دراسات إسلامية
بقلم : أ. د/ محمد نبيل غنايم
يعتبر مصطلح “غسيل الأموال” من المصطلحات الاقتصادية الحديثة؛ حيث لم يعرف ولم يتداول ولم يتنبه له إلا منذ سنوات حيث بدأت إجراءات المراقبة والتجريم والمصادرة وتكوين إدارات خاصة يتتبع ذلك. فماذا يعني ذلك المصطلح؟ وما موقف الشريعة الإسلامية منه؟.
وحتى نتبين ذلك نبدأ ببيان معنى الغسل لغةً وشرعًا، ثم معنى الأموال لغةً وشرعًا ثم المعنى الشرعي لغسل الأموال، ثم المعنى الاقتصادي لغسل الأموال.
أولاً: الغسل لغةً كما تقول المعاجم:
غسَل الشيء يغسِل غسلاً: أزال عنه الوسخ ونظفه بالماء. واغتسل بالماء: غسل بدنه. والغُسل: تمام غسل الجسد كله. والمغتسل: مكان الاغتسال والماء الذي يغتسل به. والغسل شرعًا: هو تعميم البدن والشعر بالماء مع النية قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلـٰـوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ المائدة: آية6، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلـٰـوةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلاّ عَابِرِيْ سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ النساء: آية 43، وقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوْا﴾ المائدة: آية6، وقال: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ المدثر: آية4، ومن هذا نعلم أن الغسل هو التطهير وإزالة الخبث والنجس الحسيّ والمعنويّ بالماء أو بديله إذا تعذّر وهو التراب الطاهر كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ النساء: آية43، وأما الأموال فجمعُ مالٍ وهو كما تقول المعاجم: كل ما يملكه الفرد أو تملكه الجماعة من متاع أو عروض تجارة أو عقار أو نقود أو حيوان، والجمع أموال. قال أبو عمر: والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال لقوله صلى الله عليه وسلم: “يقول ابن آدم مالي مالي، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أوتصدق فأبقى”، وقال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبىٰ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِيْنَ﴾ البقرة: آية 177، وقال: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوْا أَمْوَالَهُمْ إلىٰ أَمْوَالِكُمْ إنَّه كَانَ حُوْبًا كَبِيْرًا﴾ النساء: آية2، وقال: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: آية188.
وعلى هذا يكون المعنى الشرعيّ لغسل الأموال هو تطهيرها من كل قذارة، ونجاسة، وتلك هي الطهارة الحسية وتكون بإزالة النجاسات كالروث والدم ونحوها من الممتلكات كالثياب والمكان. كما يتم تطهيرها حسيًّا باستبعاد ماهو محرم منها كالربا، والرشوة، والغصب، والسرقة ونحو ذلك من الميتة والخنزير، ويتم تطهيرها معنويًّا وحسيًّا بإخراج نصيب الفقراء منها بأداء الزكاة المفروضة وما سواها من حقوق؛ فذلك هو الغسل الشرعي للأموال، أما المعنى الاقتصادي لغسل الأموال فيعني تحويل الأموال القذرة من الكسب غير المشروع بأية وسيلة محرمة إلى أموال تبدو في ظاهرها مشروعةً كالمصانع والعقارات والأراضي الزراعية وذلك لإيهام الناس والمسؤولين أنها من مصادر شرعية وكسب مشروع وإخفاء حقيقتها القذرة ومصادرها الخبيثة من مخدرات وغيرها، وهذا كذب وبهتان وزور ونفاق يبقى على حقيقته كسبًا خبيثًا ويضيف إلى ذلك تلك الإجراءات الكاذبة والتمويهات الباطلة من عمليات التحويل والبيع والشراء، وبهذا تكون الأموال خبيثةً والإجراءات التي تحولها إجراءات كاذبةً ويُسمّىٰ ذلك غسلاً للأموال مع أنه لم يغسلها ولم يزل خبثها ونجاستها؛ بل أضاف إليها مزيدًا من النجاسة والقذارة؛ فأين الغسل إذًا؟ ومما يؤسف له أنه يُسمى أيضًا تبييض الأموال، وهو أبعد ما يكون عن الغسل والتبييض؛ بل يسمى الاقتصاد الخفي، والاقتصاديات السوداء، أو اقتصاديات الظل؛ فهي تسمية مجازية تم فيها تشبيه الأموال القذرة بالجنب أو الشيء النجس ثم حُذِف المشبه به وأُتِيَ بشيء من لوازمه وهو الغسل بالماء بقصد الطهارة والتطهير، وهذا مجاز في غير محله؛ لأنه لايصح إلا في المعنى الشرعي أما في المعنى الاقتصادي فغير صحيح.
ثانيًا: فطر الله تعالى الإنسانَ على حب المال، وجعله سبحانه وتعالى زينة الحياة الدنيا، وأمر الله تعالى بالمحافظة عليه، وجعله من الكليات والضروريات الخمسة؛ فحرّم إضاعته وإتلافه والإسراف في إنفاقه، وحرّم العدوان عليه بالسرقة ونحوها وجعل لذلك حدودًا وعقوبات، وقد يسر الله للإنسان أسباب الحصول عليه وحثه على السعي فيها وعدم تجاوزها ونهاه عن الحصول عليه من أسباب غير مشروعة وحرمها عليه وتوعده على تحصيله منها بالعقاب في الدنيا والآخرة، ومن هنا ينبغي أن نعرف كيف نكسب الأموال الحلال، وكيف نحذر الأموال الحرام، فالأموال الحلال تتحصل من عدة طرق يأتي في مقدمتها:
1 – جميع الأعمال الزراعية ما عدا النباتات المحرمة كالأفيون أو البانجو أو القات أو الدخان، وقد حث الإسلام على النشاط الزراعي ورغّب فيه وامتن على عباده بتيسيره..
2 – جميع الأعمال التجارية القائمة على تبادل السلع والمنتجات والأثمان والمنافع بالبيع والشراء والشركة والإجارة والحوالة والرهن وغير ذلك من المناشط، ويجب أن تقوم على التراضي بين الأطراف المتبادلة وألا يدخلها غش أو غبن أو إكراه أو غير ذلك من الوسائل المحرمة التي سيأتي بيانها في الكسب الحرام.
3 – الصناعة وتقوم على الزراعة والتجارة فهي تحول المحاصيل الزراعية إلى صناعات كثيرة؛ وبخاصة القطن، والكتان، والذرة، والمعلبات الغذائية، والعصائر، وغير ذلك كما تقوم على المعادن صناعات كثيرة، ثم يتم بيع هذه المنتجات تصديرًا أو استيرادًا أو تبادلاً مما يحقق دخلاً كبيرًا وثروةً عظيمةً؛ بل إن كثيرًا من البلاد غير الزراعية وغير الصناعية استطاعت بالوساطة التجارية أن تحقق عوائد كثيرةً، وقد حث اللهُ على الصناعة ونوه بها كنشاط اقتصادي في كثير من الآيات.
4 – وهناك مصادر أخرى لكسب المال الحلال وتَمَلُّكه كالهبات والوصايا والميراث، والدية، وأروش الجنايات والصدقات، والمهور، والفيء، والغنيمة والسلب ووضع اليد على المباح كالصيد وإحياء الموات.
ثالثًا: أما الأموال الحرام فهي التي تُكتسب أو تُحاز بطرق غير مشروعة، وهي الطرق التي ورد النهي عنها أو ورد الحد على ارتكابها، أو ورد وعيد شديد على حيازتها، أو سماها الله تعالى باطلاً وهو يشمل الحرام كله، فمما ورد النهي عنه. وتحريمه بلا حد الربا، ومما ورد فيه الحد، السرقة والحرابة. ومما ورد فيه الوعيد الشديد، أكل أموال اليتامى ظلمًا وبيع الحر وأكل ثمنه وهكذا، ويمكن حصر هذه الأموال المحرَّمة في أصلين هما: “أكل أموال الناس بالباطل”، و”تعدي حدود الله في التصرفات المالية”، وقد أشار الرازي إلى ذلك بقوله: ذكروا في تفسير الباطل في قوله تعالى: ﴿يـٰـاأيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تَأْكُلُوْا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ وجهين: الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق، الثاني ما رُوِيَ عن ابن عباس والحسن – رضي الله عنهما – أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض، ويدخل تحت أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل. أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه”. وقال القرطبي: يدخل في هذا القمارُ، والخداعُ، والغصوبُ، وجحدُ الحقوق، ومالا تطيب به نفس مالكه أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك من الملاهي والقيان والشرب، ومن أخذ مال غيره لا على وجه أذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي لك القاضي وأنت تعلم أنك مبطل؛ فالحرام لايصير حلالاً بقضاء القاضي لأنه إنما يقضي بالظاهر”. وقال الدكتور محمد بلتاجي “لقد نهت الشريعة عن ثمانية أمور رئيسة استتبع النهي عنها النهي عن أمور كثيرة تفصيلية تتصل بها وتؤدي إليها أما الثمانية فهي: الرباء، والغرر، والمقامرة، والغش، والغصب، والاحتكار، والرشوة، والتجارة في المواد المحرمة، والضار كالخمر، والخنزير، والميتة، والأغذية الفاسدة، وثمن الكلب، ومهر البغي، وثمن الحر، ويتصل بهذه الأمور الثمانية ويندرج تحتها كثير من البيوع المحرمة منها: التصرية، وتلقي الركبان، والتناجش، وبيع حاضر لباد، والبيع على بيع من سبقه، والمزابنة وبيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، والمنابذة، والملامسة، وبيع الحصاة، وبيع كالئ بكالئ، ونضيف إلى ذلك أيضًا التجارة في المخدرات الحديثة وتهريب السلاح، وتجارة الأطفال والنساء والبغاء وسهرات الرقص والتمثيل والغناء والموسيقى، والأشرطة المخلة بالآداب، فكل الأموال العائدة من هذه المناشط والأساليب حرام، وذلك كله يندرج تحت الأصل الأول وهو أكل أموال الناس بالباطل، أما الأصل الثاني وهو تعدي حدود الله فيندرج تحته الإسراف والتبذير والبخل والتقتير، وتمييز بعض الأبناء بعطية دون الآخرين بلاعذر شرعي، والتحايل على أحكام الله في الميراث بالوصية أو المواضعة على إظهار بيع أو دين صوري لأجنبي أو التهرب من إخراج الزكاة ببيعها قبل الحول ثم شرائها وهكذا.
رابعًا: الغسيل الشرعي للأموال بنوعيها:
بعد أن عرفنا الأموال الحلال ومصادرها والأموال الحرام ومصادرها، نتعرف في هذا المطلب على كيفية الغسيل الشرعي لكل منها فيما يلي:
أ – الأموال الحلال ويكون غسيلها الشرعي بإخراج الحقوق الشرعية الواجبة فيها في مواعيدها الشرعية ومقاديرها الشرعية، كما فرضها الله تعالى وكما بيّنها رسوله صلى الله عليه وسلم وتتمثل هذه الحقوق فيما يلي:
1 – زكاة المال حسب نوعه ونصابه ومقدار الواجب منه.
2 – زكاة الفطر لمن يملك قوت يوم العيد وليلته هو ومن تلزمه نفقتُهم .
3 – المقادير والوظائف التي يفرضها ولي الأمر فوق الزكاة في أموال الأغنياء.
4 – الكفارات الواجبة ككفارة اليمين والظهار والقتل الخطأ والفدية والجماع في نهار رمضان.
5 – الديات وأروش الجنايات كدية المقتول خطأً أو عمدًا مع العفو أو ديات الأعضاء وأروش الجروح.
6 – النذور التي يفرضها المسلم على نفسه لله تعالى.
7 – صدقة التطوع والأوقاف والهبات، والوصايا وحقوق الجار والضيف.
8 – النفقات الواجبة شرعًا للزوجة والأبناء والوالدين والخدم والبهائم والرقيق وأجور العمال ونحو ذلك من نفقة العدة والمتعة والحضانة والرضاعة والمهر.
9 – الضرائب العامة التي يفرضها ولي الأمر لمصلحة المجتمع؛ فهذه كلها حقوق شرعية يجب على صاحب المال الحلال أن يؤديها وبهذا يغسل ماله ويزكيه ويطهره كما قال تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا﴾ التوبة: آية 103، وقال: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ البقرة: آية 276، أي ينميها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نقص مال من صدقة”، وقال: “إن الله يربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه حتى يجدها عند الله كجبل أحد” وفي مقابل ذلك لو لم يقم المسلم بزكاة أمواله الحلال وأداء الحقوق الواجبة عليه فيها؛ فإنها تتلوث وتتلف كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفًا” ويقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ التوبة: الآيتان 34، 35، ويقول: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ آل عمران: آية 180.
ب – الأموال الحرام ويكون غسيلها الشرعي بالتخلص منها بالكلية إن كانت كلها حرامًا أو بالتخلص من الجزء الحرام منها إن كان بعضها حلالاً وبعضها حرامًا، ويتم التخلص بعدة أساليب حسب مصدر المال الحرام؛ فإن كان المصدر غصبًا أو غشًا فعليه أن يعيد الأموال المغصوبة إلى أصحابها، وإن كان البيع فاسدًا فعليه تصحيح البيع، وإن كان تطفيفًا في الكيل أو الوزن فعليه أن يصحح النقص ويرد الزائد، وإن كان فائدةً ربويةً فعليه أن يتبرع بها لإحدى الجمعيات حتى لا يصيبه شيء من الربا، وإن كان سرقةً أو اختلاسًا فعليه أن يعيد المسروق إلى صاحبه وهكذا، وأساس ذلك كله، التوبةُ النصوحُ وهي كما نعلم لا تتحقق ولا تكون نصوحًا حتى يقلع العاصي عن معصيته ويندم على ارتكابها، ويعزم ويعاهد الله على ألاّ يعود إليها، ويرد الحقوق إلى أصحابها، وتطبيق ذلك على الأموال الحرام التي سبق بيانها يكون بغسلها وتطهيرها؛ فإن كانت كلها حرامًا كان غسلها وتظهيرها بالتخلص منها كليةً بإعادتها إلى صاحبها فإن لم يتيسر ذلك فبالتصدق بها عليه، وإن كان بعضها حرامًا فيكون الغسل لهذا الجزء الحرام بإعادته لصاحبه أو بالتصدق به وهكذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوْسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُوْنَ وَلاَ تُظْلَمُوْنَ﴾ البقرة: آية 279، وعلى ولي الأمر أن يقوم بمصادرة هذا المال الحرام وتعزير صاحبه إذا لم يتب ويرجع، وحين يختلط الحلال بالحرام ويعجز صاحب المال عن التمييز فليجتهد في تقدير ذلك حتى يغلب على ظنه أنه قد تخلص من الجزء الحرام، أما ما يراه بعض العلماء من التخلص من كل المال الحلال المختلط بالحرام فهذا تعسف وغلو في الدين كما يقول ابن العربي: ومن عجز عن إخراج كل المال استبقى منه ما يكفي الضروريات من طعام وشراب وسكن وكساء وعلاج ولا يستبقي أكثر من ذلك. قال القرطبي: قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضرًا فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه فإن التبس عليه الأمرُ ولم يدرِكم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له؛ فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدًا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبته وقوت يومه؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اُضطُر إليه، وإن كره ذلك من يأخذ منه، وفارق هاهنا المفلس في قول أكثر العلماء؛ لأن المفلس لميصر إليه أموال الناس باعتداء، بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه، وماهو هيئة لباسه، وبمثل ذلك قال في توبة المحارب.
خامسًا: الغسيل غير الشرعي للأموال:
وهو الذي يعتمد التضليل والتزييف والتزوير كما أشرنا من قبلُ حيث تكون الأموال حرامًا ومصادرها محرمةً، وبعد تحصيلها يتخذ محصلها عدة إجراءات لإضفاء صفة الشرعية عليها والحقيقة أنها غير شرعية، وهذا كما نرى ليس غسيلاً ولا تطهيرًا؛ بل هو على العكس من ذلك زيادة تنجيس للأموال ومضاعفة في تلويثها، ولذا كان جريمةً مركبةً من عدة جرائم قامت سائر الدول لمكافحتها ومحاولة القضاء عليها، وكان لمصر دور كبير في هذا المجال أسوةً بسائر الدول التي سبقتها في مكافحة هذه الجرائم لخطورتها على الاقتصاد الاجتماعي والأمن القومي، يقول الدكتور محمود شريف – أستاذ القانون الجنائي الدولي بجامعة دي بول بشيكاغو – : شهدت الآونة الأخيرة اهتمامًا عالميًّا بظاهرة غسل الأموال نظرًا لما تمثله من خطورة بالغة على صعيد المجتمع الدولي خاصةً فيما يتعلق بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وهو الأمر الذي حدا بالعديد من الدول إلى سن التشريعات الوطنية وإبرام لاتفاقيات الدولية فيما بينها لمجابهة تلك الظاهرة، وتشير التقديرات العالمية إلى أن الدخل العام لتجارة المخدرات دوليًّا يبلغ حوالي خمسمائة مليار دولار سنويًّا، ويضاف إليها مبالغ أخرى لا يمكن تقديرها من ناتج جرائم أخرى بما في ذلك الأموال غير الشرعية الناتجة من صور الفساد والكسب غير المشروع، ومن ثم، فإن هناك مليارات الدولارات يتم غسلها سنويًّا في دول مختلفة بهدف إضفاء هذه الشرعية عليها لإعادة استخدام جزء منها في تجارة المخدرات وأعمال إجرامية أخرى”.
وقد بدأت مكافحة هذا النشاط القذر – غسيل الأموال غير الشرعي – في أمريكا وأوروبا ثم انتقل إلى مصر والوطن العربي، فالولايات المتحدة بحكم خبرتها الطويلة وثقلها الاقتصادي العالمي قامت بوضع أشمل وأكمل مجموعةً من القوانين واللوائح للقضاء على هذه الجريمة حيث تقدر الإحصائيات أن ثلث عمليات غسل الأموال يحدث في الولايات المتحدة، وترجع أولى التشريعات إلى عام 1986م ثم توالت القوانين بعد ذلك، وعلى المستوى الدولي كانت أولى خطوات التعاون لمواجهة هذه الظاهرة اتفاقية “بازل” سنة 1993م وقد وقّعت عليها 147 دولة كما تبنى الاتحاد الأوروبي سنة 1991م توجهات تستهدف القضاء على هذه الجريمة، وقد تكونت مجموعة عمل للرقابة المالية وأصبحت تضم 24 عضوًا من منظمة التنمية والتعاون الأوروبي بالإضافة إلى هونج كونج وسنغافورة ولجنة الجماعة الأوروبية ومجلس التعاون الخليجي ثم زيدت إلى ثمانية وعشرين عضوًا سنة 1991م، وأقر صندوق النقد الدولي رسميًّا مشروعًا جديدًا لمحاربة عمليات غسيل الأموال في إطار المساعي الدولية لتجفيف منابع تمويل الإرهاب، وأوضح بيان الصندوق الذي صدر في 22/11/2002م أن العمل بموجب هذا المشروع قد بدأ بالفعل 15/11/2002م، وسوف يستمر العمل به على مدى عام كامل وسيقوم كل من صندوق النقد والبنك الدوليين بمراقبة السياسات المالية والأنظمة داخل البنوك المركزية في الدول الأعضاء بالمؤسستين، وسوف تستمر عمليات المراقبة هذه بشكل يومي ومنتظم بما يسمح بالتدخل السريع في حالة اكتشاف عمليات لغسل الأموال، وقد انتقلت هذه الجهود الدولية إلى الوطن العربي؛ فعُقِدت مؤتمرات وندوات عديدة حول غسيل الأموال أسفرت عن الضرورة الماسة لسن القوانين والعقوبات لمكافحة هذه الجريمة؛ بل الجرائم المركبة، وقد اتخذت المؤسسات المالية العربية جميع التدابير الممكنة والفعالة في مواجهة هذه الظاهرة، وهذا ما أكده جوزيف طربية – رئيس اتحاد المصارف العربية – والدكتور فؤاد شاكر – الأمين العام للاتحاد حيث شددوا على أن المصلحة العربية العامة تقتضي حفظ القطاع المصرفي العربي من العمليات غير المشروعة؛ لأن اقتصاد الجريمة لا يمكن الاعتماد عليه كبديل للاقتصاد الشرعي.
أما على الصعيد المصري فقد قامت مصر بجهود كبيرة في مضمار مكافحة غسيل الأموال؛ حيث قامت بسن قانون ينص في مواده على تجريم وعقاب من يقوم بالمشاركة في هذه الجرائم، وقامت وزارتَي العدل والمالية بالتعاون في صياغة هذا القانون ومواده وتم عرضه ومناقشته أمام مجلسَي الشعب والشورى ثم تم إقراره وصدوره في 22/5/2002م وأُنْشِئَت لذلك إدارات خاصة تقوم بمتابعة تطبيق القانون وتنفيذه، وقد بين المستشار فاروق سيف النصر وزير العدل أسباب صدور هذا القانون وأهدافه؛ فقال: إن الشواهد والدراسات تثبت إن حجم الأموال التي يتم غسلها داخل الاقتصاد المصري تمثل حوالي 30٪ من الحجم الكلي للأموال، وإن علميات غسيل الأموال تؤثر بالسلب على استقرار أسواق المال الدولية وتهدد بانهيار الأسواق الرسمية التي تُعَد حجر الزاوية في بناء اقتصاديات الدول، وأعلن المستشار عبد الرحمن فرج محسن رئيس لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس الشورى أن قانون غسيل الأموال المصري يحصن الاقتصاد المصري من عدة أضرار.. وقال إن التشريع الجديد حريص على تجريم استقبال وإرسال الأموال الناشئة عن جرائم تعاقب عليها القوانين.. وقال: إن قانون مكافحة غسل الأموال من أهم القوانين والتشريعات الاقتصادية التي أعدتها الحكومة في الفترة الأخيرة خاصةً بعد إدراج مصر على قائمة البلدان غير المتعاونة – قبل صدور القانون – في مجال مكافحة غسيل الأموال على المستوى الدولي.. وقد ارتاحت الأوساط المصرفية والاقتصادية لإصدار هذا القانون وبخاصة أنه راعى في مواده قوانين الأمم المتحدة والمنظمات العالمية، كما راعى القوانين المصرية السابقة في الأموال غير المشروعة وأنه جاء محققاً للتوازن في المعادلة الاقتصادية، ومن أهم مواد هذا القانون المادة الأولى التي تنص على أن كل فعل ينطوي على اكتساب مال أو حيازته أو التصرف فيه أو إدارته أو حفظه أو استبداله أو إيداعه أو ضمانه أو استثماره أونقله أو تحويله إذا كان متحصلاً من جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 2 حتى كان القصد من هذا الفعل إخفاء مصدر المال أو تغيير حقيقته أو الحيلولة دون اكتشاف ذلك أو عرقلة التوصل إلى شخص من ارتكب الجريمة المتحصل على المال منها يُعَد جريمةً.
والمادة الثانية التي تنص على حظر غسل الأموال المتحصلة من جرائم زراعة وتصنيع المخدرات والمؤثرات العقلية وجلبها وتصديرها والاتجار فيها، وجرائم اختطاف وسائل النقل وخطف واحتجاز الأشخاص والإرهاب وتهريب الأسلحة والذخائر والمفرقعات أو الاتجار فيها دون ترخيص والجرائم المنصوص عليها في البابين الثالث والرابع من قانون العقوبات – كالسرقة وخيانة الأمانة والنصب والدعارة والجرائم الواقعة على الآثار، وكذلك الجرائم المنظمة – التي ينص عليها في الاتفاقيات الدولية التي تكون مصر طرفًا فيها، وذلك سواء وقعت هذه الجرائم في الداخل أو الخارج متى كانت معاقبًا عليها في القانون المصري.
سادسًا: موقف الشريعة الإسلامية:
اتضح لنا من الفقرات السابقة أن الشريعة الإسلامية تحرم وتجرم عملية غسيل الأموال بالمعنى الاقتصادي الحديث الذي يعني اعتبار الأموال المحرمة أموالاً مشروعةً عن طريق عدة إجراءات بنكية ومصرفية واستثمارية هروبًا من القوانين وإخفاءً للحقائق، وإيهامًا للناس.. لأن ذلك في الشريعة الإسلامية يمثل عدة جرائم من الكذب والتزوير والنفاق والخداع؛ فهو يضيف إلى الجريمة الأصلية في اكتساب المال الحرام عدة جرائم، وأن هذا الغسيل ليس غسيلاً شرعيًّا يطهر المال وينظفه بل يزيده نجاسةً وتلوّثًا؛ فهو مجاز غير صحيح، ومن هنا فإن جميع القوانين المحلية والعالمية التي صدرت ضد غسيل الأموال بهذا المعنى توافق الشريعة الإسلامية التي سبقت جميع القوانين والنظم إلى تحريم ذلك وتجريم فاعله، وعلى هذا لايجوز أن يكون في البلاد الإسلامية ولا أن يقوم أي مسلم بارتكاب هذه الجريمة والتعاون أو التعامل فيها، وعلى ولي الأمر إذا ظهر مثل ذلك أن يقوم بمصادرة هذه الأموال المحرمة وأن يعاقب مرتكبها بما يردعه ويزجر غيره عن مثل ذلك.
أما الغسيل الشرعي لمثل هذه الأموال المحرمة فيكون كما بينا بالتخلص منها بالكلية إن كانت كلها حرامًا، وبالتخلص من الجزء المحرم منها إن كان بعضهاحلالاً وبعضها حرامًا، ويكون التخلص الشرعي بإعادة الأموال المحرمة إلى أصحابها إن كانوا معروفين أو بالتصدق بها على الجمعيات والمشاريع الخيرية ولا يستبقي من ذلك إلا القدر الضروري لستر عورته وبقاء روحه، وسكنه ودوائه، كما يكون أيضًا بتصحيح البيوع الفاسدة التي سبق بيانها وبدون ذلك التخلص والتصحيح يبقى مستحل هذه الأموال المحرمة مرتكبًا لكبائر الإثم والفواحش وعلى خطر عظيم في الدنيا والآخرة.
كما أن الشريعة الإسلامية تفرض على أصحاب الأموال الحلال غسيلاً شرعيًّا وذلك بإخراج الحقوق الشرعية منها كالزكاة والصدقات والنفقات والضمانات.. الخ.
وأن المسلم إذا لم يخرج هذه الحقوق الشرعية تلوث ماله الحلال بالحرام وأصبح على خطر عظيم في الدنيا والآخرة كما سبق بيانه.
ومن هذا وذاك يتبين أن الغسيل الشرعي للأموال حلالاً أو حرامًا يعني تطهيرها حقيقةً بإخراج النجاسات منها والتخلص من الحرام وأداء الحقوق الشرعية، أما الغسيل الحديث للأموال الحرام كلاًّ أوبعضًا فمرفوض شرعًا وقانونًا؛ لأنه جريمة مركبة من جرائم عديدة لا يجوز للمسلم أن يرتكبها أويتعامل مع من يرتكبها وإلا تعرض للعقاب الشرعي والقانوني في الدنيا والآخرة.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33