الفكر الإسلامي
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ /1880م
رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
العبد الكامل هو محمد رسول الله ﷺ
فمن ظهرت فيه هذه الصفات أكثر وانتهت إليه، ولا يمكن أن تظهر فيه أكثر مما ظهرت كان أفضل المخلوقات وأعلاها مرتبة ، وهو الذي يستطيع أن يؤدِّي العجز والتضرع والتواضع أداءً كاملاً ؛ لأنَّ الظهور الكامل يقتضي أن يكون صاحبه ذا قابلية؛ والسبب في ذلك أنَّ الظهور عبارة عن العطاء الحاصل من الله تعالى ، فمن زاد عطاؤه زادت قابليته ، فلزم أنَّ من ظهرت فيه صفات الله ظهورًا كاملاً كان لصفات الله تعالى بمثابة «القالب» أي إنَّ «القالب» و «المقلوب» لهما صورة واحدة . لا فرق بينهما إلا أنَّ «القالب» خالي الداخل ، والمقلوب مليء الداخل ، فالقابل الكامل لصفات الله تعالى يجب أن يكون على صورته ، ويكون خالي الداخل محتاجًا إليه كلَّ الاحتياج ، وظهرت منه أنواع من الاحتياجات ، فنحن نمسيه عبدًا كاملاً وسيد الكونين وخاتم النبيين كما مر بكم آنفًا ؛ فمن ذلك العبد ياترى ؟! فنقول : هو محمد رسول الله خاتم النبيين .
وجملة القول إنَّ العبادة الكاملة لاتُتَصَوَّر إلا من محمد رسول الله خاتم النبيين ﷺ ، وكيف لا ؟ فالعبادة ليست عبارةً عن ظاهر الانشغال ليلَ نهارَ، وإنما هي عبارة عن مجموعة العجز والتضرع والتواضع الذي يُقَابِلُ كل صفةٍ من صفات الله بما يليق بها .
فلما حَصَلتِ العبادةُ الكاملةُ فماذا بعدُ ؛ فإذا نضج الطعام من الخبز والإدام والرز تُطْفَأ النار في المطبخ وتُعَادُ الأواني وأدوات الطبخ إلى مواضعها، كذلك فلما حصلت العبادة الكاملة فقد حان موعد فناء الدنيا ؛ فإن انْتُظِرَ لشيء فإنما يُنْتَظَر أن ينتشر هذا الدين في العالم كله انتشارةً واحدةً ولايبقى فرد من أفراد البشر إلا ويعتنق هذا الدين .
والسبب في ذلك هو أنَّ لكل شيء مصرفا، فإن لم يُوْضَع الشيء في مصرفه فوجوده وعدمه سواء، فإن أُعِدَّ الطعام ولايُؤكَل ، وأُحْضِرَ الماء ولايُشْرب فما الفائدة في وجود هذا الطعام والشراب . فلما تأملنا في دين سيدنا محمد خاتم النبيين ﷺ وجدناه للعالم كله؛ وذلك أنَّ خاتم النبيين هو بمثابة الملك الأعظم في المخلوقات فكما أنَّ أمره مسموع ومطبَّق في البلاد كلها فكذلك أمر خاتم النبيين أي دينه الذي جاء به ينبغي أن يُطَبَّقَ في العالم كله ، وإلا لكان مجيئه بهذا الدين سُدىً ، وبالجملة فخاتم النبيين كما أنه عبد كامل بالنسبة إلى المعبود فكذلك هو حاكم كامل بالنسبة إلى بني آدم ، وكيف لا ؟ فهو أفضلهم ؛ فكانَ حاكما عليهم ، ولزِمَ منه أن يكون أمره آخر الأمور الصادرة ؛ لأنَّ أمر الحاكم الأعلى – تبعًا لتقليد مرافعات القضايا في المحاكم – يصدر آخِرَ الأمر ، فلما كانَ حاكمًا أعلى وجب أن يمتثل الناس جميعًا لأمره طوعًا أو كرهًا .
فكمال العبادة متمثل في عبادة خاتم النبيين ، وكمال حكم خاتم النبيين متمثل في سيطرته العامَّة، وهذان الأمران لابُدَّ من وقوعهما ؛ فكمال العبادة بمقتضى كمال معبودية الله تعالى أي جامعية صفاته، وكمال السيطرة بسبب علوهمة خاتم النبيين ، فكمال العبادة في الصورة الأولى كيفيَّة ، وفي الصورة الثانية كميَّة ، فكمال العبادة منحصر في هاتين الصورتين لاغير . فلما ظهر هذان الكمالان لزِمَ أن تُغْنـٰـى هذه الدنيا التي خُلِقَتْ للعبادة ، وهذا الفناء هو الذي يُسَمّى بالقيامة ، وأن يأتي يوم يُحَاسَبُ فيه الناس، وهذا ما يُدْعـٰـى يوم الحساب ، أو الحشر أو يوم الفصل، أما يوم الحساب فمعناه ظاهر ، أما الحشر فهو لغةً الجمع ؛ لأنه يُجْمَعُ الناس في ذلك اليوم ، وأما يوم الفصل فأخيار الناس وأشرارهم يعيشون في الدنيا أخلاطًا ، فهم في ذلك اليوم يفصلون ويفرَّقون ليُجْزٰى كل منهم بما يناسِبُه ، فيدخل أهل الجنة الجنةَ وأهلُ النار النارَ .
الدليل الرابع
هذا وإنَّ النشوء والنماء إنْ كان من أعمال القوَّة النامية فتصوير الناميات وإعطاؤها شكلاً لائقًا بها من أعمال القوة المصوِّرة ، ولما كان النماء ينتهي إلى صورة عُلِمَ منه أنَّ القوة المصوِّرة من خَدَمَة القوَّة النامية شأنَ القوَّة النامية التي هي من خَدَمة الحياة في الحيوانات .
فلما تأملنا في العالم وجدناه يحتوي على صُوَرٍ متعددة ، وكل صورة لها صفة ومعنى ، فعُلِمَ منه أنَّ كل صفة ومعنى لها صورة صالحة للظهور في عالم المحسوسات ، فالتراب صورة لليبوسة ، والماء صورة للرطوبة ، والنار صورة للحرارة . ولما تأَملنا في الإنسان وجدناه صورة للمعاني المجتمعة ؛ لأنَّ صورته مركبة من صور متعددة ، أي إنَّ الروح الإنسانية عبارة عن مجموعة من القوى من الباصرة والسامعة وغيرهما ، وهي صفات ومعانٍ تُقَابِلُها صورة مؤلفة من أعضاء مختلفة ، فتكون صورةً مركبة .
ثم رأينا أنَّ المعاني والصفات الصالحة للتصوير لم تبلغ – إلى الآن مرحلة الظهور ولم تلبس لباسَ الصورة ؛ فنظرًا إلى قانون القوة النامية في العالم كما أنَّ الحمام والطيور نَزْوها الذي هو من جملة المعاني والصفات يُوَلِّد البيضة وبالتالي الفرخ الذي يصير في يوم من الأيام حمامةً أوطائرًا ، وهذا النشوء والنماء والتصوير من تأثير القوة النامية والقوة المصوِّرة فكذلك وجب أن تظهر تلك المعاني غير المصوَّرة وتلبس لباس الصورة ؛ لأنه من المؤكد أنَّ هذا العالم هو مظهر لتأثير القوَّة النامية ؛ لأنَّ القوَّة المصورة من خَدَمَة القوة النامية .
فقد ظهرت القوَّة النامية في الحيوانات والنباتات ظهورَ نور الشمس في المرايا والذرات والفتحــات ؛ فكل مـــا نـــرى مـن النور في العالم هــو انعكاس للشمس ، فكــــذلك كل مـــا نرى من النماء في العالم هو مظهر للقوَّة النامية في العالم ، فلمــا رأينا عــــدة معانٍ وصفات ، وهي لم تُصَوَّر بعدُ ، كالأفعال الاختيارية والخير والشر التي لم تُصَوَّر إلى الآن ؛ فعلمنا أنَّ العالم كبيضة الحمام حتى الآن .
وبيان هذا الإجمال أنَّ البيضة هي صورة لشهوة الطرفين وهي من جملة المعاني والصفات ، إلا أنَّ ما في البيضة من المعاني المكنونة لم يُصَوَّر إلى الآن ، فلما تحوَّلت البيضة إلى الفرخ علمنا ما فيها من القوى المكنونة التي ظهرت الآن ، وأما من قبل فكنا لانعلم أكثر من أنَّ البيضة هي إجمال لقوى الذكر والأنثى ، وعند التفصيل وجب أن تُصَوَّر البيضة التي هي خلاصة قوى الطرفين بصورةٍ توافق قوى الطرفين .
كذلك شأنُ عالم الأجسام . فهو إجمال للقوتين العلمية العملية في العالم العلوي ؛ لذلك لم تُصَوَّر المعاني كلها إلى الآن .
خلاصة القول إن العالم هو إجمال لعلم الله تعالى وقدرته ، وكيف لا ؟ فلو كانَ تفصيلاً لصُوِّرَتِ المعاني كلها ؛ فوجب أنه كما أنَّ البيضة تنكسر وتنقلب المادة البيضوية إلى صورة بفضل القوتين النامية والمصورة فكذلك تَنْقَلِبُ صورة العالم بفضل القوتين النامية والمصورة ، وتُصَوَّر مادةُ العالم بصورة أخرى .
الدليل الخامس
هذا وقد جرت عادة حَكاَّم الدنيا أنها إذا خَرَجَ أهل مدينةٍ أو قريةٍ عليهم يُعَاقِبونهم بأشد أَنواع العقاب : يُقَتِّلونهم تقتيلاً أو يزجون بهم في السجون ، ويحرقون المدينة أو القرية تحريقًا ويهدمون مبانيها هدمًا ؛ وذلك لأنَّ الخروج جريمة لا تفوقها جريمة ، فينبغي أن يُعَاقَبُوا بأشدِّ أنواع العقاب .
فلما تأملنا في العالم وأهله وجدنا بني آدم رعية الله تعالى وهذه الأرض والسماء مسكنًا لهم ، لأنهما خُلِقتا لهم ، كماتقدّم ذكره ثم إنَّ الثورة والخروج والعصيان تزداد في العالم يومًا فيومًا ، فإن عادوا لرشدهم فذلك لمدة قصيرة فحسب . فمن المؤكَّد أنَّ هذه الثورة تصير في يوم من الأيام عارمةً تجتاح العالم كله ، وكيف لا ؟ فإنَّ أساس الثورة والخروج على شهوة النفس وهي طبيعية ، ومبنى الطاعة على معارضتها عارضة طارئة ؛ فلذلك دُعُوا إلى الطاعة بالكتب المنزلة والرسل ومواعيد الثواب والعقاب ، وأما الثورة والخروج فلم يُمَارس لها من ذلك شيء. ثم إنَّ هذه الثورة والخروج بعد بعثة خاتم النبيين حيث انتهى عملُ العبادة ، فلا حاجة أن يُستخدموا بالإشراف وبذل النصح ومن يستخدم البنَّائين بعدما ينتهي البناء ؟ فمن المؤكد أن يسود الكفر العالم كله في يوم من الأيام ، ويعود العالم ثائرًا على الله ، إذًا فتقتضي مشيئة الله تعالى أن يخرِّب هذا العالم تخريبًا ويلقي القبض على بني آدم فيجازيهم أو يعاقبهم بما يناسبهم .
(تمَّ تعريب هذا الكتاب في 24/ شوال 1425هـ = 5/ يناير 2005م في الساعة التاسعة صباحًا بدارالعلوم ديوبند.)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.