أبو أسامة نور
شَرَّف اللهُ القلمَ؛ إذ ذَكَرَه في أوّل وحي أنزله على نبيه الخاتم سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكَرَّمه؛ إذ نَصَّ فيه على أنّه عَلَّمَ به الإنسانَ “الَّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ” (سورة العلق/4)؛ فهو أصلُ وسيلة للعلم. ولا كرامةَ أبلغُ من هذه الكرامة الإلهيّة؛ من هنا عُدَّ القلمُ أعزَّ شيء يحمله الإنسان، ومن هنا ظلّ النوعُ البشريّ يحترمه الاحترامَ كلَّه، ويُقَدِّر حاملَه التقديرَ الذي لايُقَدِّره حاملَ شيء في الدنيا مهما عَلاَ وغَلاَ.
كما أَقْسَمَ اللهُ تعالى بالقلم وبالحقائق التي تُسَجَّلُ به وبالكتابات التي تُنْشَأُ به: “ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ” (القلم/1). وفي ذلك تكريمٌ أيُّ تكريم ليس للقلم وحدَه، ولكن للكتابات التي تُسْطَر به كذلك.
ولكنّه اليومَ راح يُمْسِك به كلُّ من هَبَّ ودَبَّ؛ فلا يحترمه كما لايحترم نفسَه. وأصبح شأنهُ – القلم – شأن اللسان الذي يُحَرِّكُه كلُّ إنسان في فيه لسانٌ؛ فكما أصبح الناسُ يفتحون أفواهَهم كلَّ وقت وفي كلّ موقفٍ، كذلك صاروا يُحَرِّكُون القلمَ ويجرّونه في كلّ موقع كريم و وضيع، فأصبح مُهَانًا مُضَاعًا تدوسه أقدامُ الأرذال من الناس .
إنَّ القلم كان جديرًا أن لايُسْتَعْمَل إلاّ لبناء الإنسان، وعمارة الكون، ونشر الخير، وقمع الشرّ، وإزالة المفاسد، وترسيخ المحاسن، وزرع القيم الإنسانية، وإصلاح البلاد والعباد. وكان واجبًا أن لايُسْتَخْدَم للإفساد في الأرض، والتستّر على الصدق، وإثبات الكذب صدقًا، وتغيير الحقائق، وإيجاد الوثائق، والإفساد على الإنسان دينَه وعقيدتَه وخُلقَه وكلَّ شيء يضع الخطَّ الفاصِلَ بينَه وبينَ البهائم؛ ولكنّ القلمَ اليومَ مطروحٌ في الأسواقِ بكثرة، وتنافستِ الشركات في إنتاجه بأصنافه، وتَوَفَّرَتِ الجهاتُ والجماعات بمُسَمَّيَات شتّى وعناوين عديدة على تسميم أذهان النشء الجديد باسم التعليم، وتضليله باسم التثقيف، والتيه بعقوله في متاهات كثيرة باسم التنوير. ولايعلم إلاّ الله وحده مدى انتصارات الحضارة الغربيّة النحسة، ومدى تدمير الإنسانية بيدها باسم مظاهر التقدم والازدهار على هذه الأرض التي لم يخلقها اللهُ إلاّ لصلاح الخلق.
القلمُ وحدَه الذي يُسْتَخْدَمُ اليوم بهذه السعة وعلى المستوى البعيد لإفساد الإنسانيّة وتدميرها من على منبر الصحافة والإعلام، والروايات الفاسدة المفسدة، والقصص الماجنة الغراميّة، والكتابات الوقحة التي تتلاعب بأذيال المجد والكرم، والقيم الإنسانية، والمثل البشريّة، وتُوَجَّه بها التهمُ إلى كل بريء عفيف نزيه الذيل، وافر الكرامة، ثرّ الشرف، كثير المجد، كريم المحتد، منبع الخير للإنسان والإنسانية .
القلمُ وحدَه الذي يُكْتَب به اليومَ كلُّ نجاسة، ويُنْشَر به كل خباثة، وتُدَاسَ به كلُّ قداسة، وتُوْطَأُ به كل منابت الخير، ويُهان به كلُّ شرف، وتُنْتَهَكُ به كلُّ حرمة. وذلك باسم الحريّة، واحترام الرأي، وتقدير ذات الكاتب، والامتناع عن الحيلولة دون إبداء الفكر والعقيدة لدى حامل القلم.
القلمُ وحده الذي يُشْهَر اليومَ سيفًا مسلولاً بَتَّارًا في وجه الشريف الذي لايقدر على تحريك اللسان، والدفاع عن الذات، وكيل الصاع صاعين، أو قطع الحديد بالحديد، ومقاومة الظلم برصيد كبير من صدق القلم واللسان، فضلاً عن أن يقدر على مواجهة الظلم بظلم مثله أو أشدّ منه.
القلم وحده الذي يُطَارَدُ به اليومَ الحقُّ، ويُلاَحَقُ به الصدقُ، ويُدَافَع به الكرمُ، وتُقَاوَم به حضارةُ الخير، وتُمَانَعُ به ثقافةُ الرشد. وتُنْشَر به كلُّ فضيحة، ويُسْنَدُ إليه في الدفاع عن أنصار الشرّ والفساد وعن الطواغيت والشيطان .
القلمُ وحدَه الذي يُحَقُّ به اليومَ الباطلُ، ويُبْطَلُ به الحقُّ، ويَتَقَلَّب به الأشرارُ في أعطاف النعيم، ويُثْرِي به كُتَّاب المجون والخلاعة، وينالون به عزَّ الدنيا وذلَّ الآخرة، ويُطَبِّل لهم دعاةُ الباطل، وأعداءُ الحقّ، وأتباعُ الشيطان، وينتصرون لهم بكل طريقة مُتَاحة، ويعدّون هذا الانتصارَ حمايةً لحريّة الرأي، وانتصارًا للاعتدال، ومقاومةً للتطرف والعنف.
القلمُ وحدَه اليومَ يُعْمَل لإهانة المُحْتَرم، وإذلالِ الكريم، وانتقادِ الشريف، وطعنِ البريء الصدوق. وبالإيجاز: يُحَارَبُ به كلُّ صدق، ويُعَادَى به كلُّ حقّ، ولاسيّما الحقّ الأبلج: الإسلامُ وحقائقُه، وكتابُه وتعاليمُه، ونبيُّه وأقوالُه وإرشاداتُه، وتُجْرَح به هذه الأشياءُ كلُّها بحيث تُجْعَل أتفَهَ شيء في الكون .
إن الله أرادَ القلمَ أكرمَ شيء لإيجاد أكرم شيء وهو العلمُ الذي شَرَّف به آدمَ وكَرَّمَه بين الملائكة؛ ولكن أشرار خلق الله من أبناء الحضارة الغربيّة وبيضها وأفراخها أرادوه أرذلَ شيء لترسيخ وإيجاد أرذل شيء، وهو الفساد والخبث، والمجون والخلاعة، والكذب والباطل ومُشْتَقَّاتُه. وكأنهم أرادوا أن يعارضوا اللهَ في إرادته ويحولوا دونه ودون مشيئة، وكأنهم حسبوا أنّهم قادرون على مقاومة الله تعالى، والانتصار عليه!. تعالى الله عما حسبوه علوًّا كبيرًا، وأذلّهم الله في الدنيا قبل الآخرة .
القلمُ ظلَّ وسيظلّ أفضل وسيله لأكرم فضيلة، وهو العلم الذي فَضَّلَ به كثيرًا من عباده على غيرهم الذين ظلّوا فاقدين له. ولن يغلب اللهَ المبطلون في إرادته، مهما تطاولوا ومكروا ودَبَّرُوا؛ لأن الله هو أمكر الماكرين .
إنّ القلم له أهلُه من أنصار الحق ودعاة الخير، كانوا كُثْرًا في كلّ زمان ومكان، وسيظلّون فاعلين رغم كره الكارهين .
القلمُ ظلَّ محتفظًا بكرامته وسيظل رغم محاولة الأِشرار أن يُلَطِّخُوا كرامتَه بمجونهم ووقاحتهم وخلاعتهم وحِيَل فسادهم وإفسادهم. إنّ المكر السيِّء لايحيق إلاّ بأهله، مهما ظنّوا أنه سيظلّون ناجين من حريقه.
فالمفسدون اليوم سينالون جزاءَهم عاجلاً أو آجلاً؛ فاللهُ غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لايعلمون.
( تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم السبت: 4/5/ 1429هـ = 10/5/2008م ) .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الثانية 1429هـ = يونيو 2008م ، العـدد : 6 ، السنـة : 32.