دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور أحمد محمد كنعان
6- الابتلاء والمحنة
.. لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون حياة الإنسان فوق هذه الأرض سلسلة متواصلة لا تكاد تنتهي من الابتلاءات والمحن، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى : ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك 1-2) هذا الابتلاء قد يكون بالخير أو بالشر: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (الأنبياء 35) وقد يكون الابتلاء للمؤمنين في سبيل تمييز المجاهدين منهم والصابرين ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد 31) فالابتلاء يمكن أن يكون في أي شأن من شؤون الحياة؛ فالله عز وجل خلق البشر، واستخلفهم في الأرض، ولم يتركهم يهيمون على غير هدى، بل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فبيَّنوا لهم سنن الهداية والرشاد، وبشَّروهم بالفوز في الدنيا والآخرة، إن هم أخذوا بها واتبعوها، كما حذَّروهم من مخالفة هذه السنن، وأنذروهم من عذاب الله إن هم ضلوا عنها، وتنكبوا جادة الصواب .. فلم يعد إذن للناس من حجة بعد الرسل، بل أصبحوا بعد الرسالات في غمرة الابتلاء والاختبار، وغدوا مطالبين بتحري الصواب في شؤونهم كلها، وإلاّ سقطوا في الامتحان، وخسروا الدنيا والآخرة.. ويالها من خسارة!
وفي هذه الطريق الصعبة، طريق الابتلاء تعترض الإنسان شدائد ومحن شتى فنجد أنه يتخذ حيالها أحد موقفين:
* الموقف الأول:
حين تصيب الإنسان شدة من غير قصد منه، ولا إرادة، ولاتدبير، فهذا الموقف هو ما يصح أن نطلق عليه اسم “الابتلاء”، والعبد المؤمن مأمور حين يبتلى على هذه الشاكلة أن يصبر على الشدة، وألا يقنط من رحمة الله، وأن يسأل الله تفريج كربه.. وهو مأجور بإذن الله على ذلك كله.
* الموقف الثاني:
حين تصيب الإنسان شدة نتيجة تدبير منه، واختيار، أو ممارسة فعلية خاطئة، فهذا النوع من الابتلاء يصح أن نسمِّيه مصيبة أو عقوبة، حلت به نتيجة ما قدَّمت يداه.
ونضرب لهذين الموقفين مثالين من عالم الطب والصحة.. فالمرض يمكن أن يصيب الإنسان دون أن يكون قد عرض نفسه للأسباب الداعية للمرض، بل قد يكون اتخذ الاحتياطات الوقائية، التي يغلب على ظنه أنها تمنع عنه المرض، ولكنه مع هذا يصاب بالمرض.. ففي مثل هذه الحال نقول: إن الشخص تعرض للابتلاء.
وأما المثال الآخر، فهو نقيض الأول، ونشاهده عندما يصاب الشخص بالمرض نتيجة تفريطه في أمور صحته، وعدم أخذه بأسباب الوقاية، كأن يتناول طعامًا أو شرابًا يضر بصحته، أو يزني، أو يتناول المخدرات.. فهذا الشخص يُعَدُّ مفرطاً في أمر صحته، ومن ثم يصح أن نعدَّ ابتلاءه نوعًا من العقوبة، التي حلت به نتيجة مخالفته لقواعد الصحة أو للسنن التي بها يمتنع المرض بإذن الله.
ويظهر لنا هنا الفارق الجوهري ما بين الابتلاء والعقوبة.. ويمكن أن نسوق أمثله كثيرة لزيادة الإيضاح، ولا بأس أن نتناول موضوع الجهاد من هذا المنظور، وبخاصة أنه كثر الحديث حول هذا الموضوع في أيامنا الحاضرة.. فالمؤمنون مأمورون ابتداءً بالإعداد المواجهة أعدائهم قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (الأنفال 60) فبعد هذا الأمر الرباني الصريح بالإعداد لايصح أن يغفل المؤمنون عن أخذ الأهبة، وتجهيز ما يلزم من عتاد وعدد، استعدادًا للجهاد، ولايجوز لهم أن يدخلوا المعركة ضد معسكر الكفر، إلا بعد أن ستوفوا شروط القتال، فيخططوا للمعركة تخطيطاً دقيقًا واعيًا بكل الملابسات، ويجنِّدوا طاقاتهم البشرية والمعنوية تجنيدًا مناسبًا، حتى يغلب على ظنهم أنهم أخذوا بالأسباب، التي تكفل لهم النصر بإذن الله.. فإن هم فعلوا هذا، ودخلوا المعركة صابرين مقبلين غير مدبرين، ثم لم ينتصروا، كانت هزيمتهم حينئذ ابتلاءً من الله، لأن الهزيمة وقعت لأسباب خارجة عن إرادتهم وتدبيرهم.. والمجاهدون حنئذ مأجورون بإذن الله على جهادهم على الرغم من هزيمتهم .
وعلى النقيض من ذلك تكون حال المؤمنين، لو أنهم دخلوا المعركة بلا إعداد ولا تخطيط ولا معرفة بأصول القتال.. لأن هزيمتهم حينئذ تكون عقوبةً على ما فرَّطوا في أمرهم، ولمثل هذا ألمحت الآيات الكريمات من سورة آل عمران، والتي حَمَّلت المؤمنين مسؤولية ما أصابهم يوم “أُحُد”، عندما قَصَّر بعضهم، فغادروا مواقعهم التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزامها، وذلك طمعًا منهم في الغنيمة، فقال الله تعالى في حق هؤلاء: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران 165) والمصيبة التي تشير إليها الآيات الكريمات، هي ما أصاب المسلمين يوم أُحُد من قتل السبعين منهم، وأما الإشارة في قوله تعالى: ﴿قد أصبتم مثليها﴾ فتعني يوم بدر، فقد قتلوا في ذلك اليوم سبعين رجلاً من المشركين وأسروا سبعين آخرين، وقد أرجعت الآيات سبب المصيبة التي أصابتهم يوم أُحد إليهم هم أنفسهم ﴿قُلْ هو مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم﴾ (آل عمران 165) بمعنى أن هزيمتهم كانت عقوبةً لهم على تفريطهم!
ولعلنا بهذه الأمثلة قد أوضحنا بما يكفي الفرق ما بين معنى الابتلاء، ومعنى العقوبة، إذ كثيرًا ما يخلط الناس بين المعنيين، فيظنون أن المصائب التي تنزل بهم نتيجة أخطاء يرتكبونها، أو نتيجة مخالفة لسنة معروفة من السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق.. يظنون ذلك نوعًا من الابتلاء يكرمهم الله به، فنراهم يستبشرون بما ينزل بهم، لاعتقادهم بأن الله اختارهم للابتلاء كرامةً لهم، حتى يجزل لهم الجزاء!!
* وكان حريًّا بمثل هؤلاء أن يحسوا بالندامة على ما بدر منهم..
* وكان الأجدر بهم أن يرجعوا إلى أنفسهم ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم﴾ لكي يعرفوا الخلل، ويشمِّروا عن ساعد الجد، ويبدأوا عملية التقويم، وجبر ما انكسر، والنهوض من السقطة!
وهذا ما يجب علينا أن نفعله عند كل شدة.. أن نعرف إن كنا في موقف ابتلاء أم في موقف عقوبة؟ لأن الفرق ما بين الموقفين عظيم!
7- العبادة
والعبادة في الإسلام ليست الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة وحج فقط.. بل إن كل نشاط يؤديه المؤمن يدخل في باب “العبادة” مادام يبتغي بهذا النشاط وجه الله.. ولقد سبق الحديث عن أن كل ما في هذا الوجود خاضع لسنن ربانية صارمة لاتتخلف.. وقد اقتضت مشيئة الله سبحانه، أن تكون العبادة التي افترضها على عباده جزءًا من تلك السنن، التي لا تستقيم حياتهم إلا بها، فقد ركَّب الله عز وجل جبلة الإنسان من مركبين اثنين هما:
– الجسد ، والنفس
وأخضع كلاًّ من هذين المركبين لسنن ضرورية لابد من مراعاتها حتى يصلح أمرهما.. فالجسد يحتاج إلى طعام وشراب ونوم وتزاوج، وحاجات أخرى عديدة حتى يستطيع المحافظة على حيويته ونشاطه، وحتى يستطيع التناسل والتكاثر للإبقاء على نوعه.. وهذه كلها سنن لازمة لوظائف الجسد، فإن أصابها أي اختلال، أصيب نظام الجسد بالاختلال والاضطراب.. وربما الموت والهلاك!
وكذلك هي النفس البشرية.. فهي تخضع لمجموعة من السنن التي لا غنى عنها، حتى تحيا هذه النفس حياةً سويةً بعيدةً عن الخوف والقلق والشقاء وشتى أنواع الاضطرابات النفسية.. وكما أن الإخلال بالسنن، التي يخضع لها الجسد يؤدي إلى إختلال وظائفه، فكذلك الإخلال بالسنن التي تخضع لها النفس البشرية يؤدي إلى اختلال أكيد في سلوكها؛ وفي استقرارها النفسي..
وقد حذر القرآن الكريم مرارًا من الغفلة عن السنن التي تصلح أمر النفس، لأن هذه الغفلة توقع المرء في الشقاء لا محالة.. ومن الآيات البليغة، التي دلَّت على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكرِ الرَّحْمن نُقَيِّضْ له شيطانًا فَهُو لَه قَرين﴾ (الزخرف 36) فالغفلة عن ذكر الله وعبادته، تفتح الباب للشيطان، لكي يوسوس في النفس، ويعكر عليها صفوها وهدوءها، ويوقعها تحت وطأة القلق والهم والحزن.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ (طه 124-126)، فإن سنة الله هذه تقتضي أن تصبح حياة الإنسان حافلة بالضنك والتعب والنصب، حين يغفل عن ذكر الله أو عن عبادته، وهذه سنة ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة.
هذا وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى أن العبادات المختلفة.. من صلاة وصيام وذكر.. تؤدي بالنفس البشرية إلى السمو، وتترفع بها عن الدنايا، وترقى بها إلى مراتب الفلاح والنجاح، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَر وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَر﴾ (العنكبوت 45) وقال كذلك: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى. وَذَكَر اسْمَ رَبِّه فَصَلّى﴾ (الأعلى 14-15) فالزكاة والذكر والصلاة وشتى العبادات.. سبل إلى الفلاح والسكينة وراحة البال.
* * *
ومن هنا يظهر أن العبادات في الإسلام ليست مجرد شعائر، تقام للتقرب إلى الله فحسب؛ بل هي أيضًا سنن لازمة للكيان البشري، حتى يستكمل وظائفه على الوجه الأكمل، ودليل هذا أن الكيان البشري سرعان ما يصاب بالتفسخ والاضطراب إذاما امتنع عن القيام بالعبادات المفروضة عليه.. وها نحن اليوم نرى أمراض النفس وقد تفشت بصورة مروِّعة في كثير من بلدان العالم، التي حادت عن منهج الله، وانقطعت عن العبادة.. حتى باتت الأمراض النفسية فيها تشكل أو بئة خطيرة تهددها بالفناء!
ولا غرابة في ذلك، فإن الإنسان حين يغفل عن عبادة ربه، فإنما هو يغفل عن سنة أساسية، لايمكن أن تستقر حياته إلا بها.. فكما أن الإنسان الذي يمتنع عن الطعام والشراب، لا يلبث أن تتدهور صحته وتخور قواه.. فكذلك الذين يمتنعون عن العبادة، فإن نفوسهم لا تلبث أن تضعف وتخور.. ثم تموت.. وإذا بهم ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وما يَشْعرونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون﴾ (النحل 21) حتى وإن قاموا وقعدوا، وتكلَّموا وتنفَّسوا، وظنوا أَنهم من الأحياء!
وهكذا حال المؤمن .. فحين يدرك المؤمن أن أعماله كلها عبادة، فإنه يصبح حريصًا على التزام جانب الصواب في أموره كلها، بحيث توافق سنة الله التي سنها لعباده الصالحين.. وبهذا يكون المؤمن قد أدرك معنى الإحسان، الذي أشار إليه الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه حين سأله جبريل عليه السلام عن “الإحسان” فقال: “أَنْ تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”(1).
8– الاجتهاد في الشريعة الإسلامية
.. عندما تناولنا بالبحث خصائص السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، خرجنا من ذلك بنتيجة ذات أهمية خاصة، وهي أن لكل أمر في هذا الوجود سنة مخصوصة، لا يتم إلا من خلالها، ولا يمكن أبدًا أن يتم بغيرها من السنن.
وقلنا: إننا كلَّما أردنا تحقيق هدف من الأهداف، علينا أولاً أن نعرف بالتفصيل طبيعة السنة، التي تتعلق بهذا الهدف..
وقلنا كذلك: إن اجتهادنا في تحقيق أهدافنا يجب أن يتوجه أولاً، وقبل أى شيء آخر، نحو معرفة تلك السنة.. حتى إذا عرفناها معرفة يقينية، أصبح لزامًا علينا أن نأخذ بها، وأن نلتزم بمعطياتها، ولايجوز لنا أبدًا – بعد ذلك – أن نختلف حول الموضوع المتعلق بهذه السنة .. لأن اختلافًا من هذا القبيل هو سبيل أكيد للفشل الذريع!
وتقودنا هذه النتيجة إلى مناقشة قضية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية.. ونبدأ بإيراد مثالين اثنين نعرضهما كمدخل لهذا الموضوع، وهما تركيب الماء وإنجاب الأطفال:
* فنحن نستطيع الحصول على الماء بعدة طرق، ومنها إجراء تفاعل كيميائي بين عنصري الهدروجين والأكسجين، كما نستطيع الحصول على الماء من حرق بعض المواد العضوية، حيث ينتج عن هذا الاحتراق الماء وغاز الكربون، ومواد عضوية أخرى، وهناك طرق أخرى للحصول على الماء، وهذه مسألة مادية بحتة لنا الحرية الكاملة فيها، فلا فرق ولا ضير في أن نحصل على الماء بأية طريقة من تلك الطرق، مادام الأمر متروكاً أصلاً لاجتهادنا؛ فهذا الأمر وأمثاله يدخل تحت عنوان (أَنْتُم أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُم) كما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي سنعود إليه بعد قليل.
* وأما المثال الآخر، فهو إنجاب الأطفال، فالجنين البشري يمكن أن يتخلق بإذن الله عندما تلتقي نطفة الرجل ببيضة المرأة، وهذا الالتقاء يمكن أن يتحقق بطرق عديدة، منها الزواج الشرعي، المحكوم بالكتاب والسنة، ومنها الجمع بين نطفة الزوج وبيضة الزوجة في أنابيب الاختبار، ومنها كذلك الزنا..
غير أن مسألة الإنجاب ليست كمسألة الحصول على الماء، فإن الإنجاب محكوم بمجموعة من الأحكام الشرعية المعروفة، ولم يترك لاجتهادنا واختيارنا، وأما تركيب الماء فليس محكومًا بشيء من تلك الأحكام.. مما يعني أن الشريعة الإسلامية وضعت ضوابط للتعامل مع مسائل الحياة المختلفة، بحيث يمكن تقسيم هذه المسائل إلى قسمين:
1- مسائل لايجوز الاجتهاد فيها، بل يجب التزام الأحكام الشرعية التي وردت بخصوصها وتضم هذه المسائل كل ما ورد فيه نصوص شرعية، ومن الأمثلة على هذه المسائل: الصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، وتحريم الجرائم كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، وما ورد فيها من عقوبات مقدرة مما هو معروف بالقرآن الكريم أو السنة النبوية.
2- مسائل يمكن الاجتهاد فيها.. إما لعدم ورود نصٍّ فيها، وإما لأنه ورد فيها نص ظني الدلالة، أو ظني الثبوت، أو ظني الثبوت والدلالة معًا.. فهذه المسائل يجوز الاجتهاد فيها للوصول إلى حكم شرعي، أو لمعرفة السنة التي تحكمها..
والاجتهاد (لغةً): بذل الجهد، واستفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور، سواء أكان حسيًا كالمشي، أو كان معنويًا كاستخراج حكم أو نظرية عقلية أو شرعية أو لغوية.. الخ.
والاجتهاد (شرعًا): هو بذل الفقيه أقصى الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، علمًا بأن الأدلة التي يجتهد فيها هي: القرآن والسنة، ويتفرع عن هذين المصدرين الأساسيين مصادر أخرى كالإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والعادة وسد الذرائع.. إلخ.
وقد دلَّت النقول الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يجتهد في شؤون الحياة المختلفة ويرى فيها رأيًا، حتى إذا تبين له أن المصلحة تتطلب غير ما رأى، رجع صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وفعل ما هو خير.. ومن ذلك اجتهاده في أمور الحرب، وفي بعض الشؤون الأخرى، كما كان من أمره في حادثة تأبير النخل المشهورة: “عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يلقحون، فقال: لو لم تلقحوا لصلح. قال: فخرج شيصًا. فَمَرَّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لِنَخْلِكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم”(2). ويجدر بنا أن نشير إلى أن هذا الحديث قد أسىء استخدامه كثيرًا وبخاصة من قبل الذين لايدركون مقاصد الشريعة إدراكاً صحيحًا، والذين في أنفسهم مرض، ويريدون أن يتخففوا من عهدة التكليف، أو الذين يرغبون في تعطيل بعض النصوص اعتمادًا على هذا الحديث.. علمًا بأن ذكر هذه الحادثة قد ورد في أكثر من حديث بصيغ مختلفة تبين بوضوح ما قصد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: “أنتم أعلم بأمور دنياكم” فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل، يقول: يلقحون النخل. فقال صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال صلى الله عليه وسلم: لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرًا. فتركوه. فنفضت (أو فنقصت) قال: فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر”(3) وواضح من هذا النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرَّق بين ما هو وحي من الله عز وجل، لايصح للمسلمين أن يتجاهلوه، أو يميلوا إلى غيره عنه، وبين ما هو من اجتهاده ورأيه في الشؤون الدنيوية، وهذا متروك للمسلمين ليأخذوا به، أو يعدلوا عنه إلى غيره إذا تبين لهم أنه أصلح.
وما يهمنا من هذا العرض، الحديث عن الأمور التي فيها مساغ للاجتهاد، ومادامت حكمة المولى عز وجل قد قضت أن يكون لكل حادثة سنة مخصوصة، فإننا مكلَّفون ابتداءً بالاجتهاد لإصابة هذه السنة، ومأمورون كذلك أن نجنِّد كل طاقاتنا العقلية والمادية في سبيل كشف السنة المتعلقة بالأمر الذي نجتهد فيه.. حتى إذا تبيَّنت لنا هذه السنة يقينًا، وجب علينا الالتزام بها، وعدم الحيدان عنها، ولا مخالفتها، لأن ذلك يجلب الضرر كما أسلفنا، وينتهي بنا إلى الفشل الأكيد.. ونزيد على هذا أن الاجتهاد مجددًا في أمر عرفت سنته يعد تفريطاً بالوقت، وإهدار للطاقات من غير جدوى!
* والسؤال الذي يبرز أمامنا الآن هو: كيف نتعامل مع المشكلات التي فيها مسوغ للاجتهاد؟
ونقول: إن هذه القضية قد شغلت الفكرَ الإسلاميَّ طويلاً، وتصدى لها أئمة علماء، ومفكرون أفذاذ، وضعوا القواعد والشروط والضوابط للاجتهاد، بناءً على أصول شرعية معتبرة، لكن القضية – مع هذا – ظلَّت قائمةً، وظل كثير من المسائل الفقيهة وغير الققهية محل اختلاف؛ بل وصل هذا الاختلاف في بعض الحالات إلى حد مساواة النقيض بنقيضه!
ونحن لاندعي في هذا البحث المقتضب أننا قادرون على إنهاء قضية الاختلاف، وإنما الذي نريد التنبيه إليه أن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية انطلق أساسًا من النصوص، وظل البحث يدور في فلك هذه النصوص دون الإفادة من ربطها بمفهوم السنن، التي فطر الله عليها أمور خلقه، ونعتقد أنه لو أخذت السنن في الاعتبار عند تناول القضايا المختلفة، لكان ذلك بمثابة ضابط إضافي، يضبط وجهة الاجتهاد، ويضيق – في الوقت نفسه إلى حدٍ بعيد – مجال التنازع والاختلاف.
وهناك الكثير من القضايا الفقهية التي وقع فيها الخلاف قديمًا بين المذاهب المختلفة، وما يزال الخلاف فيها واردًا حتى يومنا الحاضر، وما يزال بعض القضاة يحكمون بموجبها، على الرغم من أن السنن التي تخضع لها هذه القضايا باتت معروفةً لأهل الاختصاص.. وأذكر على سبيل المثال: أنهم اختلفوا في تحديد أطول مدة لحمل المرأة، فقال بعضهم: “إن أقصى مدة الحمل أربع سنين، وبه قال الشافعي، وهو المشهور عن مالك، وروي عن أحمد أن أقصى حمل مدته سنتان، وروى ذلك عن عائشة، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة، وقال الليث: أقصاه ثلاث سنين، وقال عياد بن العوام: خمس سنين، وعن الزهري قال: قد تحمل المرأة ست سنين، وسبع سنين، وقال أبوعبيد: ليس لأقصاه وقت يوقف عليه”(4). وكان هذا الاجتهاد نتيجةً للمعارف الموجودة في عصرهم واستقراء أحوال زوجاتهم وأخواتهم.
“وقد ذكر عصام غانم في كتابه Islamic Medical Jurisprudence صفحة 44: “أن أحد القضاة حكم لامرأة طُلِّقت بأن ولدها الذي أنجبته بعد أربع سنوات من طلاقها حكم به لزوجها، وكذلك حكم لأختها التي ولدت بعد مرور خمس سنوات على وفاة زوجها”(5)! وهذا يعني أننا مانزال حتى اليوم نتجاهل حقائق العلم، ولا نلتفت لما كشفه لنا من سنن واضحة بينة، فيما يختص ببعض القضايا الحيوية، التي تترتب عليها أحكام شرعية بالغة الأهمية، فقد ثبت بالدليل الطبي القاطع أن مدة الحمل الطبيعية هي نحو 280 يومًا محسوبة من بدء آخر حيضة حاضتها المرأة، ومن ثم فإن الجنين لا يعيش داخل الرحم أكثر من هذه المدة، وبخاصة أن المشيمة التي يتغذى الجنين ويتنفس عن طريقها لاتعيش لأكثر من أيام قليلة بعد مدة الحمل المعتادة، لأنها تبدأ بعد تمام مدة الحمل بالتنكس، وتضعف وظائفها، ولا تعود قادرةً على الوفاء بحاجات الجنين، فإذا لم تحدث الولادة في الموعد المقرر، ماتت المشيمة، وانقطع الغذاء والأكسجين عن الجنين، وهذا يؤدي إلى موته المحقق(6). وأذكر أيضًا مثالاً آخر عن قضية أخرى ما يزال الجدال حولها محتدمًا على الرغم من فهم السنن الربانية التي تخضع لها، وهي إثبات مطالع الأشهر القمرية، وبخاصة منها مطالع رمضان وشوال وذي الحجة، لتعلق هذه الأشهر بالصوم والفطر والحج.. فمايزال السواد الأعظم من فقهائنا يصرون على ضرورة الرؤية العيانية للهلال، ويرفضون الأخذ بالحسابات الفلكية(7) تمسكا بظاهر الآية الكريمة ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة 185)، وما جاء في الحديث الصحيح “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما”(8) مما أدى في مناسبات عديدة إلى حدوث اختلاف عجيب في مواقيت العبادات المرتبطة بالأشهر المذكورة، حتى وصل الأمر مرة أن بعض المسلمين صاموا رمضان ثمانية وعشرين يومًا! وفي مرة أخرى كان فارق التوقيت بين بلدان إسلامية وأخرى ثلاثة أيام في الصوم والفطر، وهذا ما لايمكن تبريره أبدًا، إذ المعروف ميلاد القمر في كل شهر، واحد لايتعدد!!
ومما لا جدال فيه أن هذه الاختلافات لم يعد لها ما يبررها بعد أن أصبحنا اليوم على معرفة تامة بالسنن التي تحكم دوران الأرض والشمس والقمر، وبتنا قادرين – بفضل الله – على تحديد ميلاد القمر بدقَّة متناهية محسوبة بأجزاء الثانية!
وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نحسم الخلاف في مثل هذه القضايا المختلف فيها، بأن نلتفت إلى السنن التي تحكمها، وأما القضايا الأخرى التي لم نتوصل بعد إلى معرفة سننها، فيمكن بشيء من الجهد المخلص أن نكشف سننها، ونفهم أبعادها، وبذلك نزيل الكثير من أسباب الخلاف حولها.. ونعتقد أن مثل هذا التناول لقضايانا الاجتهادية سيكون أكثر جدوى من البحث النظري المجرد الذي يتعامل مع المشكلات بمعزل عن واقع الحياة ومعطيات العلم لأن هذا الواقع خاضع لسنن محكمة، لايجوز تجاهلها بحال من الأحوال.. وتجاهلها يجعل بعض اجتهاداتنا في وادٍ، وواقع الحياة والمجتمع في وادٍ آخر! ويجعلنا من ثم منفصلين عن حركة التاريخ والحياة وصنع القرار!!
* * *
(1) رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه – باب أمرات الساعة 1/157.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 15/118.
(3) المصدر السابق 15/117.
(4) “المغني” لابن قدامة المقدسي (541-620هـ) مع الشرح الكبير على متن المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل – طبعة دار الفكر، 9/ 117 .
(5) “خلق الإنسان بين الطب والقرآن” للدكتور محمد علي البار – الدارالسعودية للنشر والتوزيع – ص 454 .
(6) KEITHMOORE “Teh Developinh Human” ed. 3, 1983.
(7) ومن المفارقات الغريبة أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يأخذون بالجداول الفلكية في ضبط مواقيت صلواتهم كلها!
(8) رواه البخاري ومسلم.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1430هـ = يناير 2009م ، العـدد : 1 ، السنـة : 33