الفكر الإسلامي
بقلم : الباحث الإسلامي الكبير الأستاذ السيد مناظر أحسن الكيلاني رحمه الله
أحد كبار علماء جامعة ديوبند ، المتوفى 1375هـ / 1956م
تعريب : الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي الأعظمي
إدعاء المهدية والمسيحية :
والحق أن الأيام الأخيرة شهدت نشاطات غير عادية تمثلت في محاولة البعض – شر محاولةٍ – استغلال قضية يأجوج ومأجوج . فبنشوا قصص يأجوج ومأجوج ، والمسيح الدجّال ، وأثاروا ضجّةً – دون سبب – قولوا : إن البحث المسيح ابن مريم قد حان موعده . وخلال هذه الضجة تظاهروا بزعمهم أن الذي يسميه المسلمون المهديَّ ، وتسميه النصارى المسيحَ ابن مريم قد نزل فعلاً . فأقبلت فئة من الناس السذَج على هذا الزعم الغريب المنكر، وأخذت تتريث الأعمال التي تجعل المهدي مهديًا، والمسيح ابن مريم مسحيًا ، إلا أن هؤلاء البائسين تمادوا في تريثهم ، وانتظارهم ، وذهب كل من زعم نفسه مهديًا أو مسيحًا لسبيله . وشهدت أيامهم ، والأيام التي تَلَتْ موتَهم ، ولاتزال تشهد أحداثًا تخالف أعمال المهدي والمسيح ابن مريم .
فأصبحت هذه الفئة الناظرة البائسة في حيرة من أمرها . كيف تؤول تلك المغالطة التي جرّت إليها ، وفرضت عليها . رغم أن الأحداث التي تذكرها الوثائق والمصادر الدينية على أنها من أشراط الساعة ليتَه لم يتغلغل في صدورهم أن هذه الأحداث تحدث في آنٍ واحدٍ ، في مرحلةٍ معينةٍ من الزمان ؛ فإن ذلك قضاء عاجل ، وغير علمي . والحق ما أشار إليه شيخنا الإمام أنور الشاه الكشميري ، وما ورد في شرحه على صحيح البخاري المسمى بـ «فيض الباري» ، الذي أملاه على أصحابه ، حيث يقول : «ألا ترى أن النبي ﷺ من أشراط الساعة : قبضَه من وجه الأرض ، وفتح بيت المقدس ، وفتح القسطنطنية ، فهل تراها متصلةً وبينهما فاصلةٌ متفاصلة؟» (1)
وعلى كل فما قاموا به من إلهاب رغبة الناس في طلب المهدي ، والمسيح لمجرد فتح يأجوج ومأجوج أصدقك أن هذه الضجَّة وَأَدَتْ تحت غبارها العارم حقيقةً كبرىٰ هامةً ، وإلا فإن واقع أمر يأجوج ومأجوج لم يكن إلا كما قال الإمام الكشميري : «لهم خروج مرةً بعد مرةٍ ، وقد خرجوا قبل ذلك أيضًا ، وأفسدوا في الأرض بما يستعاذ منه ، نعم ! يكون لهم الخروج الموعود في آخر الزمان ، وذلك أشدً .(2)
ومن ذا الذي يستطيع تحديدَ مدة خروجهم في انقضاء هذا العالم أي المدة التي يعيشون فيها فسادًا في الأرض ؟ إلا أن الروايات تقول : إن الله تعالى سيُعِدّ عدةً من لدنه في أعقاب خروجهم ليستأصلهم، وينقذ الأرض من فتنتهم ، ونكبتهم . وأنه سيبرز رجالٌ صفوةٌ لمواجهتم ومناهضتهم . وتتعرض الروايات عندنا لهذا الصراع الأليم ، وتجمع هذه الروايات بين الغثّ والسمين ، وتلقّاها عامة الناس بقبول أكبر ، واشتهرت فيهم ، وتنتقل إليها أذهانهم كلما سمعوا إسم يأجوج ومأجوج رغم أن المصادر تحكي عن عامة أئمة الجرح ، والبحث والدراسة قولهم : إنه قد اختلف في عدوهم وصفاتهم ، ولم يصحّ في ذلك شيء.(3)
بيد أن عامة الناس شاعَتْ فيهم – استنادًا إلى هذه الروايات – أشياءُ منها : أن صنفًا منهم طول فاحش حضرِط ؛ وصنف أربعة أذرع طول ، وأربعة أذرع عرض ؛ وصنف منهم لايتجاوز طوله شبرًا أو شبرين ؛ وصنف منهم يفترشون آذانهم ، ويلتحفون بالأخرىٰ .
وتذكر هذه الروايات كثرة عددهم ، وأنهم لا يخضعون لنظام أو قانون في الزواج والنكاح وكذلك في مأكلهم ، ومشربهم ، فلا يمرّون بفيل ولا وحش ، ولا جمل ، ولا خنزير إلا أكلوه.(4) رواية يوثق بها :
والغريب في الأمر أن أوساط العامة والخاصة قد تلقت أمثال هذه الروايات بالقبول ، وراجت فيها إلا أن ما نجد في أمثال هذه الروايات ، وخذ مثلاً – ما رواه البيهقي(5) في كتاب البعث ويرويه مصادر التفسير كذلك – عن ابن عمر(6) أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : «من ورائهم ثلاث أمم : تأويل ، وتارليس ، ومنسك» .
وليس البيهقي وحده ، وإنما عزاه – كذلك – السيوطي(7) إلى الطبراني(8) وابن المنذر(9) وغيرهما من مصادر الحديث التي تصنف في الدرجة الرابعة من درجات كتب الحديث . وعلاوةً على ابن عمر، وقد روي عن عبد الله بن مسعود(10) كذلك أنه سمع رسول الله ﷺ يقول ذلك .(11)
فخذ ما رواه ابن عمر، وابن مسعود هذا إلى ما ذكره التوراة من الوثيقة التي عَزْتها إلى أحد صالحي بني إسرائيل يمسى بـ «حزقيل» . وقد أدرجت هذه الوثيقة ضمن ما يسمى با «لعهد القديم» . وهذه الوثيقة التاريخية تعود إلى ما لايقل عن ألفين ، وخمس مائة عام .(12)
وعلى كل قد عزا هذا الكتاب إلى النبي حزقيل هذا أو قريبًا ، فقال :
«وكان إلي كلام الرب» .
وذكر كثيرًا من الأحداث التي تقع في المستقبل، ومنها :
«وكان إلي كلام الرب قائلاً : يا ابن آدم ! اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ماشك ، وتربال ، وتنبأ عليه ، وقل : هكذا قال السيد الرب ، يأجوج رئيس روش ماشك وتربال .(13)
ثم قال في الإصحاح التاسع والثلاثون :
«يا ابن آدم ! تنبأ على جوج ، وقل : هكذا قال السيد الرب : ها أنذا عليك يأجوج رئيس روشك ماشك وتوبال.(14)
كأن الروس من ذرية يأجوج ، وأهل
بريطانيا من ذرية مأجوج :
هذا ، وقُمْ بدراسة ما عنونه عامة كتب مبادئ الجغرافيا بـ «أسيا الروسية» ، وما تذكره من التفاصيل ، تجد أن روسيا تضمّ قطعة من الأرض – أربعة أضعاف الهند – تسمى بـ «سيبيريا» (Siberia) وتضمّ هذه المنطقة كلاً من «أستبيز» ، و«توندار»، تلك الأقطاع الشاسعة بالإضافة إلى توبولسك(15) و «منسك» من المون ، و «ولادي»، و«إستوك»، و«كوتسِك» وغيرها من القرى .
فقل لي – دون أن يعزب عن بالك هذه التفاصيل – من ذا الذي يأخذه العجب مما ادّعاه شيخنا الإمام الكشميري قائلاً : وأما الروس فهم من ذرية يأجوج .(16)
بالإضافة إلى ما يقوله أحيانًا : إن يأجوج ومأجوج لا يبعد أن يكونوا أهل روسيا وبريطانيا.(17)
وبما أن الشطر الثاني – أي أن يكون أهل بريطانيا من ذرية يأجوج ومأجوج – قضية تاريخية، وأنا أكّدت – منذ البداية – على أني لا أتناول في مقالتي هذه – ما استطعت – قضية لاتحمل إلا أهميّةً تاريخيةً ، وهذه تخصّ الأخباريين فلهم أن يبحثوا فيها في ضوء دراساتهم وعلومهم إذا ما شاؤوا.(18)
والحق – كما أسلفت – في شأن المسيح الدجال أننا نحتاج – حقًا – إلى تلمس الصفات الدجالية التي حوّلت الدجال دجالاً ، لا إلى البحث عن ذاته وشخصه . وكذلك البحث عن الأمم التي عسى أن نعدّها يأجوج ومأجوج لا يحمل أهمية أكثر من أنها قضية تاريخية لا طائل تحتها ، وإنما يجب علينا كذلك في خصوصهم أن نركّز جهودنا على الصفات التي جعلت الملل والأديان تصِرّ على التحذير من يأجوج ، ومأجوج ، دون البحث عن ذواتهم .
* * *
الهوامش :
- فيض الباري شرح صحيح البخاري 4/23 .
- نفس المصدر .
- نفس المصدر 4/26 نقلاً عن البحر .
- راجع : الدر المنثور للسيوطي 5/452 ط : دارالفكر، بيروت .
وتتضمن كتب التفسير القديمة هذه الروايات . وقد حوى كتاب الدر المنثور للسيوطي قسطًا كبيرًا منها إلا أن مصادر هذه الروايات معظمها لا يتمتع بالثقة والاعتبار . ويفيد البحث والدراسة أنها في الغالب أقوال من أسلم من اليهود والنصارى . غير أن كثرة عددهم أمرٌ يقول فيه الإمام الكشميري : قد صَحّ في كثرة لمددهم أحاديث . راجع : فيض الباري له 4/26 .
وبهذه المناسبة يحضرني «رحلة الأمير نواب ظهير يار جنك» إلى أوربا ، وأمريكا ، يقول فيها : إنه قد مرّ في بعض البلاد – وهي هولندا (Holand) فيما أظن – لا على شخص أو شخصين ، وإنما على قرية بأسرها قد بلغ أهلها في القِصَر أيّ مبلغ ، فالقرية عبارة عن الأقزام قِصَار القامة بما فيهم الرجال والنساء ، والأطفال .
- البيهقي (384-458هـ = 994-1066م) أحمد بن الحسين بن علي ، أبوبكر: من أئمة الحديث ، ولد في خسرو جرد (من قرى بيهق ، بنيسابور) نشأ في بيهق ، ورحل إلى بلاد عدة ، من كتبه : «السنن الكبرى» ، و«الأسماء والصفات» ، و«دلائل النبوة» ، و«الترغيب والترهيب» ، «معرفة السنن والآثار» ، وغرها . راجع (الأعلام للزركلي 1/116)
- ابن عمر (10 ق هـ – 73هـ = 613-692م) عبد الله عمر بن الخطاب العدوي ، أبو عبد الرحمن : صحابي من أعزّ بيوتات قريش في الجاهلية . كان جريئًا جهيرًا ، نشأ في الإسلام . مولده ووفاته في مكة . آخر من توفي بمكة من الصحابة له في كتب الحديث 2630 حديثًا . راجع الإصابة 2/347 ؛ والأعلام للزركلي 4/108 .
والحديث رواه الطيالسي في مسنده ص 301 من حديث عبد الله بن عمرو ، وكذا السيوطي في الدر المنثور (5/452) من حديثه .
- السيوطي (849-911هـ = 1445-1505م) عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق السيوطي ، جلال الدين : إمام ، حافظ مؤرخ ، أديب ، كان منزويًا عن أصحابه جميعًا ، كأنه لايعرف أحدًا منهم . فألّف أكثر كتبه . كان الأغنياء والأمراء يزورونه ، ويعرضون عليه الأموال والهدايا فيردّها . من كتبه : «الأشباه والنظائر» . «الألفية» ، «الدرالمنثور» ، و«تفسير الجلالين»، «الحاوي للفتاوى» . راجع الأعلام للزركلي 3/301 .
- الطبراني (260-360هـ = 873-971م) سليمان بن أحمد بن أيوب ، أبو القاسم . من كبار المحدثين . رحل إلى بلاد عدة . له ثلاثة «معاجم» . وله كتب في «التفسير»، و«الأوائل» ، و«دلائل النبوة» . (راجع الأعلام للزركلي 3/121) .
- ابن المنذر (242-319هـ = 856-921م) محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري ، أبوبكر: فقيه مجتهد ، من الحفاظ . كان شيخ الحرم بمكة . من كتبه : «المبسوط» ، و«الأوسط في السنن والإجماع والإختلاف» ، و«اختلاف العلماء» ، و«تفسير القرآن» . توفي بمكة . (راجع الأعلام للزركلي 5/294) .
- عبد الله بن مسعود (000-32هـ = 000-653م) عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي ، أبو عبد الرحمن : صحابي ، من أكابرهم فضلاً ، وعقلاً ، وقربًا من رسول الله ﷺ ، وهو من أهل مكة ، ومن السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة ، وكان خادم رسول الله ﷺ ، وصاحب سِرّه ، ورفيقه في حله وترحاله ، وغزواته . له 848 حديثًا . (راجع : الإصابة 2/368؛ والأعلام للزركلي 4/137) .
- الدر المنثور 5/452 .
- ويقال : إن حزقيل عليه السلام شهد أسر «بخت نصر» لبني إسرائيل ، وحمله إياهم معه . إذاً حزقيل سبق عيسى عليه السلام بخمس مائة عام . فهذا التنبؤ لا يقل عمره عن ألفين ، وخمس مائة سنة .
- سفر حزقيال الإصحاح الثامن والثلاثون 1-4 .
- نفس المصدر .
- توبولسك (Tobolsk) إحدى الولايات السيبيرية ، وعاصمتها توبولسك على نهر إيرتشك . وسكان العاصمة 32 ألف نسمةً . كانت قديمًا بلدة تجارية، وعاصمة لسيبيريا الغربية . (راجع النخب الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية لـ إسماعيل علي ص 479 ط: مطبعة إندريا كوستا جليولا ، مصر عام 1903م) .
- فيض الباري 4/23 .
- فيض الباري 4/25 .
- إن الإلمام بأنساب الأمم الأوربية ، وقبائلها ذات أسماء لاتحصى ولا تعدّ بالإضافة إلى أشياء أخرى منها : أن إنكلترا تتضمن جيلاً يمسى بـ جبل «غاغ ميغاغ» أو أنها تشهد احتفالاً يسمى «احتفال غاغ ميغاغ» منذ عهد من التاريخ مجهول أو نصب تماثيل يأجوج ومأجوج ذات العيون الزرقاء على جنبي أبواب البناية التي تدعى «قاعة غلد» في لندن ، وربما تتخذ بلدية «لندن» هذه البناية مقرًا لها ، إلامَ يشير ذلك ؟ إن لعلماء التاريخ أن يتخذوا هذه ، وعشرات غيرها من القضايا الممتعة موضوع دراستهم وبحثهم ، ليتوصلوا إلى شيء . وأما أنا فيُغْنِيْني هذه الإشارات العديدة فيما يخصّ هذه المقالة .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.