مساهمات الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي في التحقيق العلمي

دراسات إسلامية

بقلم : د . جمال الدين الفاروقي

الأستاذ المشارك، كلية WMO ، ويناد، كيرالا

ساهمت بلادنا الهند في ماضيها الغابر وحاضرها الزاهر بشخصيات بارزة خدموا العلومَ واللغة والآداب، وخدمتهم لا تقل عن خدمات العلماء العرب، بل تفوقها في بعض المجالات، مثل خدمات الدكتور محمد حميد الله في التحقيق العلمي والبحوث .

       وهو من أسرة النوائط ومن مواليد عام 1918، تلقّى العلوم الإسلامية واللغة العربية من المدرسة النظامية “بحيدر آباد”، ودرس اللغة الإنجليزية بجهوده الذاتية. ودخل قسم الدراسات الإسلامية بـ”الجامعة العثمانية” وأنهى البكالوريا بتقدير ممتاز. وواصل دراساته في القانون وحصل على الماجستير عام 1930. ثم نال منحة التحقيقات العلمية من “الجامعة العثمانية” وبدأ يعمل في التحقيق في موضوع القانون الإسلامي العالمي. ولم يلبث أن اُنتخب سكرتيرًا لجمعية القانون في الجامعة وقد حالفه الحظ لمنحة من “جامعة بون” بألمانيا، لمواصلة دراساته هناك. كما أن الجامعة العثمانية تفضلت باستمرار منحتها إياه لدراساته التحقيقية في “ألمانيا”. وفي خلال دراسته هناك نال الدكتوراه من جامعة “بون” لرسالة أعدها بعنوان “العقلاقات الدولية في الإسلام” ولما انتهت مدة منحته الجامعية سافر إلى “بريطانيا” ومنها إلى “باريس”، وحصل على شهادة دكتوراه ثانيةً من جامعة السوربون بمقالة قدمها بعنوان “مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي وفي الخلافة الراشدة”. ثم رجع إلى “حيدر آباد” والتحق “بالجامعة العثمانية” أستاذًا في “قسم الدين”، ثم عُيّن في “قسم القانون الدولي”. وظل يخدم فيها حتى اُختير عضوًا في وفد رسمي يمثل حكومة “حيدر آباد” إلى الأمم المتحدة سنة 1948. وذلك لعرض قضية استقلال “حيدر آباد” وعدم رغبتها بالانضمام إلى الكيان الهندي؛ ولكن الحكومة الهندية المستقلة ضمتها قسرًا إلى جمهورية الهند قبل أن تتم مفاوضة أعضاء الوفد. ثم رجع جميع أعضاء الوفد إلى الهند وبقي هو هناك وآثر الإقامة في “باريس”.

       وقد استقى الدكتور “حميد الله” العلوم من الأساتذة الكبار في أيامه من أمثال “مناظر أحسن” الكيلاني والمولوي “عبد الحق” والأستاذ “عبد القدير” الصديقي والأستاذ “عبد المجيد” الصديقي والمفتي “عبد اللطيف” والمولوي “صبغة الله” والدكتور سيد “عبد اللطيف” و”حسين علي” ميرزا، مما ساعده على تكوين عقلية واعية وشخصية علمية عالية. ولما استقر رأيه على البقاء في “باريس” التحق بالمعهد القومي للأبحاث العلمية وبقي هناك على منحة مركز أبحاث الدراسات الشرقية (Oriental studies research centre) ولم يلبث أن حصل على منحة أخرى من المركز الوطني للتحقيق العلمي (National centre for scientific research) استمرت لعشرين سنةً . وفي خلال هذه الفترة ألقى محاضرات في مختلف الجامعات في العالم وأسهم في وضع القوانين وخطة التعليم لحكومة “باكستان”. وقد ظل طوال عمره المديد معطاءً غزير التأليف، ولم يتوقف عن العمل إلا بعد أن صار طريحًا للفراش لسنتين قبل وفاته، حيث كان مع ابنة أخته في الولايات المتحدة . ولم يتزوج رحمه الله، بل تفرغ للعلم والبحث والتأليف . وعندما استقر في “باريس” لم يكن فيها أحد ممن يتحدث عن الإسلام سوى زمرة من المستشرقين. ولما كثرت وفود الطلبة من البلاد العربية إلى “باريس” بادر إلى تأسيس جمعية الطلبة المسلمين، حفظاً لكيانهم الإسلامي وحمايةً لهم من الذوبان في ثقافة البلاد المضيفة .

       ومن أبرز إسهامات “حميد الله” تأسيسه مبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي. كما أن له الفضل في إدخال مصطلحات جديدة في القاموس الإسلامي مثل دولة المدينة ودستور المدينة، ونال أعلى جائزة من جمهورية “باكستان” لأعماله المميزة في السيرة. وعمل أستاذًا زائرًا في كلية الإلـٰـهيات بجامعة “إستنبول”، وكان يعرف باثنتين وعشرين لغةً، درس الأخيرة منها وهو في الثانية والثمانين من عمره. وكان له قدرة فائقة في التأليف في سبع لغات – في “العربية” و “الألمانية” و “الأردية” و”الفرنسية” و”التركية” و”الفارسية” و”الإنجليزية”. ونظرًا لبحوثه القيمة وإسهاماته الجليلة في الدراسات الإسلامية المقارنة رشح اسمه لجائزة الملك فيصل عام 1994م؛ ولكنه اعتذر إليهم عن قبولها .

       ودعاه الرئيس الباكستاني السابق الجنرل “محمد ضياء الحق” إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات في جامعة “بهاولفور” في سيرة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بمناسبة مرور 1400 عام بعد الهجرة . وقام بها حق قيام. كما أنه ألقى المحاضرات في جامعة “باريس” وجامعات “ألمانيا”  وجامعات “استنبول” و”أنقرة” و”كوالالمبور” و”باكتسان”.

أعماله العربية :

       تتميز أعماله العلمية وأبحاثه بالأصالة ودقة العرض والشمولية، وكان موضوعه المحبب إليه السيرة النبوية، وقد طبع له أكثر من ألف مقال، كما طبع أكثر من مائة وخمسة وسبعين من كتبه ورسائله. ومعظم كتاباته حول الإسلام والقانون الإسلامي، والسيرة النبوية والرد على الشبهات حول الإسلام. ومن أهم أعماله ترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسية .

       وفي السيرة نشر “صحيفة همام بن منبه” عن مخطوطة برلين بعد أن حققها وعلق عليها مع مقدمة في تاريخ تدوين الحديث وطُبعت في “بيروت”. وتحتوي هذه الصحيفة على أحاديث كتبها أبو هريرة الصحابي الشهير عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وتعرف بالصحيفة الصحيحة، ثم نقلها عنه تلميذه “همام بن منبه”. وهذا أقدم ما وصل إلينا كتابةً عن النبي. وقد عثر الدكتور “حميد الله” على مخطوطاتها ببرلين في أثناء دراسته في “ألمانيا”. ثم دله الدكتور “زبير أحمد” الصديقي على نسخة أخرى للصحيفة في المكتبة الظاهرية “بدمشق”، فحقق الدكتور هذه الصحيفة وقارن بين نسختيها، وكتب مقدمةً ضافيةً في تدوين الحديث وكتابته في العهد النبوي وأثبت بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة أن الحديث كان يُكتب في أيام الرسول، كما أن النبي كتب كتابًا للمهاجرين والأنصار واليهود للتعامل بينهم. وهو يعتبر أول وثيقة دستورية للدولة الإسلامية التي كان رئيسها النبي صلى الله عليه وسلم . هكذا فند الدكتور حميد الله المزاعم الباطلة التي ينشرها أعداء الدين، إذ يقولون: إن الأحاديث لم تُكتب إلا بعد القرن الثالث الهجري. وخرج أحاديثها التي يبلغ عددها 138 حديثًا. وهذه الصحيفة ترجمت إلى “الأردية” و”الفرنسية” و”الإنجليزية” و”التركية” .

كتاب السرد والفرد :

       وهو في صحائف الأخبار ونسخها المنقولة عن سيد المرسلين. جمع هذا الكتاب الشيخ أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني القزويني. يقول المؤلف في تسمية كتابه: هذا الكتاب يتضمّن صحائف ونسخًا تلقيناها، تحوي أخبارًا كثيرةً عن سيدنا المصطفى – صلى الله عليه وسلم – بإسنادها الوحيد تسهيلاً لحفظها على طلاب علم الحديث. وسميته كتاب السرد والفرد، يعني به سرد الأحاديث المتعددة بالأسانيد المنقولة المتفقة. والكتاب يحتوي على أهم الصحائف مثل “صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة”، و”صحيفة كلثوم بن محمد عن أبي هريرة، و”صحيفة عبد الرزاق عن أبي هريرة” و”صحيفة حميد الطويل عن أنس بن مالك” و”صحيفة عن طريق أهل البيت عن علي بن أبي طالب” و”صحيفة إلياس والخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم “، و”صحيفة جعفر بن نسطور الرومي” و”صحيفة خراش عن أنس بن مالك”.

       نشر الدكتور الكتاب عن النسخة الخطية التي كُتبت سنة 599هـ . كما قام بتحقيقه وترقيم أحاديثه في كل مخطوط ورقّم جميع أحاديث الكتاب بالتسلسل، ثم ترجمها إلى الإنجليزية وحلاه بمقدمة ضافية عرف فيها بجميع الصحائف وألقى الضوء على تاريخ تدوين الحديث. وتم نشر هذا الكتاب في المجلس الوطني للهجرة بـ”إسلام آباد” سنة 1990، وفي الكتاب تقريظ لشريف الدين بيرزاده وتعريف الدكتور محمد حميد الله لأصحاب الصحائف .

الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة :

       هذا الكتاب روائع أعماله، وهو في الحقيقة رسالة قدّمها في “جامعة السوربون” للحصول على شهادة الدكتوراه. وقد طُبع بالعربية بالإضافات والتنقيحات. جمع فيه الوثائق السياسية الخاصة بعهد الرسول وفي أيام الخلافة الراشدة. وعدد الوثائق التي جمعها الدكتور “حميد الله” 373 وثيقة . والكتاب ينقسم على أربعة أقسام: القسم الأول يشتمل على وثائق الرسول قبل الهجرة، والقسم الثاني يحتوي على الوثائق التي كُتبت بعد الهجرة، يبدأ هذا القسم بالوثيقة المكتوبة في تحديد الواجبات والحقوق بين المهاجرين والأنصار واليهود، وتُعتبر هذه الوثيقة أول دستور للإسلام. ثم ذكر الوثائق الخاصة بالعلاقات مع الروم والفرس وبين القبائل العربية. ويحتوي القسم الثالث على الوثائق التي كُتِبَت في عهد الخلافة الراشدة، سجل فيها وثائق خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم – على الترتيب. ويشتمل القسم الرابع على ملحقات ذُكر فيها العهود مع اليهود والنصارى والمجوس، ثم ألحق به الوثائق التي عثر عليها فيما بعد. وفي آخر الكتاب فهارس تشمل الصور والخرائط والجداول. وطُبع الكتاب في اللغة الفرنسية سنة 1935 ثم نقله إلى العربية وطُبع في القاهرة سنة 1941. ثم أعيدت طباعته عدة مرات.

كتاب السيرة لابن إسحق :

       هذا الكتاب هو المصدر الأول الأصلي للسيرة النبوية. وهو الذي اعتمد عليه صاحب سيرة ابن هشام. و”محمد بن إسحق” هو تلميذ محمد بن شهاب الزهري الذي بدأ تدوين الحديث أولاً بإيعاز من الخليفة الصالح “عمر بن عبد العزيز”. وكان الكتاب مفقودًا. وعثر الدكتور “حميد الله” على نسخة خطّية منه في المكتبة الظاهرية بـ”دمشق”، كما وجد نسخةً خطيةً أخرى في مكتبة جامع القزويين “بفارس”. فأعدّ الدكتور الكتاب بالمقابلة بين النسختين، وطبع في الرباط في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب .

       وله كتب أخرى في مختلف فنون التحقيقات. منها “المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري” قام بتحقيقه مع “محمد بكير” و”حسن حنفي”، وطبعه المعهد الفرنسي “بدمشق”. ومنها “أنساب الأشراف لأحمد بن يحيى المعروف بالبلاذري”، حقّقه الدكتور حميد الله وطبعه “معهد المخطوطات” بجامعة الدول العربية. ومنها “معدن الجواهر بتاريخ البصرة والجزائر لابن العراق”، وصدر ذلك عن مجمع البحوث الإسلامية “بإسلام آباد” مع تحقيق الدكتور “حميد الله” .

       بجانب هذا له أعمال في اللغة والأدب مثل “كتاب الأنواء في مواسم العرب لابن قتيبة”. قام بتحقيقه بالاشتراك مع “شارل بلا”، وصدر عن دائرة المعارف العثمانية، و”كتاب الذخائر والتحف للقاضي رشيد بن الزبير” الصادر عن دائرة المطبوعات والنشر “بالكويت”، و”كتاب النبات لأبي حنيفة الدنيوري”، وتاريخ تطور الدستور عند المسلمين الذي يبحث فيه عن الوثائق الدستورية في مكة قبل الإسلام ومن العهد النبوي إلى نهاية العصر الأموي، و”كتاب أديان العالم ومقارنتها” .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذو القعدة 1430 هـ = نوفمبر 2009 م ، العدد : 11 ، السنة : 33

Related Posts