إشراقة

قد يضيع الشبابُ رغمَ أهليّته، ويضيع العلماء والدعاة رغمَ فضلهم، ويضيع الأفاضل من المُتَخَرِّجِين حاملي الشهادات الكبيرة رغم طموحهم. يتساءل الناس كثيرًا: لماذا يضيعون ولديهم مايَضْمَن نجاحَهم ويكفل انتصارَهم في ساحة الحياة؟.

       فليعلموا أنّهم يضيعون لأسباب كثيرة، منها: أنهم قد يكونون منحرفين عن الاتجاه السليم في الفكر والعمل؛ فيمجّه عامّةُ المسلمين وخاصّتُهم؛ مثلاً: ينتقدون كبارَ العلماء والصلحاء الذين كانوا على سيرة السلف، وكانوا نماذج تُقْتَدَىٰ في السيرة والسلوك؛ فيعودون كالذي يحاول أن يستأصل أشجارًا وارفة الظلال، ويجفِّفَ منابعَ أنهار صافيه المياه عذبة الزلال. وذاك شيء تأباه طبائع مُعْظَم الناس ذوي الفِطَر الصحيحة والذوق السليم؛ أو يرون رأيًا يخالف رأى جمهور الأمة والتفكير الأساسيّ لديها فيما يتعلق ببعض أوكل ثوابت الدين.

       ومنها كونهم ذوي مزاج زِئْبَقِيّ لايستقرّون على وتيرة واحدة مستقيمة من السيرة والسلوك؛ فهم حارُّون حينًا وباردون حينًا، وحُلَماء حينًا وحِرِّيْفُوْن حينًا، ومُسَالِمُون حينًا ومتخاصمون حينًا، وغافلون حينًا ومُتَيَقِّظُون حينًا، وصُلَحاء حينًا وطُلَحاء حينًا، وطيِّبون حينًا وخبثاء حينًا؛ فهم مُتَلَوِّنُون دائمًا يهبّون مع شتّى الكيفيّات.

       فهؤلاء وأمثالُهم يُفْرَدُون من قبل كلّ أو جلّ أعضاء المجتمع الإسلامي العامّ إفرادَ البعير المُجْرِب، رغمَ كلّ المؤهلات التي يتمتّعون بها، وكلّ المواهب التي خُلِقوا بها، وكلّ الأعمال العلميّة والفكريّة التي أنتجوها، وكلّ الإنجازات التي قاموا بها. وكلُّ مآثرهم رغم قيمتهما العلميّة المجردة، تكون جسدًا بلاروح، ولونًا بلا روعة، ورسمًا بلا وضوح، لاجاذبيّةَ فيها للروح، ولادعوةَ فيها للقلب، ولا إقناعَ فيها للعقل، ولا استرعاءَ فيها للنظر.

*  *  *

كان لدينا في “ديوبند” عالمٌ من سكّانها العريقين من أحد بيوتاتها الشريفة. كان لديه عقلٌ كبير، وذكاءٌ نشيط، تَخَرَّج في جامعتها الإسلاميّة الأمّ “دارالعلوم/ ديوبند” حاملاً أهليّةً علميَّةً ممتازةً، أتقنها بمزيد من الدراسة، وكان مفطورًا عليها. وكان يمتلك قلمًا سيّالاً باللغة الأرديّة، وإلى جانب ذلك كانت لديه قريحة وقادة في الشعر الأرديّ؛ فكان من الكُتَّاب البارعين والشعراء المُفْلِقِين. وكان أديبًا له أسلوبُه الخاصّ الذي يجمع بين الجدّ والهزل باتزان مطلوب. ويمتاز بوقار العالم الواسع الدراسة، العميق الاستنتاج، الثرّ التفكير، الكثير التطواف على الكتب في كل موضوعاتها العلمية والأدبية، والفكريّة والدعويّة، والمنطقيّة والفلسفيّة، والتفسريّة والحديثية، والتأريخية والتراجميّة، وما إلى ذلك، وبكل من اللغات: العربية والأرديّة والفارسيّة. وكان يُنْتِج أدبًا جدِّيًّا علميًّا، وأدبًا ساخرًا متمعًا في وقت واحد. وفي كلا النوعين من الأدب كان كاتبًا مُحَبَّبًا إلى القراء؛ فكان يُصْدِر مجلّةً أرديةً، كانوا يتهافتون عليها تهافتَ الفراش على النور رغم كون إخراجها غير فاخر وغير لافت للمتذوقين المُحِبِّين للجمال الظاهر والروعة الصارخة. وكان عندما يشارك الأمسيّات الشعريّة يجعل المستمعين مُسْتَهَامين به وبشعره الرائع بلفظه ومعناه؛ ولكنّه ظلّ في حياته رغم ذلك “طريحًا” من قبل عموم أفراد المجتمع الإسلاميّ المنتمي إلى المذهب الديوبندي الحنفي الذي يتّعبه معظم المسلمين في شبه القارة الهندية عمومًا، والذي يُمَثِّل مذهب أهل السنّة والجماعة الحاملين للعقيدة الصحيحة السلفيّة في هذه الديار الواسعة؛ لأنّه كان في مُعْظَم كتاباته يُعَارِض مذهبَهم، ويستهزئ به، صادرًا في ذلك عن مُعْتَقَدَات بعض الجماعات التي تتصل بالإسلام عقلاً ولاصلةَ لها به قلبًا، وتُرَكِّز على الإسلام نظريًّا ولا تتناوله عمليًّا، وتُتْقِن القَوَّاليَّة بقدر ما هي ضعيفةٌ في الفعَّاليَّة.

       ومات – غَفَرَالله له – وترك إرثًا ضخمًا من كتاباته وشعره؛ ولكنه رغم ذلك صار منسيًّا لدى الأوساط الإسلاميّة العامّة؛ فلا يذكره اليوم إلاّ من يودّ أن يتناوله دراسةً أو من يذكره من بعض معارفه أحيانًا في بعض المجالس التي يتطرّق فيها الحديثُ إلى ذكر علماء ومُثَقَّفِي “ديوبند”. على حين إنه لم يمض على وفاته إلاّ نحو ثلاثة عقود ونصف.

       وبالعكس من ذلك هناك علماءُ وصلحاءُ في ديوبند وخارجها مضى على وفاتهم كبيرُ وقت؛ ولكنهم مذكورون على الألسنة، وحاضرون في ذاكرة الناس، وماثلون في القلوب، كأنهم أحياء؛ لأنهم كانوا على صراط مستقيم، وكانوا أقوياء الصلة بالله، وكانوا إلى العمل أسبق منهم إلى القول، وكانوا يذكرون جميعَ صلحاء الأمّة بحسن القول والثناء عليهم والدعاء لهم، وكانوا يستحضرون ذنوبَهم، وينسون تقصيرات غيرهم.

*  *  *

       وكذلك عندنا اليوم رجل فارع القامة في الكتابة باللغة الأرديّة، أنتج أكثر من خمسين كتابًا في الموضوعات الإسلاميّة. ونُقِلَ بعضُها إلى العربية والإنجليزية وغيرها من اللغات الحيّة في العالم، وهو يُصْدِر مجلةً شهريَّةً بدهلي باللغتين: الأردية والإنجليزيّة، وله مُحِبُّون كثيرون في دول الخليج العربيّة، وتوفّرت لديه تسهيلات ماديّة كبيرة، بفضل كتاباته الجميلة السهلة العذبة، من السكن الفاره المريح، والسيّارة الثمينة، والثروة الطائلة، والسمعة الواسعة. وقد اشتهر لدى شريحة من الناس بـ”المفكر الإسلاميّ”؛ ولكنّه رغم ذلك عاد “مَيِّتًا” في حياته، لايتصل به عامّة أفراد المجتمع الإسلامي، بل هو “منبوذ” لديه؛ لأفكاره الشاذة؛ وتفكيره المنحرف عن الخطّ الإسلامي المستقيم الذي يتمسّك به جمهورُ العلماء والمفكرين والأئمة. إنّه في مُعْظَم كتاباته يتناول المسلمين بالانتقاد، ويُحمِّلهم المسؤوليّةَ في جميع ما يعانونه من التخلّف والعداء العالمي، والاضطرابات المحلّيّة. فيما يتعلّق بالاضطهاد الذي يعانيه الشعب المسلم الهندي دائمًا يقول: إنّ مرجعه إلى الأخطاء التي يرتكبها الشعب المسلم في الهند، وإن الهندوس المتطرفين بُرآءُ براءَة الذئب من دم ابن يعقوب. وكذلك ينتقد من حين لآخر أئمة الإسلام وأعلامَه في الهند وفي العالم كلّه، ويصارح بأنهم لم يصنعوا شيئًا وإنّما أخطأوا التفكيرَ والعملَ.

       من هنا ظلّ عامَّةُ المسلمين يُفْرِدُونه إفرادَ البعير الأجرب؛ بل إنّه حَدَثَ أحيانًا أنه حَضَرَ بعض الحفلات أو الندوات؛ فما إن نهض ليتحدث، قام المستمعون محتجين ضدّه وضدّ مُنَظِّمي الحفلات أو الندوات على دعوتهم له لحضورها والتحدّث فيها، فما هدؤوا حتى طردوه منها، مُسَجِّلِين ضدّه سخطَهم العارم واستياءَهم الشديد.

       إنّه يكتب بالأرديّة السهلَ الممتنعَ حقًّا، ولديه أسلوب ساحر أخّاذ في الكتابة، قلّما يدانيه فيه الكاتبون في الموضوعات الإسلاميّة؛ ولكن انحرافه عن الخطّ المستقيم، واعوجاجه في التفكير والرأي، جَعَلَه “منبوذًا” لدى الشعب المسلم عمومًا. ويكتب فيدسّ السمَّ في الدسم، ويتناول موضوعات إسلامية جميلة ليخلط بها أفكاره المسمومة؛ فهو رغم امتلاكه القلم السيّال الرائع الفريد في الكتابة والإنشاء، لم يكسب قلوب عامّة المسلمين وعلمائهم الموثوق بهم، وضاع رغم أهليته الفريدة، ودراسته الواسعة، وتفكيره الجادّ في بعض القضايا الإسلاميّة. ثم إنه على حين إنه نموذج في الكتابة، ليس نموذجًا في العمل والسلوك والصلاح. والإسلام ليس مجرد قول، وإنما هو العمل القائم على العقيدة الصحيحة. يخطئ من يظنّ أن مجرد إتقانه لفن القول ينجيه في الدنيا والآخرة؛ فلا يهتمّ بفن العمل بمثل ما يهتمّ بفن القول.

       ألاَ! إن المُؤَهَّلِين من الشباب والعلماء، والكتّاب والأدباء، والدعاة والخطباء، والمفكرين والمُثَقَّفِين، قد يضيعون رغم معالمهم العلمية، وأرصدتهم الكتابيّة، والفكريّة والخطابيّة، والأدبيّة والدعوية، إذا انحرفوا عن المسار الصحيح، والخطّ المستقيم، أو تقلّبوا تقلّب الطقوس والفصول، أو كان لديهم من المعايب ما يجعل أهليتهم تافهةً ضئيلةً؛ فلا بد من الجمع بين الأهلية والاستقامة.

( تحريرًا في الساعة 30 :10 من صباح يوم الأربعاء: 16/1/  1430هـ = 14/1/ 2009م ) .

أبو أسامة نور

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند .  صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس  2009م ، العـدد : 2-3  ، السنـة : 33

Related Posts