دراسات إسلامية
بقلم : د. طه عبد السلام خضير
الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل التي أكدها الإسلام وحث عليها ورغب فيها، وإنما قلنا من الفضائل التي أكدها الإسلام؛ لأن الوفاء من السجايا الكريمة المركوزة في الفطرة السليمة النقية، وحقيقة الوفاء أن تؤدي ما التزمت به نحو الله تعالى ونحو نفسك ونحو أهلك وعشيرتك؛ بل نحو الناس أجمعين أداءً كاملاً غير منقوص .
أما فضله: فإن الوفاء وليد الأمانة وعنوان الصدق ودليل الشجاعة والصبر وقوة الاحتمال، وإن الوفاء لا يوجد إلا حيث توجد الجرأة والصراحة والشجاعة والصبر على ما يكلف به؛ فربما كلفك الوفاء بالعهد أعز ما تملك .
إن الوفاء خلق عظيم لا يتصف به إلا عظيم؛ ولذلك وصف الحق تبارك وتعالى به نفسه أنه تعالى يخبر بأنه لايظلم مثقال ذرَّة، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ الأحقاف: آية19، ولقد وعد الله المؤمنين إذا هم باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وأكد هذا الوعد بأنه حق عليه وأنه في الكتب الثلاثة المنزلة يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة: آية 111، ولقد أثنى الله على رُسله وأنبيائه بالوفاء. يقول في إبراهيم عليه السلام ﴿أمْ لَمْ يُنَبَّأ بِمَا فِيْ صُحُفِ مُوْسىٰ* وَإبْرَاهِيْمَ الَّذِيْ وَفَّىٰ﴾ النجم: الآيتان 36، 37، ومدح به إسماعيل عليه السلام؛ بل لقد قدمه على النبوة والرسالة في الذكر ﴿وَاذْكُرْ فِيْ الْكِتَابِ إسْمَاعِيْلَ إنَّه كَاْنَ صَاْدِقَ الْوَعْدِ وَكَاْنَ رَسُوْلاً نَبِيًّا﴾ مريم: آية 54، وفي الحق لقد كان امتحانًا قاسيًا لإبراهيم، ذلكم الشيخ الكبير، ولإبنه ووحيده إذ ذاك إسماعيل حين رأى إبراهيم عليه السلام في منامه أنه يذبح ولده وثمرة فؤاده وفلذة كبده وهو يعلم أن رؤيا الأنبياء وحي من الله عز وجل؛ فهو يعرض على ابنه أمرًا صعبًا، لا يكلفه جهدًا أو مالاً؛ فقد يعوض الجهد والمال ولا يكلفه بعض أعضائه فيكون العوض في البعض الآخر؛ ولكنه أمر يكلفه أعز ما يملك، يكلفه نفسه وروحه، يقول له: (يَاْبُنَيَّ إنِّي أرَىٰ فِي الْمَنَاْمِ أنِّيْ أذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاْذَا تَرٰى﴾ الصَّافات: آية 102، ويدرك الإبن الوفى أن الاختيار له في ذلك وإنما هو أمر من الله عز وجل وامتحان له ولأبيه وأن نجاح الأب في تنفيذ ما أمر به ونجاح الإبن في امتثال أمر الله طائعًا صابرًا راضيًا؛ فهو يعبر عن ذلك بقوله: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ الصافات: آية 102، ومن جميل إيمان إسماعيل بربه وعميق ثقته في عونه أنه يقدم مشيئة الله على صبره يشير بذلك إلى أنه لا وفاء ولا توفيق ولا صبر ولا احتمال إلا بعون ربه ومشيئته جل وعلا ﴿سَتَجِدُنِيْ إنْ شَاْءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِيْنَ﴾؛ فلما أسلما ونجحا في عظيم الابتلاء أكرمهما الله عز وجل في الدنيا بالفداء وطيب الثناء وخلود الذكر وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ الصافات: الآيات 103-109، ولنا في وفاء إمام المرسلين – صلوات الله وسلامه عليه – أسوة حسنة؛ فلقد عرف صلى الله عليه وسلم بالوفاء واشتهر به بين قومه منذ صغره ومن قبل أن يكون نبيًّا ورسولاً، ويروى أن فاطمة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب خادمًا وهي ابنته تريد خادمًا يساعدها فقد كانت تدير الرحى بيديها الضعيفتين؛ لتهيئ الطعام لها ولأولادها ولزوجها وكان عند أبيها – صلوات الله وسلامه عليه – ثلاث من السبى كان قد أعطى اثنين وعنده واحد فلما قالت فاطمة ذلك، ذكر وعده لأبي الهيثم فقال لها: وكيف بوعدي لأبي الهيثم؟ ثم آثره على ابنته بالخادم وفاء بوعده.
وقد تبرد حرارة الوفاء فيتلاشى أو يضعف بالموت أو بالغياب الطويل؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وفاؤه للميت كوفائه للحي على السواء؛ فقد روي أنه كانت تأتيه المرأة فيبش في وجهها ويكرمها وربما أعطاها الشاة كلها أو يعطيها معظم أعضائها؛ فتقول له عائشة – رضي الله عنها – : يارسول الله! من هذه المرأة؟ أتعرفها؟ فيقول – عليه الصلاة والسلام – : “أنها كانت تأتينا أيام خديجة” يعني أنها من صويحبات خديجة “وإن حسن العهد من الإيمان”، ومن أعظم الأدلة على وفائه لزوجه خديجة – رضي الله عنها – ما رُوِيَ في الصحيح أن عائشة – رضي الله عنها – أخذتها الغيرة من كثرة ذكره لخديجة – رضي الله عنها – وثنائه عليها فقالت له يومًا يارسول الله: تقول خديجة .. خديجة – وهل كانت إلا عجوزًا أبدلك الله خيرًا منها؛ فتألم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر ذلك على وجهه وقال: “ما أبدلني الله خيرًا منها”، ثم جعل يعدد ما امتازت به زوجه خديجة على غيرها من المآثر والفضائل فقال: “لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد؛ فلا والله ما أبدلني الله خيرًا منها” فأخذت بذلك عائشة – رضي الله عنها – درسًا ألا تذكرها بعد ذلك أبدًا بدافع الغيرة.
لقد أوجب الإسلام على معتنقيه الوفاء بالعهد والالتزام به واحترام المواثيق، ونص دستور حياتهم على ذلك في غير آية من آيات القرآن الحكيم يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ النحل: آية 91، ويقول ﴿وَأوْفُوْا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُوْلاً﴾ الإسراء: آية 34، ويرتفع الإسلام بالوفاء بالعهد؛ فيجعله من خلال البر، ويمدح المتصفين بهذه الخلال بأنهم هم الصادقون وهم المتقون، يقول تعالى: ﴿وَلـٰـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّيْنَ…﴾، إلى أن قال: ﴿وَالْمُوْفُوْنَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوْا وَالصَّابِرِيْنَ فِيْ الْبَأسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِيْنَ الْبَأسِ أوْلئِكَ الَّذِيْنَ صَدَقُوْا وَأوْلـٰـئِكَ هم الْمُتَّقُوْنَ﴾ البقرة: آية 177، ثم يجعل الوفاء من الصفات التي تؤهل المتصف بها إلى الفوز بالفردوس والخلود في النعيم المقيم، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨)وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ المؤمنون: الآيات 8-11، ولقد كان الوفاء ديدن المسلمين السابقين، يحدِّث بذلك تاريخهم المشرق ويشهد به ماضيهم المشرق، إن في التاريخ الإسلامي وقائع لا تحصى من وفاء المسلمين بعهودهم، وهي صفحات مجد وفخار تشهد بحرصهم على الوفاء امتثالاً لأمر ربهم واتباعًا لسنة نبيهم واقتداءً بصاحب الخلق العظيم – صلوات الله وسلامه عليه – صفحات تشهد للمسلمين بأنهم هم أول من وضع هذه القاعدة الأخلاقية الرفيعة موضع التطبيق؛ لقد علمهم دينهم أن الوفاء بالعهد شهامة وقوة، فوق أنه عدالة وفضيلة. إن العهد قوة وإن التزامه قوة، به يأمن الناس جانب الاعتداء، وبالأمن تثبت دعائم السَّلام، وبالسَّلام تتوفر الطمأنينة والاستقرار.
إن من أروع ما سجله التاريخ في صفحات أمجاد الإسلام هذه الصورة الرائعة الناطقة بالوفاء حتى في أحرج المواقف.
فقد جيء بالهرمزان زعيم الفرس أسيرًا إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ فلما كان هذا الزعيم الفارس بين يديه عرض عليه الخليفــة الإسلام فأبى. وقال يا أمير المؤمنين: إنما أعتقد ما أنا عليه، قال له عمر: إذاً تُقْتَلُ. فلما جيء بالسيف قال يا أمير المؤمنين: شربة ماء خير من قتلي على ظمأ. فسمح له عمر بشربة الماء فلماجاءه الماء تناوله وقال: أأنا آمن حتى أشرب الماء؟ قال: نعم لك الأمان حتى تشرب الماء. فأخذ الرجل الداهية الماء وسكبه على الأرض، وقال: يا أمير المؤمنين: الوفاء نور أبلج. قال عمر: نعم ولك التوقف عن قتلك والنظر في أمرك. وعرف الرجل يقينًا أن دين عمر هو الذي ألزمه الوفاء في مثل هذا الموقف فقال: الآن أعلن إسلامي طائعًا وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول لله، وأسلم بصدق؛ فقال عمر: ويحك لقد أسلمت خير إسلام فما الذي أخرك؟ قال يا أمير المؤمنين: أحببت ألا يُقال إني أسلمت جزعًا. وكان بعد ذلك من خيرة القادة الذين يستشيرهم عمر في الحروب.
درجات الوفاء:
إن للوفاء بالعهد درجاتٍ أعلاها: وفاؤك أيها المسلم نحو ربك بما التزمت به بمقتضى إيمانك به ربًّا وإنما يتحقق ذلك بامتثال جميع أوامره واجتناب جميع نواهيه والجهاد لإعلاء كلمته والمسارعة إلى مرضاته، وإنما كان أعلى الدرجات لأنه قد يكلفك الروح والمال في سبيل محبة الله ورضاه وهذه منزلة النبيين والشهداء والصديقين والصالحين وكم فاز بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين.
ثم تكون درجة وفائك مع نفسك وإنما يتحقق الوفاء مع نفسك بأمرين:
أحدهما: أن لا تحرّمها ما أحل الله لها من الطيبات يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ المائدة: آية 87.
الثاني: ألا توردها موارد التهلكة فتحميها من الأخطار وتحفظها من الشرور والآثام يقول تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوْا بأيْدِيْكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وأحْسِنُوْا﴾ البقرة: آية 195، إن الذين يعبون من الشهوات والملذّات غير المشروعة بحجة أنهم يمتّعون أنفسهم واهمون بل هم لأنفسهم من الظالمين.
تفنى اللذائذ يامن نال شهوتـه
من المعاصي ويبقـى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء لا انفكاك لها
لا خيرَ في لذّة من بعـدها النار
أما الدرجة الثالثة للوفاء: فهي وفاؤك مع غيرك من الناس، وإنما يتحقق ذلك بأن تؤدي ما التزمت به نحو أهلك وولدك وإخوانك؛ بل نحو الناس أجمعين وفيًا بعهدك لهم ووعدك إياهم. ولن تكن وفيًّا إلا بأداء ما وجب عليك نحوهم وأن تعطي كل ذي حق حقه فتحسن الرعاية والتربية لأولادك، وتكون دائم النصح والتوجيه لهم ولزوجك، ومن الوفاء أن ترشد الحائر وتهدي الضال وتعين المحتاج وتغيث الملهوف وتواسي المنكوب وتفرج كربة المكروب؛ فإنما المؤمنون إخوة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وإنما كانت درجات الوفاء على هذا الترتيب أولاً مع الله ثم مع نفسك، ثم مع الناس؛ لأنه من لم يرزق الوفاء مع الله ولا مع نفسه فلن يكون وفيًّا مع غيره من باب أولى.
ومن أوجب الواجبات في الوفاء لغيرك: أداء الدين إلى الدائن لاسيّما عندحلول الأجل؛ فلقد قال النبي – صلوات الله وسلامه عليه – : “من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله” بل يخبرنا في حديث آخر بأن من تزوج امرأةً على مهر وخدعها ولم يعطها حقها لقي الله يوم القيام وهو زان، ومن أخذ دينًا ثم خدع صاحبه وما طله فلم يعطه حقه لقي الله يوم القيامة وهو سارق.
ألا فاعلموا أيها المسلمون أن حسن العهد من الإيمان، وأنه من رزق الوفاء فقد رزق الخير كله، وأن المؤمن عند كلمته، وفيا بعهده لا يغدر ولا يخون ممتثلاً في ذلك سيرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: “المسلمون عند شروطهم”.
ثمرات الوفاء بالعهد والتحذير من الغدر:
إن الوفاء بالعهد يثمر الكثير من خصال الخير فهو يثمر قوة الثقة، وإذا ما أنست من وفاء إنسان قويت ثقتك فيه وارتاحت نفسك إليه، إنه يثمر الاطمئنان والأمانة، يثمر النجدة والشهامة والمروءة، والمجتمع الذي يسوده الوفاء مجتمع متين البناء، تظلّله روح المودة والصفاء ويشدّ أزره التعاون البناء، ومن ثمراته أن الوفاء قد ينجي من الهلاك: ويبدو ذلك فيما سجّله التاريخ من قصة الرجل الطائي مع النعمان بن المنذر، وكان ملكاً على الحيرة بالعراق، وملخصها: أن النعمان بن المنذر كان له يومان، يوم بؤس لا يلقى فيه أحدًا إلا قتله، ويوم سرور لا يلقى فيه احدًا إلا منحه الكثير من عطاياه، وذات يوم خرج رجل من طيئ يصطاد ليطعم أولاده؛ فأكرمه الله في آخر النهار بأرنب وأثناء عودته لقيه النعمانُ بن المنذر وكان في يوم بؤسه؛ فقال لابد من قتلك؛ فقال الرجل الطائي أصلح الله الملك لقد تركت أولادي يكاد الجوع يقتلهم؛ فلو أذنت لي حتى أعود إليهم فأطعمهم فأوصي بهم ثم آتيك في اليوم الثالث لتفعل بي ما تشاء، فرقّ الملك لحاله وقال: لا آذن لك حتى يضمنك ضامن فنظر الرجل فيمن حوله فوقعت عينه على رجل يعرفه فقال له: ياشريك بن عمرو: هل من الموت محالة؟ اضمني عند الملك حتى أطعم أولادي وآتيك في اليوم الثالث. فقال شريك: أصلح الله الملك، هو عليّ، وانطلق الرجل إلى أهله وجاء اليوم الثالث وأحضر الملك شريك بن عمرو وقال له: أنت ضامن والضامن غارم، وإذا أخل الطائي بوعده فلابد من قتلك.
فقال له شريك: ليس لك عليَّ من سبيل حتى يمضي النهار، وفي آخر ذلك اليوم الثالث هيأه للقتل، فقال شريك: أمهلني قليلاً فإنى أرى شبحًا من بعيد لعله صاحبي، ثم أسفر الشبح عن ذلك الرجل الطائي وقد حضر، فتعجب الملك لذلك، ووجه إليهما هذين السؤالين فقال: يا شريك بن عمرو ما الذي حملك على أن تضمن الرجل وربما أخلف وعده فتقتل به؟ قال شريك: إنما فعلت ذلك حتى لا يقال ضاعت المروءة من الناس، قال الملك: وأنت أيها الطائي: لقد نجوت بنفسك فما الذي دعاك إلى أن تحضر لتقتل وفي ذلك إتلاف حياتك؟ قال الطائي: أصلح الله الملك إنما جئت أسلم رقبتي للقتل حتى لا يقال ضاع الوفاء من الناس؛ فقال الملك في دهشة وعجب: والله لا أكون ألأم الثلاثة قد عفوت عنك حتى لا يقال: ضاع العفو من الناس وكان الطائي قد ألحّ عليه أهله ألا يفي بوعده حتى ينجو من القتل فصمم على الوفاء بعهده وأنشد:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي
فأبيتُ عند تجهم الأقـوال
إني امرؤ مني الوفاء سجيـة
وفعال كل مهذب مفضال
هذه بعض ثمراته في الدنيا، أما في الآخرة فأجر عظيم وعد به الرب العظيم، والعظيم إذا وعد بعظيم فإنه لايقدر عظمة الأجر العظيم إلا العظيم يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ الفتح: آية10.
التحذير من الغدر ونقض العهد :
إن الإسلام يمقت الغدر ويحذر من نقض العهد بأي صورة من الصور، ولأي غرض من الأغراض، ذلك لأن الميثاق الذي يعقده المسلم لا يلتزم به أمام الناس خاصةً؛ لأنه ينعقد في نفس الوقت بينه وبين الله، كيف وقد جعل ربه شهيدًا وكفيلاً على عقوده والتزاماته، يقول تعالى: ﴿وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ النحل: آية91، إن الوفاء بالعهد متصل أوثق اتصال بعقد الإيمان وليس لقوة في الأرض أنتحله منه، ولا لباعث أن يؤثر فيه، سواء في ذلك باعث منفعة، أو طلب جاه أو نفوذ، أوباعث اجتماعي كزيادة الرخاء، والتوسع في الاقتصاد، والتوازن السياسي، إلى غير ذلك من البواعث والمبررات التي تغري بنقض العهد فإن العهد أعز شأنا وأغلى ثمنا من كل هذا، إن الله تعالى يقول: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ النحل: آية 95.
إن الذي ينقض العهد إنسان أحمق لا مروءة له ولا خلاق، ولقد شَبَّه القرآن الكريم حال من ينقض العهد بحال المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها فهي تعالج الصوف حتى يصير خيطاً سويًا، ومتينًا قويًّا، ومحكمًا مستقيمًا، وصالحًا للحياكة والصياغة، والنسج، ثم تهجم عليه فتوهن قوته وتحل شعيراته، وتنقض إحكامه، وتعيده صوفًا كما كان يقول تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ﴾ النحل: آية 92، ويبين الكتاب الكريم عاقبة نقض العهد بأن في ذلك زللاً للقدم بعد ثبوتها، فضلاً عن الوعيد بالعذاب الشديد، يقول تعالى: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ النحل: آية 94.
لقد ذكَّر القرآن الكريم أولي الألباب ووعدهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها؛ فكانت أولى صفاتهم أنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ الرعد: آية 19، 20، أما الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل فقد سجّل القرآن عليهم اللعنة وسوء الدار، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ الرعد: آية 25. ثم هو في آية أخرى يطلق عليهم أنهم الفاسقون ويسجل عليهم الخسران فيقول: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ البقرة: الآيتان: 26، 27.
وزيادةً على ذلك فلقد جعل القرآن الكريم الخروج عن فضيلة الوفاء كالخروج عن فضيلة الإنسانية بالكلية يقول تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ الأنفال: الآيتان 55، 56، لقد ارتفع الإسلام بالعهد والمواثيق إلى ذروة ليس للبشر بها عهد من قبل فأوجب الوفاء حتى مع غير المسلمين وحرم نقض العهد لأي سبب حتى ولو كان هذا السبب هو نصرة المسلمين يقول تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ الأنفال: آية72، بل لقد أمر بإتمام العهد للمشركين إلى مدتهم ماداموا مستقيمين على عهدهم. قال تعالى: ﴿إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة: آية4.
وكفى الغدر انحطاطاً أنه من علامات النفاق، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ىية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان”.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33