لكلّ من أُنْكِرَتْ قيمتُه وغُمِطَ حقُّه من الشباب المُؤَهَّل

إشراقة

أيُّها الناسُ – ولا سيّما الشباب – الذين يكون قد نَبَذَهم المَحْسُوبِيُّون، والمُحِبُّون للتملُّق، والمُقَدِّرون لقيمة الإنسان بأهليَّة التزلُّف، أو بكلمة أخرى بالتزلُّفيَّة، وأمثالُهم من اللاَّعَادِلين والمُجْحفِين في المُجْتَمَع البشريّ! لا تَيْأَسُوا ولا يُصِيْبَنَّكم الإحباطُ النفسيُّ والهزيمةُ الداخليَّةُ؛ لأن الذهب – إذا كان الذهب المُصَفَّى – لابدّ أن يلمع مهما بُذِلَت المحاولات لزرع الحُجُب دون لمعانه، وأنّ المُؤَهَّل لابدّ أن يَظْهَر مهما أريد الحطُّ من قيمته. إنّ الأمر قد يتأخّر؛ لكنّ الكون الإلهيّ لايقبل طويلاً التعتيمَ الظالمَ، وغمطَ الحقوق، وظلمَ الظالمين في أي شُعْبَة من شُعَب الحياة .

       كثيرٌ من الناس يفقدون كلَّ شيء يُكْسِبُ الإنسانَ قيمةً، ويَعْدَمُون أصلاً كلَّ أهليّة تزيد المرأ سنًا وسناءً، وقامةً معنويّةً، وعملاقيّةً تجعل المجتمعَ يلتفت إليه، فيحتفي به ويكرمه؛ ولكنهم يَغْنَوْن بقدرة فائقة على إيهامهم أعضاءَ المجتمع بأنّهم ذوو أهليّة ثرّة؛ لكنّ هذا “الرصيدَ” لايدوم طويلاً ولا ينفع كثيرًا؛ حيث إن الله العليَّ الكبير الذي يعلم السرَّ وأخفى يُظْهِر يومًا ما عيبَهم وتجرُّدَهم من كلّ رصيد من الأهليّة، فيعلم الناس أنّهم راكبُو حمار وليسوا راكبي فَرَس .

       المهمُّ أن يتمسّك المُؤَهَّلُون بالصبر، ويستمرّوا في العمل، ويؤمنوا بأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد، ويتواضعوا مع العمل، ويتخلَّقوا بأخلاق الصالحين مع الاجتهاد في إنجاز وظيفتهم التي كُلِّفُوا إيّاها، ويعتقدوا أنّ التّوفيق الإلهي هو الذي مَهَّدَ لهم الطريقَ إلى كسب الأهليّة، وهو الذي هَيَّأَ لهم فرصةَ العمل، وهو الذي جَعَلَ جوارحَهم وكلَّ ما لديهم من الذكاء وقوّة التفكير وقُدُرَات السمع والبصر واللمس والشمّ والوعي تعمل عملَها، وتؤتي أُكُلَها، وتسير في سَمْتِها. ولو خَانَهم – التوفيق الإلهي – لما كسبوا شيئًا ممّا جَعَلَهم يظنّون أن ظَلَمَة المجتمع البشريّ من المجحفين بالحقّ، وعُشّاق التملُّق، ومُحِبِّي التّزلُّفِيَّه، والمَحْسُوبـِيِّين، غَمَطُوا لهم حقَّهم، وأسندوا الفضلَ إلى فاقديه، وقَدَّرُوا غير المُؤَهَّلِين مكانَهم. ولو خَانَهم – التوفيق الإلهيُّ – لما ظهرت نتائجُ أهليّتهم، ولما قَدَرُوا على الاستفادة منها – الأهليّة – ولما أَمْكَنَهم توظيفُ جوارحِهم وقُدُرَاتِهم السمعيَّة، والبصريَّة واللمسيَّة، والشمَّيَّة والإدراكيَّة.

إنَّ المُؤَهَّل – كما أعتقد جازمًا – إنّما أُهِّل من قبل الله عزّ وجلّ ليشكره تعالى، فيستخدم أهليّته في جهتها، ويُحَقِّق إنجازاتٍ تِلْوَ إنجازاتٍ تنفع الإنسانيّة، وينتفع بها الخلق، فيُضْطَرُّ أن يدعو له، ويُوْجِد أعمالاً تُخَلِّد اسمَه، وتُثَبِّت رسمَه، وتَمْكُث في الأرض نافعةً الناسَ؛ فيشكره الله ويُسْعِده في الدنيا والآخرة، فيضع له الحبَّ، ويُقَدِّر له حسنَ الذكر، وجميلَ الثناء، في حياته وبعد مماته.

       فإن شكره الناسُ فذلك؛ وإلاّ فإنّ الله شاكرُ كلَّ مُحْسِنٍ لا مَحَالَةَ. ولا يذهب العُرْفُ بين الله والناس.

       الذين يُؤْثِرُون غيرَ المُؤَهَّلِين على المُؤَهَّلِين، ويُنْكِرون قدرَ القادرين، وجهدَ المجتهدين؛ لأنّ الأوّلين أَتْقَنُوا فنَّ التزلُّف، وأَحْسَنُوا حيلةَ التملُّق، ويُقَرِّبون المحاسيبَ، ويُبْعِدُون مَنْ دونَهم، فهم ممّن لم يشكروا الناس فلم يشكروا الله. إنّهم يريدون أن يسيروا على غير الخطّ الإلهيّ، ويخرقوا القانونَ الربّاني، ويُغَيِّروا طبيعةَ المجتمع البشريّ التي وَضَعَه الله عليها، وإنّ الله لن يسمح لهم بما يريدون، لأنه لن يرضى لعباده الظلمَ، ولا يتحمّل أن يطغى أحد على سنّته، وأن يُفْسِد في الأرض، ويَعْبُد هواه، ويسير على قفَاه. قد يُمْهِلهم – الظالمين –؛ ولكن لن يُهْمِلهم، وإنّ كيدَه متين، ولا يَأْمَن مكرَ الله إلاّ القومُ الخاسرون .

       لكنّ الإنسانَ خُلِقَ عجولاً، فيُعَالُ صبرُه عاجلاً، ويتعرَّض للإحباط ومعانيه كثيرًا، وقد ينسى في زحمة الأشغال وسير الأحداث المُتَتَابِع، أنّ الله سيجازي كلَّ أحد على صنيعه، إن خيرًا فخير و إن شرًّا فشرٌّ، فالمسيء جزاؤه سَيِّءٌ والمُحْسِنُ جزاؤه حسن .

       كما قد ينسى الإنسانُ أنَّ المُتَصَرِّف في الكون هو الله وحده، وأنّ أحدًا مهما كان قويًّا لن يتخطّى قدرتَه المُطْلَقَة، وبطشَه الشديد، وعقابَه الأليمَ إذا جاء أَجَلُ ذلك في علم الله، وعندها لن يجد مَهْرَبًا في الأرض أو في السماء .

       وذلك موضعُ اتّعاظ كلٍّ من المُؤَهَّل المُهْدَر حقُّه، والمُنْكَر قدرُه، والمُؤْثِر غيرَ المُؤَهَّل على المُؤَهَّل؛ الذي أغواه غيرُ المُؤَهَّل بتملُّقه الزائد وقدرته على التعامل بفنّ التزلُّف الذي يُعْمِي ويُصِمّ في الأغلب المسؤولَ والمعنيَّ بالأمر في شعبة من شعب الحياة؛ فلا يرى الأمرَ على حقيقته .

       لأنّ الأوّل لو اسْتَحْضَرَ كلَّ وقت أنّ الله يُحْسِن لا مَحَالَةَ جزاءَ المُحْسِن مهما لم يُحْسِنه ظالمون في المجتمع البشريّ، لما نَفِدَ صبرُه، ولما فاضت كأسُ تحمُّله، وفَوَّض أمرَه إلى الله، وأراح نفسَه، وتخلّص من الأذى النفسيّ، والإحباط الداخليّ، والهمّ المُلاَحِق؛ واثقًا بأنّ ربَّه شكور عليم، لاتخفى عليه خافية، ولا تغيب عنه ذرَّة، وقد أحصى كلَّ شيء عددًا.

       ولأنّ الثاني لو عَلِمَ أنّه لن يصيب أحدًا إلاّ بما قد كَتَبَه الله عليه، لما تَعَامَل بالمحسوبيّة، ولما آثر غيرَ المُحِقِّين، ولما فَضَّل غيرَ المُؤَهَّلين على غيرهم بمجرد إتقانه لفنّ التزلّف وحيلة التملّق، ولعلم أنّه لا يقدر بشكل أن يُكَبِّر صغيرًا في علم الله وتقديره، ولن يُصَغِّر كبيرًا في علم الله وتقديره، مهما بذل من الجهد والمال والوساطة، وأعمل من الوسائل والأسباب، واستعان بالمساعدين، واصطلح على إعانته كل من في الأرض جميعًا.

       الناس في الأغلب مخدوعون مغرورون، يحاولون في غفلة عن تذكّر عظمة الله عَزَّ وجلّ أن يمنعوه تعالى – ونعوذ بالله من ذلك – عن التصرُّف في خلقه وإمضاء قضائه وقدره في خلقه، فيَطْرَحُون جانبًا المُحِقِّين ويُكْرِمُون غيرَ المُحِقِّين، وكأنّهم يَظُنُّون أنَّه ظَلَمَ عندما أكرم أُنَاسًا بالأهليّة وقدرة العمل والتوفيق للاجتهاد والتحرّك في إطار النفع للخلق؛ فهم يودّون أن يُحَقِّقُوا العدلَ من خلال قلب الموازين وإعطاء الحقّ كلِّه لغير أهله، وغمط حقِّ أهل الحقِّ، وكأنّ لهم الصلاحيّة والخيار ليرفعوا وضيعًا ويضعوا رفيعًا. إنّهم يصنعون ذلك في غفلة أَيِّ غفلة عن قدرة الله الكاملة كلَّ وقت على أن يُعِزّ من يشاء ويُذِلّ من يشاء؛ لأنّه مالك المُلْك يُؤْتِي الملك من يشاء ويَنْزَع الملك عمّن يشاء؛ فلو تذكَّروا هذه الحقيقة الكبرى لعلموا أنّ الله تعالى قادر على أن يسلبهم إذا شاء حالاً القدرةَ التي بفضلها يَحْتَفُون بغير المُحِقِّين وينبذون وراءهم المُحِقِّين .

       والمُؤَهَّلُون المنبوذون من قِبَل المُتَعَامِلِين بالمَحْسُوبِيَّة والمُحِبِّين لمعاني التزلُّف والتملّق من غير المُؤَهَّلِين، هم الآخرون مخدوعون مصابون بالغفلة عن تذكّر عظمة الله؛ لأنّهم يَتَضَجَّرون عما قليل، ولا يصبرون على الظلم والإجحاف اللذين ينالانهم من قِبَل هؤلاء الشاذّين عن المسار الإنسانيّ الصحيح، ولا يعلمون أن الله ناصرُ عبده إذا ظُلِمَ شريطةَ أن يصبر، مؤمنًا بوعد الله بالنصر، مُنْقَطِعًا إلى العمل الذي أُسْنِدَ إليه، والمسؤوليَّة التي قُلِّدَ إيّاها؛ لأنَّ الأمر كما قال سيّدنا ونبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم : “واعلم أنّ النصر مع الصبر وأنّ الفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يُسْرًا”.

       وكلا الموقفين : موقف المُؤَهَّلِين وموقف المُتَعامِلين بالظلم، ابتلاءٌ من الله العليّ الخبير؛ فلو صَبَر المُؤَهَّلُون المظلومون لشكرهم الله، وأكرمهم بما لم يكن يدور بأخلادهم، ولو تَنَاهَى المُتَعَامِلُون بالظلم عن فَعْلَتِهم القبيحة، لتَدَارَكَتْهم رحمةُ الله التي وَسِعَتْ كلَّ شيء، وإن لم يَتَنَاهَوْا عنها وبَقُوا سادرين في غيّهم يَزِدْ حظُّهم من الخسران وسوءِ اللعنة .

       إنّ فِعْلَ الله لا يخلو من الحكمة، فالمسيءُ بابُ التوبة مفتوح أمامه، وطريقُ العودة إلى الحقّ واسع لديه، والحقُّ قديم؛ فمُرَاجَعَتُه خير من التمادي في الباطل، كما قال حكيمُ هذه الأمّةِ أميرُ المؤمنين أبو حفص عمرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه. والتائب من الذنب كمن لا ذنبَ له. وقد يزيد التائبُ درجات لا يرتقيها من لم يرتكب الذنوبَ ، إذا كان صادقًا في التوبة ، نادمًا على ذنبه، خاشيًا من ربّه، مُتَذَكِّرًا وقوفه أمامَه يوم لاينفع مال ولاجاه ولا سلطان .

       والمُحْسِن – ولاسيّما المظلوم من ذوي الحقّ – له أن يبقى مُتَمَسِّكاً بأهداب الصبر، قائمًا بوظيفته، مُؤَدِّيًا مسؤوليّتَه دونما شَطَط؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : “الصبرُ ضياءٌ” (رواه مسلم) وقال: “ما أُعْطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا و أوسعَ من الصبر” (متفق عليه).

       ومن أَصْدَقُ من الله قيلاً :

       “إنّما يُوَفَّى الصّـٰـبـِرُون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حساب” (الزمر/10) .

       “ولَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ إِنّ ذلك لِمَنْ عَزْمِ الأُمُورِ” (الشورى/43) .

أبو أسامة نور

( تحريرًا في الساعة 11 من ضحى يوم السبت: 4/ذوالقعدة 1430هـ = 24/أكتوبر 2009م )

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، الهند ، ذو الحجة 1430 هـ = ديسمبر 2009 م ، العدد :12 ، السنة : 33

Related Posts