دراسات إسلامية
بقلم : د. حامد أحمد الرفاعيّ
لابد لنا نحن المسلمين أن يبقى شاخصًا في أذهاننا ومركوزًا في وجداننا العقدي وحسنا البشري.. أننا أمة شرفت بحمل رسالة الإسلام، وأنيطت بها مسؤولية الشهادة على الناس.. مسؤولية الدعوة والتصحيح والإرشاد.. وشيء آخر لابد أن ندركه ونحس خطورته، وهو أن هذا التشريف يحمل بنفس الوقت أوامر التكليف الرباني بوجوب تبليغ الهدى للعالمين .. وهذا التشريف والتكليف هو مبعث الخيرية في هذه الأمة.. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾(1) ولقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(2).
وهذا يعني بدقة ووضوح، أن الأمة الإسلامية تقع على عاتقها مسؤولية الريادة والترشيد للبشرية جمعاء، كيف لا وقد منحت كل مقومات الريادة والإرشاد، وعلى رأس هذه المقومات وأهمها ومبعث كل خيرية فيها.. كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وسنة الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم.
ولقد تحمل المسلمون هذه المسؤولية من قبل، فنجحوا في تحقيق مضمونها ومهامها بكل جدارة وبأرفع كفاءة على مدار قرون عديدة من تاريخ البشرية، فسعدت بهم أمتهم، وسعدت بهم البشرية جمعاء في ظل خيرية عطائهم، وحميد سيرتهم وعدل سيادتهم.. وما فقد المسلمون ذلك الصرح الشامخ في قلب التاريخ، وماخسر العالم تلك الخيرية، إلا من خلل أصاب ثوابت هذه الأمة العقدية والسلوكية، كما أصاب قدراتها وكفاءاتها النوعية، واليوم والأمة الإسلامية تحاول غزل خيوط فجر صبحها المرتقب، فإنها مطالبة – بعد ترسيخ ثوابتها العقدية والسلوكية – وبتوفير كفاءات نوعية عالية المستوى ليتكامل بناء الشخصية العربية المسلمة، لتكون من بعد مؤهلة لحمل مسؤولية البناء والإنتاج، ومسؤولية السير والتدبير، وبهذا الاعداد وعلى هذا الأساس العقدي والكفائي تقوم استراتيجية هذه الأمة وهي تواجه استراتيجيات العالم من حولها.
* كلمة في الاستراتيجية:
إذا عدنا لأصل هذا التعبير في اللغة اللاتينية عامة، نجد أن هذا المصطلح ولد في الميادين العسكرية، ثم توسع الناس في استخدامه، حتى أصبح من المصطلحات الواسعة الاستخدام في لغات متعددة، وفي مفاهيم متنوعة في السياسة والإقتصاد والإعلام.. واستحبه العرب كغيرهم فاستخدموه استخدامًا واسعًا ومألوفًا، حتى أصبح وكأنه ذو أصول عربية.. وعند كل الذين استخدموا هذا المصطلح كان يقصد به مايلي:
* علم القيادة أو فن القيادة:
* فن اختيار الأفضل في التنفيذ:
واستئناسًا بهذه المعاني مع الأخذ بالبعد الإسلامي لكل تعبير نجتهد أن يكون معنى هذا المصطلح عندنا نحن المسلمين ..
* فن ممارسة الحق:
وبشكل موسع نقول الاستراتيجية هي:
“نظريات محكمة، وخطط موضوعية دقيقة، وقيادة مخلصة فذة تملك كفاءة الاعداد ومهارة التنفيذ”.. في ضوء المعاني المتقدمة يمكن رسم معالم استراتيجيتنا الحاضرة والمستقبلة على الساحة الداخلية، والساحات الخارجية العربية منها والإسلامية ومن ثم العالمية.
أولاً: الساحات الداخلية:
إن تماسك البناء الداخلي لأي مجتمع يبقى القاعدة الصلبة التي تقوم عليها صروحه الحضارية، وتتحقق بها طموحاته الحاضرة والمستقبلة.. بل إن متانة البنية الداخلية وكفاءتها هي قوة الدفع الفاعلة في حركة الإنطلاق باتجاه المفاعلة والتعاون مع الساحات العربية والإسلامية، ومن ثم تحركاتنا وموازناتنا على الساحة العالمية.
وهنا نؤكد على أهمية بناء الفرد وأهمية بناء الاقتصاد على أساس سليم محكم من أجل تشييد وإقامة البناء الداخلي لمجتمعاتنا، لأنهما في المعايير الإسلامية العاملان الأساسيان في متانة وتماسك البنية الاجتماعية، ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾(3).
فسلعة الجنة في هذه الصفقة الربانية المباركة يقابلها سلعتان: النفس والمال، فبقدر مانرتقي بهاتين السلعتين بقدر مانقترب من تحقيق إنفاذ هذا البيع وإدراك مغانمه ونعيمه.
وإذا صلحت الأنفس وصلحت الأموال، ثم صلحت مفاهيم توظيف الأنفس ووسائل توظيف الأموال صلح بناء المجتمع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “نعم المال الصالح للرجل الصالح”(4).
وبهذا يتضح أن استراتيجية البناء الاجتماعي في الإسلام، تقوم على استراتيجية تحقيق النعيم في الآخرة، وفي الطريق إلى هذا المغنم تتحقق وسيلته وسلعته المكافئة له في الدنيا: ألا وهي الفرد الصالح والمال الصالح ومن ثم المجتمع الصالح، عملاً يقول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيْمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَيُحِبُّ الْمُفْسِدِيْنَ﴾(5).
وبهذا التأكيد على أهمية الفرد والاقتصاد، يمكننا أن نضع معالم استراتيجيتنا في البناء الداخلي.
1– بناء الفرد:
لتحقيق هذه الغاية يلزم وبكل اختصار مايلي:
(أ) منهج تربوي موضوعي معاصر، تصاغ به البنية التكوينية لأجيالنا المعاصرة.. من خلال تحديد مفاهيم ومنطلقات إسلامية معاصرة في أطر الثوابت العقدية والسلوكية تتضح وتتبلور معها للأجيال صيغ ومضامين:
1- نظريتنا الاجتماعية بشكل عام.
2- ماهي واجبات الرجل ومهامه وصلاحياتها.
3- ماهي واجبات المرأة ومهامها وصلاحياتها.
4- كيف تكون العلاقة بين دور الرجل ودور المرأة في بناء المجتمع .
5- ماهي الثوابت الأخلاقية والسلوكية التي تضبط هذه العلاقة وتنظمها.
6- التأكيد في ذلك وغيره على أن القوامة للرجل، فمواقع القيادة له لأن ذلك من الثوابت الاجتماعية في منهج الإسلام.
(ب) منهج فكري وثقافي.. تحدد به مفاهيم ومنطلقات التصور الإسلامي المعاصر تتضح معه معالم العقلية الإسلامية المطلوب تكوينها وصياغتها لدى أجيالنا المعاصرة لتكون مؤهلة للتعامل مع:
1- نظريتنا السياسية بأبعادها العقدية والسلوكية واجتهاداتها المعاصرة الداخلية والخارجية.. بحيث تغيب فوارق الفهم والتصور ما أمكن بين اجتهادات العقلية الحاكمة في أطرؤيتها واطلاعها وخبرتها وبين عقلية التلقي والقبول عند المحكوم.. وبقدر ما نقلل الفوارق بين العقليتين والرؤيتين بقدر ما تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبقدر ما تتوفر عوالم التماسك الاجتماعي.. وبقدر مانتغلب على عوامل الفرقة والتدابر بين الفريقين.. وقد اعتنى النهج القرآني بذلك أيما اعتناء، وجاء الهدى النبوي ليؤكد ذلك بكل الدقة والموضوعية، والأمثلة على ذلك لاتحصى – وأضرب لذلك مثلاً واحدًا فيه كثير من العبر، ألا وهو تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، وكيف أن ذلك ولد عند الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم جميعًا، شكلاً من أشكال الرفض لولا أن تداركتهم رحمة الله تعالى فتبين لهم صحة وصواب ماذهب إليه عليه الصلاة والسلام، فإن كان هذا بعض شأن من هم صفوة الخلق مع من لاينطق عن الهوى، فكيف بنا نحن في القرن الخامس عشر الهجري.
فلابد من الاعتناء بقضية الانسجام الفكري والاجتهادي بين أهل السلطان وبين من هم في إمرتهم وولائهم.. وهذا يلزمه مايلي:
(أ) منهج تثقيفي سياسي يبدأ من المرحلة الثانوية فالجامعية فالدارسات العليا.
(ب) منهج إعلامي يركز على السياسات الشرعية في الإسلام في خلال تقديم صور حية من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده. بحيث يتواكب مع المنهج التثقيفي ويدعمه ويوضحه.
(ج) معاهد للدراسات السياسية الشرعية المتخصصة إلى جانب ما يضاف إلى مناهج التعليم والإعلام .
(د) إعادة النظر في مناهج الجامعات الإسلامية لتعتني بالدراسات الشرعية التطبيقية.
(هـ) استفادة من النظريات السياسية المعاصرة في أطر الثوابت الشرعية والاجتهادات الشرعية المتنوعة.
(2) نظريتنا الجهادية بكل أبعادها الدعوية والقتالية والسليمة بحيث تحدد مفاهيم الجهاد كمصطلح إسلامي له معاييره ومضامينه وله ضوابط وأخلاقياته تصاغ من خلالها العقلية الشبابية وهم يمثلون عنفوان الأمة وطاقتها الفاعلة في هذا المقام، الصياغة المتزنة التي تصرف طاقاتهم في أطر شرعية وسياسية، تحفظ للأمة فعالياتهم وقدراتهم وتحميهم من مزالق الاندفاع اللاشرعي، في أجواء المفاهيم المضطربة لمعاني الجهاد والاستشهاد.. وهذا يلزمه مايلي:
(أ) منهج للدراسات الجهادية المعاصرة لتأصيل مفهوم الجهاد وتحديد أطر جهاد البيان، وجهاد السنان، والعلاقة بينهما، ثم تحديد السياسات الجهادية الأمنية والسلمية.
(ب) تشكيل هيئة مشتركة من خبراء عسكريين وعلماء وفقهاء مفكرين من العالم الإسلامي ممن يوثق بدينهم وإخلاصهم وكفاءاتهم الفكرية، لوضع دراسات علمية وموضوعية في تحديد معالم نظريتنا الجهادية التي نرى العمل بها في العصر الحاضر.
(ج) تأكيد المعنى الجهادي للسياسات السلمية في ساحات القتال، وتبديد شبهات الفهم الدخيل على عقلية بعض المسلمين، حول مفهوم السلم وإعطائه معاني الاستسلام والتخاذل والتنازل.
(د) لابد من دراسات دقيقة توضح الفرق: بين تحقيق الولاء البشري لسلطان الله تعالى، وبين قضية حملهم على اعتناق الإسلام، فالأولى واجبة السعي والتحقيق والثانية واجبة الدعوة والتبليغ من قبلنا، وخاضعة للرغبة والاختيار من قبل الآخرين حيث القاعدة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ﴾(6).
3- نظريتنا الأمنية هي الرديف لنظريتنا الجهادية من خلال الحشد العام لمجموع الأمة، ليكون كل فرد فيها خفير حماية ومراقبة، في خدمة خطط وبرامج استراتيجية المنهج الإسلامي، بقيادة ولاة الأمر ومسوؤلياتهم.. وهذا واضح في قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(7).
أما عموم الواجب واليقظة فقد وضحه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كل منكم على ثغرة من ثغور الإسلام الله الله أن يؤتى الإسلام من قبله”(8)، وهذا يلزمه مايلي:
(أ) تحديد مفاهيم ومعالم النظرية المنية في الإسلام .
(ب) تحديد الضوابط الأخلاقية والوظيفية للنظرية الأمنية في المجتمع الإسلامي.
(ج) إقامة الثقة وروح التعاون بين رجل الأمن والمجتمع، والوقوف بحزم أمام أي ظاهرة من ظواهر الطبقية الخطيرة بين جهاز الأمن من جهة، وبقية أجهزة المجتمع من جهة أخرى.. وهذا من أخطر القضايا التي تواجه المجتمعات في غالب البلدان.
(د) الاستفادة من الخبرات والدراسات الأمنية المعاصرة، في إطار قيمنا الأخلاقية والسلوكية.
4- نظريتنا الإعلامية وسيلة متعدد الأغراض والأهداف، به تصاغ جوانب كثيرة من شخصية الفرد في المجتمع.. فبقدر ما نحقق الانسجام والتنسيق بين مواده ولغاته، بقدر ما نحقق تماسك وتعامل البناء التكويني لشخصية الفرد في مجتمعنا، وبالتالي يتحقق تكامل وتماسك البناء الاجتماعي لمجتمعاتنا.. وهذا يتطلب مايلي:
(أ) تحديد معالم النظرية الإعلامية في الإسلام، مستفيدين من المعطيات الحضارية المعاصرة.
(ب) تشكيل هيئة التدارس ومتابعة السياسة الإعلامية الداخلية والخارجية.
(ج) وضع الضوابط والمعايير التي تجعل وسائل الإعلام المتعددة والمتنوعة تسير في حركة منسقة تخدم الهدف الإعلامي العام .
(د) تشكيل هيئة من المتخصصين في الإعلام ومن رجال العلم والفقه والفكر، لوضع المفاهيم والتصورات المشتركة في كيفية الاستفادة من المعطيات الحضارية المعاصرة، في إطار ضوابطنا الأخلاقية وقيمنا الاجتماعية، وهنا نشير إلى المجالات التالية:
1- التصوير الفوتغرافي الحركي منه (التلفزيوني) والثابت (الصحف والمجلات).
2- الفن المسرحي المرئي (التلفزيوني وغير المرئي (الإذاعي).
3- دور المرأة في الإعلام المرئي وغير المرئي.
ونقصد من رواء ذلك إيجاد قاعدة من الفهم المشترك، حتى ينسجم الموقف ويلتحم بين فعاليات الأمة السلطانية والفكرية والفقهية، لأن أي مفارقة واختلاف في الموقف والتوجه ينعكس بشكل أو بآخر على وحدة الموقف في المجتمع ككل.
(هـ) لابد أن نحرص من خلال الإعلام على تقديم الصورة المتزنة والموضوعية لصيغة مجتمعنا الإسلامي، الذي هو هويتنا الحضارية لدى الآخرين.
أي أننا نعني بكل ما تقدم أن نحرص، كل الحرص وأن نعمل كل مايمكن عمله لتحقيق منهج موضوعي وشامل لبناء الوعي السياسي والاجتماعي بكل أبعاده، وبالشكل الذي يمكّن الفرد في مجتمعنا من إدراك مسؤوليته في البناء الإجتماعي، مع إدراك مسؤوليته في حماية هذا البناء، مع التأكيد على أن هذا الطموح لن يكون إلا من خلال خطط وبرامج أكاديمية، لتوفير الكفاءات النوعية في إطار احتياجات تكامل البناء الإجتماعي.. ومن خلال اصطفاء وتشجيع الكفاءات والمواهب المبكرة، لتكوين شريحة اجتماعية مؤهلة لتحقيق عطاء حضاري رفيع المستوى.
2– بناء الاقتصاد:
الاقصاد هو حصاد الجهد السليم للفرد في حقول توظيف واستثمار الطاقة والثروة.. ولتحقيق هذا يلزم مايلي:
(أ) تحديد ملامح النظرية الاقتصادية في الإسلام في أطر الثوابت الشرعية والمعطيات الحضارية المعاصرة.
(ب) وضع الخطط لتوفير الكفاءات الإنتاجية على كافة المستويات الخاصة والعامة.
(ج) وضع الخطط لتنمية الإنتاج الزراعي والحيواني.
(د) وضع الخطط لتنمية الإنتاج الصناعي في مراتبه المختلفة ومن أهمها الإنتاج الآلي ولاأقل من قطع الغيار والتبديل.
(هـ) وضع الخطط والدراسات لزيادة مصادر الثروة الطبيعية.
(و) والعمل على تعدد مصادر المياه الجوفية والتجمعية وتطوير محطات التحلية من حيث الإنتاج والتخزين.
ثانيًا: الساحات العربية:
تبقى الساحات العربية رافد أساس وعامل فعّال، في بعث التضامن الإسلامي، وجدية استراتيجية العمل الإسلامي المشترك، لأسباب وحيثيات لاتخفى على مسلم في الأرض، ومن هنا تبرز أهمية الساحات العربية وأهمية الحرص على تطوير العلاقات والموازنات معها.. وهي للأسف تعاني من تعددية في المذاهب السياسية والفكرية.. مما يلزم معه موازنات دقيقة وضوابط رفيعة المستوى لإمكانية التعايش والتعاون في مثل هذا الواقع المؤلم .
وفي ضوء ذلك وعلى أساس تحديد الثوابت السياسية للعلاقات العربية من أهمها ثوابت الاعتقاد والفكر.. يمكن رسم سياسة السير الموحد للعمل العربي.. وهنا لابد من الإشارة إلى أن أخطر قضية واجهت وحدة العمل العربي في الماضي ولاتزال ذيولها ومعانيها قائمة.. هي الخصومة المفتعلة بين العربية والإسلامية والتي أوجدهها وبعث عوامل فتنتها أعداء أمتنا.. وعمق جراحها ووسع انهداماتها دعاة التعصب للعربية من جهة، وردود الفعل غير المتأنية من بعض الغلاة الإسلاميين من جهة أخرى.. وقد بلغ التطرف بين الفريقين الدرجة التي أصبح معها لفظة (العرب أو العربية) من ألفاظ الكفر والتكفير.. مثلما أصبحت معاني التدين والسمات الإسلامية من علامات الرجعية والتخلف، بل إنها عند البعض دليل قضائي، على العمالة والانحراف والتطرف.. وذهب بعض دعاة القومية أكثر من ذلك فأخذوا بمقولة ماركس قاتله الله: (الدين أفيون الشعب).
ولمواجهة هذا الطرح الكند وهذه الخصومة النكراء لابد من عملية إصلاح جذرية.. وذلك بتحديد المفاهيم الدقيقة للمعايير الشرعية التي تعيد التوازن الطبيعي وأصالة التزاوج بين العربية والإسلام.. وهذا يتطلب مايلي:
(أ) وحدة الفهم والتصور للعلاقة الشرعية بين العربية والإسلام.
(ب) إبراز المفاهيم الشرعية للتشريف الرباني للعرب وقد اصطفاهم الله تعالى لحمل رسالة الإسلام للعالمين.
(ج) وحدة الفهم والتصور في مفاهيم عروبة النسب وعروبة اللسان والعلاقة بينهما.
(د) وحدة الفهم والتصور لمعايير الامتياز الشرعي في إطار الاعتقاد والقيم الإسلامية.
(هـ) وحدة الفهم والتصور لمعايير العلاقة بين الأنساب البشرية في إطار الاعتقاد الإسلامي والسياسات الشرعية عامة.
(و) طرح مفاهيم وتصورات عملية معاصرة لصيغة الوحدة العربية.. ونحسب أن صيغة مجلس التعاون الخليجي تعتبر فكرة رائدة كخطوة مرحلية متزنة وموضوعية في طريق العمل العربي المشترك.
(ز) تطوير فكرة الجامعة العربية لتؤدي دورًا أكثر فعالية على الساحة العربية.
(ح) وضع الدراسات الدقيقة والموضوعية لتحقيق فكرة السوق العربية المشتركة من خلال برمجة محلية ومتأنية.
أما القضية الأخطر والأفتك في جسد الأمة العربية والإسلامية، هي فتنة الطائفية والتي أحسب أن القوى العالمية من صليبية وصهيونية تقف وراء هذه الايدلوجية الجديدة للإمعان في تمزيق الأمة العربية والإسلامية، من خلال صراع طائفي بعد أن مزقوا الأمة من قبل بطرح فكرة الصراع القومي الذي أشرنا إليه آنفًا.
ثالثاً: الساحات الإسلامية:
لاشك ان الساحة الإسلامية هي الامتداد العضوي لجسد الأمة العربية.. بل هي نسيج عطائها العقدي والحضاري.. ورصيدها الضخم على امتداد الساحات العالمية.. الأمر الذي إذا أحسن التعامل معه ومن ثم أمكن توظيف طاقاته وقدراته بموضوعية وعلمية مناسبة.. فإنه سيكون البوابة العريضة أمام الأمة الإسلامية، لعبور الساحات العالمية بكل جدارة وبكل كفاءة من كثرة تعقيداتها وصعوبة تضاريسها.. والقضية الخطيرة التي واجهت المسلمين من قبل ولازالت آثارها قائمة حتى اليوم.. هي أيضًا قضية القوميات والسياسات القومية لكل قطر إسلامي، ومايتبع ذلك من إسقاط وإضعاف للوشيجة الإسلامية ولروابط الأخوة الإسلامية.. ولمواجهة هذا الخلل الكبير لابد من منهجية تصحح بها المفاهيم والمواقف على الساحات الإسلامية المتعددة يراعى فيها مايلي:
(أ) التأكيد على العقيدة الإسلامية وعلاقتها بوشيجة الإخاء الإسلامي.
(ب) توضيح مفاهيم السيادة الإقليمية في إطار سيادة الأمة الإسلامية.
(ج) طرح مفاهيم إسلامية معاصرة لشكل ومضمون الأمة الإسلامية.
(ج) التأكيد على الواجب العقدي تجاه المصالح الإسلامية لأي شعب مسلم في أي قطر.
(هـ) طرح منهجية حصانة للمصالح الإسلامية مع توفير الحماية المشتركة لها.
(و) طرح مفاهيم تكامل الاقتصاد الإسلامي على الساحات الإسلامية.
(ز) طرح منهجية موضوعية لتحقيق فكرة السوق الإسلامية المشتركة من خلال برمجمة مرحلية متأنية.
(ح) دعم منظمة المؤتمر الإسلامي وتطوير فعالياتها وأدائها ومكانتها إسلاميًا ودوليًا.
رابعا: الساحات العالمية:
إن العالم العربي والإسلامي يشكل أكبر حشد بشري واقتصادي على الساحات العالمية.. بل إن موقع العالم العربي والإسلامي يمثل قلب العالم ونقطة الارتكاز الهامة والأساس في حركة التوازن والاستقرار فيه.. لذا لابد أن يدرك المسلمون أهمية وخطورة مكانتهم وأهمية دورهم على الساحة العالمية.. مع إدراك واجب التكليف الرباني وقد اكتسبوا به موقع الريادة للبشرية جمعاء.. ولتحقيق فعالية الوجود الإسلامي لابد أن ندرك بكل دقة وبكل موضوعية مايلي:
(أ) أن التكنولوجيا المعاصرة قد اختصرت المكان والزمان على الساحة العالمية بحيث أصبح الناس كأنهم يعيشون في حيز متقارب الأطراف يصعب معه التمييز بين ماهو إقليمي وما هو عالمي.
(ب) إن التدخل العجيب والمعقد لقضايا العالم جعل أي قضية إقليمية هي جزء لايتجزأ من قضايا العالم.
(ج) إن العالم اليوم بشكل أو بآخر تتحكم بمصائره قوى دولية معينة لها استراتيجياتها ولكل وسائلها في تحقيق أهدافها وغاياتها.
(د) إن ثروات العالم الإسلامي وقدراته المتنوعة تشكل مرتكز النزاع والصراع بين قوى العالم المختلفة.
(هـ) إن عملية التأهيل الأكاديمي والموضوعي لتقويم الساحات من حولنا أمر هام وأساسي ونحن نواجه التفاعلات السياسية من حولنا.
(و) إن عملية التأهيل والارتقاء الكفائي لتحقيق دور سياسي فعّال على الساحة العالمية بواقعها المعقد.. يحتاج بكل اختصار إلى مايلي:
1- التعرف بدقة وموضوعية فائقة على طبيعة وأبعاد الاستراتيجيات العالمية من حولنا.
2- التعرف بموضوعية على ثوابت العلاقة بين القوى العالمية سياسيًا واقتصاديًا.
3- التعرف بدقة ووضوح على طبيعة ومصالح التحالفات والموازنات السياسية والاقتصادية بين القوى العالمية.
4- التعرف على طبيعة وأبعاد سياسات القوى العالمية.
5- المتابعة الدؤوبة للحركة السياسية العالمية بكل تغيراتها العجيبة والمتسارعة على كل ساحة من ساحات العالم.
6- مراقبة التفاعلات العالمية مع الأحداث الساخنة على الساحة الدولية المتنوعة.
وهذا كله يتطلب تحقيق وتوفير كفاءات عالية تستطيع ذلك وتتقن ذلك من خلال مايلي:
(أ) الاهتمام بالبحوث والدراسات الاستراتيجية العالمية.
(ب) الاهتمام بإقامة المعاهد الأكاديمية للدراسات الاستراتيجية المتخصصة.
(ج) وضع المناهج التربوية والتكوينية المتكاملة لبناء الوعي الاستراتيجي المحلي والعالمي.
(د) استقطاب الكفاءات الإسلامية على الساحة العالمية لتوظيف طاقاتها وقدراتها في دوائر مساندة لاستراتيجيتنا العامة.
(هـ) الاهتمام بمراكز جمع المعلومات وتصنيفها.
وبعد فإن ماتحتاجه أجيال أمتنا الإسلامية لتحقيق ماتقدم من مفاهيم وتصورات وبرامج وطموحات، أن تتوحد رؤيتها حول المفاهيم العامة والمقاصد الكلية للإسلام عقيدة وشريعة، وتجنب الخوض في الفرعيات والتي هي غالبًا موضع خلاف في الاجتهاد بين الناس، وحسبهم أن يلتقوا على (أن الإسلام دعوة إيمانية بخالق السموات والأرض ومابينهما وبرسله “لاإكراه فيها” وذلك وفق قاعدة يلتزم بها الجميع عملاً وهي “أن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله” وأن الإسلام دعوة عالمية إلى الأمر بكل ما عرف خيره واستنكار كل ماعرف شره، ومن أجل تحمل مسؤولية عمارة الأرض وعدم الإفساد فيها وإقامة العدل والسلام في ربوعها، وأن الخطاب في ذلك عقيدة ودعوة إنما هو للعقل، وأن الحوار بالعلم والقول الحسن، لتحقيق الآمال ومعالجة الآلام)(9).
* * *
الهوامش :
- آل عمران: 110.
- البقرة: 143.
- التوبة: 111.
- حديث شريف.
- النحل: 77.
- البقرة: 256.
- النساء: 83.
- حديث شريف.
- إعداد دولة الدكتور محمد معروف الدواليبي.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1429هـ = سبتمبر – أكتوبر 2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32