دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور عبد العظيم محمود الديب
تقدر الأبحاث والكتب التي كتبها (المستشرقون) عن الإسلام، في الفترة من مطلع القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، بنحو 60000 ستين ألف كتاب. فلم كل هذا الاهتمام؟؟ لم كل هذا العناء؟؟ ستون ألف بحث وكتاب، في تاريخ الإسلام، وعقائده، ومذاهبه، وفقهه، وسيرة نبيه.. الخ .. لم كل هذا؟!!.
إن الاستشراق يرمي من وراء ذلك إلى غايتين:
أولاهما – حماية الإنسان الغربي من أن يرى نور الإسلام؛ فيؤمن به، ويحمل رأيته، ويجاهد في سبيله؛ كما كان من المسيحيين في الشام، ومصر، والشمال الإفريقي، وأسبانيا، من قبلُ، حين دخل الإسلام هذه الأصقاع؛ فدخل أهلها في دين الله أفواجًا، وصاروا من دعاة هذا الدين الحنيف، وحماية والمنافحين عنه.
(بل أعجب من ذلك أيضًا أن دخلوا في العربية دخولاً غريبًا، وصار لسانهم لسانها؛ بل أعجب من ذلك أيضًا، أن خرج من أصلابهم كثرة كاثرة من العلماء الكبار، الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم)(1).
كانت هذه غاية الاستشراق منذ نشأته، محاولة تبشيع صورة الإسلام وأهله؛ حتى لايتتابع من بقي من رعايا الكنيسة على الدخول في الإسلام مثلما فعل أضرابهم من أهل الشام ومصر والشمال الإفريقي، والأندلس.
كان هذا الفزع يسوق حركة الاستشراق منذ نشأته، ويوجهه لتعبئة أتباع الكنيسة، ورعاياها، وتجييشهم، ووضعهم تحت السلاح دائمًا.
وثانيتهما(2): (الغاية الثانية للاستشراق) هي معرفة الشرق، ودراسته، أرضه، ومياهه وطقسه، وجباله وأنهاره، وزروعه وثماره، وأهله، ورجاله، وعلمه وعلمائه ودينه، وعقائده، وعاداته، وتقاليده، ولغاته و… و… كل ذلك لكي يعرف كيف يصل إليه؛ فقد ظلت دار الإسلام مرهوبةً مخوفةً، لم تستطع الصليبية المقهورة أن تحاول – مجردة محاولة – اختراقها لعدة قرون، وكانت المناوشات، والاحتكاكات على الثغور والأطراف تحسم دائمًا لصالح الإسلام والمسلمين.. ولما حاولت الصليبية بجحافلها الغاشمة اختراق ديار الإسلام في مطلع القرن السادس الهجري، رجعت بعد نحو قرنين (489-690هـ) من الزمان مقهورةً مدحورةً.
ولكنها ما فتئت تدبر وتقدر، وتحاول الالتفاف حول ديار الإسلام، لما استعصى عليها اختراقها، وكان الاستشراق هو رائدها الذي يرتاد لها الطريق.
(كان المستشرقون جند المسيحية الشمالية، الذين وهبوا أنفسهم للجهاد الأكبر، ورضوا لأنفسهم أن يظلوا مغمورين، في حياة بدأت تموج بالحركة، والغنى والصيت الذائع، وحبسوا أنفسهم بين الجدران المختبئة وراء أكداس من الكتب، مكتوبةً بلسان غير لسان أممهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كل اللهيب الممضي، الذي في قلب أوربة والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام)(3).
ومن هؤلاء كان جيش من أهل الخبرة بكل ما في دار الإسلام قديمًا، وماهو كائن فيها حديثًا، من دقيق العلوم عند خاصة المسلمين، إلى خفي أحوال المسلمين، من عاداتهم، ومعايشهم، وطرائق أفكارهم، وخصائص حياتهم، إلى علم وثيق بشأن دولهم وأقاليمهم. وبلدانهم التي تغطي أكبر رقعة من الأرض.
وهم قد جمعوا كل ذلك، وعكفوا عليه، وتأملوه، ودرسوه، ونظموه ورتبوه بعناية فائقة، وبهمة وجلد وتنبه ونفاذ بصر.
فكل دارس منهم مأمون عند كل أوروبي، من أول طبقة الرهبان، والساسة إلى آخر رجل من جماهير الناس – مأمون على ما يقوله، مصدق فيما يقوله … متصف بصفتين لابد منهما حتى يكون مأمونًا مصدقًا:
(الصفة الأولى): أن في قلبه كل الحمية التي أثارها الصراع بين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دارالإسلام الممتنعة على الاختراق..
(الصفة الثانية): أن في صميم قلبه كل ما تحمله قلوب خاصة الأوروبيين وعامتهم وملوكهم، وسوقتهم، من الأحلام البهيجة والأشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دارالإسلام، من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة(4)…
وهكذا كان من عمل المستشرقين، ارتياد ديار الإسلام و (معرفتها) و (التعريف بها) حتى يضمن للزحف الصليبي الجديد أن يسير على هدى وبصيرة.
وإذا كنا نقول هذا استنتاجاً صحيحًا، من قراءة الوقائع والأحداث ومما تنطق به جولات الصراع الذي دار – ويدور – بين الصيلبية، وديار الإسلام، إذا كنا نقول هذا استملاءً من لسان الحال، حال التاريخ القريب والبعيد؛ فقد صدقه المستشرقون أنفسهم، وقالوه بلسان المقال؛ فهذا هو المستشرق الأمريكي (روبرت بين) يقول في مقدمة كتابه (السيف المقدس): إن لدينا أسبابًا قويةً لدراسة العرب، والتعرف على طريقتهم، فقد غزوا الدنيا كلها من قبل، وقد يفعلونها مرةً ثانيةً، إن النار التي أشعلها محمد لاتزال تشتعل بقوة، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء)(5).
وبهذه الصراحة أو أشد منها – إذا كان هناك أشد منها – يأتي قول الأمير (كايتاني) ذلك الأمير الإيطالي الذي (جهز على نفقته الخاصة ثلاث قوافل؛ لترتاد مناطق الفتح الإسلامي، وترسمها جغرافيًا وطبوغرافيًا، وجمع كل الدوريات والأخبار الواردة عن حركة الفتح في اللغات القديمة.. واستخلص تاريخ الفتح في تسعة مجلّدات ضخمة بعنوان (حوليات الإسلام) بلغ بها سنة أربعين هجريةً.. قال هذا الأمير الذي استهلك كل ثروته الطائلة في هذه الأبحاث؛ حتى أفلس تمامًا، قال في مقدمة كتابه (حوليات الإسلام) هذه: إنه إنما يريد بهذا العمل أن يفهم سرَّ المصيبة الإسلامية التي انتزعت من الدين المسيحي ملايين من الأتباع في شتى أنحاء الأرض، ما يزالون حتى اليوم يؤمنون برسالة محمد، ويدينون به نبيًّا ورسولاً)(6).
فهو بهذا يعلن عن هدفه بغاية الصراحة والوضوح: (أن يفهم سرّ المصيبة الإسلامية) أي سرّ الإسلام، ومصدر قوته.
ويكتب المستشرق الألماني (باول شمتز) كتابًا يتناول فيه عناصر القوة الكامنة في العالم الإسلامي، والإسلام؛ فيسمي هذا الكتاب (الإسلام قوة الغد العالمية) فلماذا كتب هذا الكتاب، وقام بهذه الدراسة؟، إنه لا يتورع أن يعلن صراحةً وبدون مواربة عن هدفه، الذي هو تبصير أوروبا الغافلة عن هذه القوة التي هي (صوت نذير لأوروبا، وهتاف يجوب آفاقها، يدعو إلى التجمّع والتساند الأوروبي لمواجهة هذا العملاق، الذي بدأ يصحو، وينفض النوم عن عينيه، فهل يسمع أحد؟.. هل من مجيب؟) بهذه العبارة التي ختمها بذاك النداء الصارخ، ينهي (شمتز) كتابه، والكتاب كله تحكمه هذه الروح.
ولذلك حق للناشر الألماني أن يقول عن هذا الكتاب (إنه يوضح الخطر المتوهج الذي يمر عليه الإنسان في أوروبا بكل بساطة، وفي غير اكتراث فأصحاب الإيمان بالإسلام يقفون اليوم “1936م قبيل الحرب العالمية الثانية” في جبهة موحدة معادية للغرب.. وهذا الكتاب، هو نداء وتحذير يجب أن يلقي الاحترام الجدي من أجل مصالح الغرب وحدها”(7).
ويكرر هذا المعنى نفسه (البيرشاميدور) في كتابه (حمراء غرناطة) فيقول بعد أن تحدث عن عظمة الآثار الإسلامية في غرناطة: (.. إن هذا العربي الذكي الشجاع الذي استطاع أن يجمع علم العالم في مائة عام؛ كما استطاع أن يفتح نصف العالم أيضًا في مائة عام، قد ترك لنا في (حمراء غرناطة) آثار علمه وفنّه.
(إن هذا العربي الذي نام نومًا عميقًا مئات السنين، قد استيقظ وأخذ ينادي العالم: “ها أنذا أعود إلى الحياة”.. فمن يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددةً بالعرب؛ فيهبطون من السماء لغزو العالم مرةً ثانيةً).
ثم يقول: (لست أدعي النبوة؛ لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، لا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها).
ثم ينادي صارخًا: (أبيدوا أشباح العرب في “الحمراء”.. أبيدوها قبل أن تبعث)!!! ثم يبالغ في الإنذار والتخويف فيقول: (هيهات أن نستطيع إلى ذلك سبيلاً)(8)!!.
هكذا بكل وضوح يكشف القومُ عن أهدافهم؛ ولكن جماعةً منا – عفا الله عنهم – مازالوا حتى يومنا هذا؛ بل لحظتنا هذه، يصفون هذه الأعمال بأنها (علمية)، (أكاديمية)، (فكرية)… الخ ويدبجون في الثناء عليها المقالات والكتب ويلقنون أجيالنا الناشئة ذلك.
ولعل ما يفصل بيننا وبين قومنا في هذه القضية هو قول (روجيه جارودي) ذلك الفيلسوف، الذي كان زعيم المذهب الوجودي ومفسر طلاسم سارتر ضمير العصر على حد قول (فلاسفتنا) (العظام) – والذي كان مرشحًا لزعامة الحزب الشيوعي، قال: (لم يكن الاستشراق حركةً نزيهةً منذ البداية؛ إذ كان الهدف منه تنفيذ مشروع يرمي إلى إدخال المسلمين في النصرانية)(9).
* * *
الهوامش:
محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا: 57.
كان من غاية الاستشراق، وهدفه أيضًا نقل علوم الإسلام التي كانت مصباح النهضة الأوروبية وأساسها؛ ولكن لم نعرج على ذلك في هذه العجالة؛ لأنه ليس من موضوع هذه المقدمة.
محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق غلى ثقافتنا: 73-74.
المصدر السابق ص 86-87.
نقلاً عن محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة: 597.
بنت الشاطئ: تراثنا في الشرق والغرب، محاضرات مطبوعة على الآلة الناسخة ألقيت على الدارسين بمركز تحقيق التراث القومي ونشره، بالقاهرة عام 1967م، ص7-10.
من مقدمة الدكتور محمد البهي للكتاب ص 11، والكتاب ترجمة الدكتور محمد عبد الغني شامة، وصدر عن مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
من كتابنا: أبوالقاسم الزهراوي: ص 110 وهذا من إحدى الدوريات المنشورة سنة 1962م عام تأليف الكتاب.
انظر كتابه: مبشرات الإسلام، عن مجلة الأمة القطرية الشهرية عدد 24 ص 23.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33