دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور السيد رزق الطويل
من القوانين الثابتة، والمناهج الراشدة التي جاء به الكتاب الحكيم على طريق بناء المجتمع السوي، ودعم أركانه، وتثبيت قواعده، قانون التغيير.
والتغيير في منهج الإِسلام ليس مجرد حركة آلية عشوائية، تسيرها الظروف والملابسات، وتوجهها الأهواء والشهوات، ويحكم حركتها منطق يسود قوةً وغلبًا بالحق أو الباطل، وإنما هو طريق واضحة المعالم، على حافتيها الهوى والمغريات، تنتهي بمسالكها إلى غاية لا ريب فيها هي سعادة الدنيا وفلاح الآخرة، وقد جاء هذا القانون الخالد في قول رب العالمين:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ سورة الرعد آية:11.
وهنا نرى الآية التي وعت قانون التغيير ألقت ضوءًا جديدًا، فمن داخل النفس يبدأ التغيير. وعندما تتغير النفوس صوب الحق الواضح، واليقين الصادق، والتوحيد الخالص، والشريعة الهادية يتغير كل شيء، يتغير الأفراد، وتتغير الأسر، ويتغير المجتمع صوب الحق والعدل، ويعلو بنيان الفضيلة.
وعبادة الصيام التي فرضها رب العالمين في شهر رمضان تؤدي دورًا فعالاً على طريق هذا التغيير إذ هي تؤكد أمرين:
أولهما: أن التغيير ممكن .
والآخر: أن التغيير واقع.
فأما إمكانية التغيير، فتظاهرها شواهد لا حصر لها:
أما يتغير في رمضان يوم الإنسان المسلم وليله؟ أما تتغير فيه أعرافه وعاداته؟!.
أما تتغير في المجتمع المسلم سماعته وملامحه؟
ألسنا نرى محاولةً – على نحو ما لتغيير السلوك وترشيده؟
ألسنا نرى وسائل الإِعلام في بلاد المسلمين – على ما بها من ضياع فكري، وخلط منهجي – تحاول أن تقدم للمسلمين جديدًا من مناهجها ومقولاتها بمناسبة الشهر الكريم؟
وكأن عبادة الصيام – في تصوري – جاءت لتؤكد للمجتمع المسلم كل عام – إذا انحرف به الهوى، وفعلت به السبل، وتوزعته أسباب الضلال – أن التغيير ممكن؛ بل إنه واقع، وأن التحول يدور بدليل ما يتغير في المجتمع عندما يظله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
إن أهداف الصيام وفي مقدمتها الارتباط الوثيق بالسلوك الأخلاقي الرشيد تعدّ لونًا من التغيير في واقعنا الاجتماعي.
كذا الإقبال على قراءة القرآن الكريم ومدارسته، وهناك علاقة بين الصيام والقرآن إذ كان رمضان وعاء لهما جميعًا:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيْ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰـتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ سورة البقرة آية: 72.
كما كان ليل المجتمع المسلم في رمضان ذا صبغة متميزة، وكل هذه صور من التغيير.
الصيام المثمر
ففي أول رضمان صامه المجتمع الفاضل فرضت عليهم أول معركة في تاريخ الدعوة، ولنا معها وقفة متأملة وواعية، إذ انتهت بنصر عظيم حتى سمى القرآن يومها يوم الفرقان، وقضوا بقية رمضان في النصر العظيم، ومشاعره الحلوة، شاكرين لله أنعمه.
وفي نهاية رمضان عاش المسلمون أول عيد في تاريخ الإسلام، بديلاً من أعياد الجاهلية، ولهوها وأعرافها الباطلة.
كل هذه التغييرات وقعت في أول رمضان صامه المسلمون.
فالصيام إذن عبادة بناءة، تبنى العقيدة الصحيحة بالتقوى، وتبنى الفرد المسلم باليقين والإخلاص، والعزيمة المؤثرة، وتبنى المجتمع بالخلق الفاضل، وتحول أمل الإخاء والمساواة إلى واقع.
والقادر على الصوم لابد أن يقدر على العمل المنتج، ومن يتسطع كبح جماح شهواته فله من القدرة على الانطلاق بها نحو بناء الخير والفضيلة، وهذا هو التحدي الذي يواجبه أمتنا.
إنها تريد الخلاص من هوان بالغ، ومذلة طاغية، وفرقة طاحنة، وهي تعيش في أحلام مجد غارب، حضارة إنسانية تتلمذت في رحابها الحضارات المعاصرة وتراث حافل بكنوز العلم، وجواهر المعرفة، وكانت لها مهابة في المشارق والمغارب حتى إن الخليفة المعتصم خرج بجيش عظيم خارج حدود الدولة الإسلامية من أجل أن ينتصر لامرأة صرخت في وجه طغيان الرومان فقالت: وا معتصماه !.
فهل إلى استعادة هذا كله من سبيل؟
إني أقول إن أمةً عرفت عبادة الصيام، حتى أصبح الصوم جزءًا من سلوكها السنوي، ومنهاجًا يتربى في ظلالة الفرد القوي، ويتكون المجتمع الصالح – لا ينبغي لها أن تسأل هذا السؤال لأن من عرف الصيام عرف السبيل إلى التغيير.
والصيام مثل لإمكان التغيير فلا بد أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله لنا واقعنا إلى الصورة التي نتمناها ونرجوها.
المقولات الإسلامية في الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة تؤكد هذه المهمة التي تؤديها عبادة الصيام.
من ذلك قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ سورة البقرة آية: 183، 184.
فمهمة الصوم كما تحددها الآية الكريمة ماثلة فيما يرجى من ورائها من آثار تربوية تغير في سلوك الإنسان المسلم ألوانًا من الانحراف، وتتجه به نحو تقوى الله عز وجل، وهذا التغيير في السلوك الفكري هو المنطلق القوي لكل تغيير في سلوك الأفراد والجماعات، ويؤكد النبي عليه الصلاة والسلام مهمة الصيام في تغيير السلوك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وهذه المقولة النبوية الحكيمة فيها دلالة واضحة تشير إلى أن الصوم لابد أن يغير من السلوك الأخلاقي، وإذا لم يتم هذا فلا قيمة للتغييرات المادية المرتبطة بمواقيت الطعام والشراب؛ بل نجد الرسول عليه الصلاة والسلام، ينصح المسلم بأن يضع نصب عينيه هذا التغيير، ويذكر به نفسه إن غفلت عنه.
يروي الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم) وكأن عبارة “إني صائم” في الحديث الشريف، شعار للتغيير يواجه به المسلم نفسه إذا انحرفت أو حادث.
وليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ليل متميز، فيه من السلوك الإسلامي ما ليس في غيره من ليالي الشهور الأخرى، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جوادًا، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان يأتيه جبريل، فيتدارسان القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
من هنا أستطيع أن أقول إن الصيام يربي في الإنسان المسلم القدرة على تغيير ذاته ويربي في مجتمع المسلمين القدرة على تغيير واقعه.
إن وراء عبادة الصيام عزيمة ماضيةً ذات عطاء واسع الحدود متى توافر في الصائم الصدق وتحقق الإخلاص.
ولنلق نظرةً واعيةً على مجتمع المسلمين في أول رمضان صاموه بعد أن فُرضت عليهم هذه العبادة الكريمة. لقد أدوا ما تلزمهم به شعائر هذه العبادة من الامتناع عن الطعام والشراب، وسائر شهوات النفس سواء في ذلك أغنياؤهم وفقراؤهم.. كما سارعوا إلى البذل والعطاء، وتابعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوجيهات الكاشفة عن قيمة الصيام وحقيقة مهمته.
نحن في حاجة إلى الصدق في صيامنا، وأن ننظر رمضان نظرةً واعيةً تختلف تمامًا عن نظرتنا التي تعودناها إليه فلا نتصور رمضان شهر الأطعمة الشهية، والمشارب اللذيذة، والسهرات المتهافتة، ولا ينبغي أن تفهم وسائل الإعلام في بلاد المسلمين أن رمضان شهر المسلسلات والفوازير؛ لأن هذه النظرة هي التي ضيّعت منا القوة المؤثرة في الصيام. ولأجل هذا يصوم المسلمون، ولا أحد يحس بهم؛ لأنهم لا يجدون لصيام هؤلاء القوم ثمرةً.
لقد صام أسلافنا فهزّوا كيان الباطل في بدر، وفتحوا مكة، ثم استسلمت على إثرها ثقيف والطائف وعبروا إلى الأندلس، وركبوا قمم جبال البرانس، وقهروا الصليبيين في حطين، وهزموا جحافل التتار على أبواب مصر في عين جالوت.
ومن هنا أحس العالم بمقدرة هؤلاء الصائمين؛ بل إني أقول: لقد صام هندي فروَّع الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس حينذاك؛ لأن المستعمرين أحسوا في صيامه قوةً مهيبةً، وعزيمةً نفاذةً.
لقد صام هندي فروَّع أمةً، وَمَا ضَرّ فردًا صوم مليون مسلم.
فهل لنا أن نستفيد من دروس الصيام، ومن الآثار التربوية لرمضان فنكون في صيامنا صادقين مخلصين واعين؟ أؤكد أننا لو فعلنا ذلك لعاد المجد الغارب، ودنا الأمل القصى وتحققت الأمنية الحلوة.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33