إلي رحمة الله
في وقت السحر من الليلة المتخلّلة بين الأربعاء والخميس: 8-9/ شعبان 1428هـ الموافق 22-23/ أغسطس 2007م (حسب التوقيت الأمريكي) وفي نحو الساعة الرابعة والنصف من يوم الخميس: 9/شعبان 1428هـ = 23/أغسطس 2007م حسب التوقيت الآسيوي ولاسيّما الهندي ، انتقل إلى رحمة الله تعالى بمدينة «شيكاغو» الأمريكية العالم الهنديّ الشيخ محمد نعيم الديوبندي رحمه الله ؛ حيث كان يُعَالَجُ لدى عائلة نجله الشيخ المقرئ عبد الله سليم الذي يدير هناك مدرستين مستقلتين للبنين والبنات ، ويقيم بـ«شكاغو» منذ عام 1403هـ / 1983م .
كان الشيخ محمد نعيم لدى وفاته في 91 من عمره بالنسبة إلى السنة الهجرية و 88 منه بالنسبة إلى العام الميلاديّ ؛ حيث وُلِدَ بمدينة ديوبند في الصباح الباكر من يوم الأربعاء: 7/من ذي الحجة 1337هـ الموافق 6/ أغسطس 1919م. وتلقّى تعليمه منذ البداية إلى النهاية بجامعة ديوبند الشهيرة : دارالعلوم / ديوبند؛ حيث أمضى في التحصيل نحو 21 عامًا، وبعد ما تخرّج فيها في علوم الشريعة ، اشتغل مدرسًا ومديرًا بعض السنوات في مدرسة «فيضان القرآن» بمدينة «سهارنبور» بولاية «يوبي» لعام كامل منذ 3/ رمضان 1363هـ حتى نهاية العام الدراسي، ثم انتقل مدرسًا إلى مدرسة «قاسم العلوم» بـ «فقير والى» بـ «بهاولبور» بباكستان اليوم . ومنذ 6/ ذوالقعدة 1366هـ الموافق 23/ سبتمبر 1947م أصبح مدرسًا بدارالعلوم ديوبند ، حيث ظلّ يقوم بالتدريس فيها لغاية عام 1982م / 1402هـ أي عبر 35 عامًا. وعندما أنشئت دارالعلوم وقف بديوبند منفصلةً عن دارالعلوم ديوبند في 1982م 1402هـ ، عُيِّن الشيخ فيها شيخًا للحديث ؛ حيث كان يدرس صحيح البخاريّ ، فدرّسه بها عبر 13 عامًا ؛ فكانت مدة تدريسه بدارالعلوم ديوبند ودارالعلوم وقف بديــوبنــــد 48 عامًا ما يقـــارب نصف قــــرن من الزمان .
كان يتّصل بدارالعلوم / ديوبند اتصالَ الجسم بالروح ؛ حيث فيها تعلّم وفيها علَّم وفيها أمضى معظم عمره الحافل بالاستفادة والإفادة والدراسة والتدريس والتعليم والتربية . كما كان يتّصل بها من حيث الطين والتراب إذ كان من سكان ديوبند وكانت عشيرته العثمانيّة سبّاقة إلى خدمتها ومُبَادِرة إلى العناية بها منذ تأسيسها؛ فكان يحبّها حبًّا جمًّا وكان يودّ أن يكون جزءًا من تراب المقبرة القاسميّة التي تضمّ رفات أجلّة العلماء والمشايخ الصالحين والعلماء الربّانيين لدارالعلوم ديوبند ومدينة ديوبند ؛ ولكنه لم يُقَدَّرْ له ذلك فمات في ديار الغربة بأمريكا التي كان نزيلاً فيها على نجله وأسرته . وهكذا لا تدري نفسٌ بأيّ أرض تموت .
تخرج الشيخ على كبار العلماء والمشايخ الربانيين أمثال : الشيخ عبد الرحمن الأمروهوي – الذي كان تلميذًا للإمام محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ = 1832-1880م) مؤسس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند والعلامة شبير أحمد العثماني الديوبندي (1305-1369هـ= 1887-1949م) والشيخ السيد فخر الدين أحمد (1307-1392هـ = 1889-1972م) الذي كان شيخ الحديث مكانَ الشيخ السيد حسين أحمد المدني (1295-1377هـ= 1879-1957م) لدى كونه في المنفى الإنجليزي الاستعماريّ بـ«مالطة» والشيخ المقرئ محمد طيب (1315-1403هـ = 1897-1983م) الرئيس السابق لدارالعلوم / ديوبند ، والشيخ محمد إعزاز علي الأمروهوي (1300-1372هـ = 1882- 1952م) والعلاّمة محمد إبراهيم البلياوي (1304-1387هـ = 1886-1967م) والشيخ محمد إدريس الكاندهلوي (1318-1394هـ = 1900-1974م) والشيخ بشير أحمد البلند شهري (المتوفى 1386هـ/1966م) وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين سردُ أسمائهم يُطِيل القائمة ويُمِلُّ القارئ .
كان الشيخ محمد نعيم عالمًا مُتْقِنًا ومُدرِّسًا كثيرَ النفع، لَبِقَ التلقين ، حاذقَ التفهيم ، بارعَ العرض لأيّ مادّة كان يقوم بتدريسها . وإلى جانب ذلك كان يملك قلمًا سيّالاً بالكتابة بالأرديّة ؛ فألّف كتبًا بالأردية كيثرةَ الجدوى شَرَحَ من خلالها عددًا من الكتب الدراسيّة التي هي مُدْرَجَة في المنهج الدراسي المُتَّبَع لدى معظم المدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة في شبه القارة الهنديّة .
كان الشيخ يمارس لفتات بارعة وإشارات لطيفة خلال المحاضرات الدراسيّة ؛ حيث كان يجمع بين الذكاء ، وإتقان العلم ، وخفّة الروح، إلى الصلاح المركوز في طبيعته ، والجدّ المعجونة به طينتُه ، والوقار العلمي والديني الذي كان ولا زال سمةَ العلماء الصالحين . وكان يخزن لسانه إلاّ فيما يعينه ، ولا يتكلم إلاّ قدرَ الحاجة ، ولا يفيض في الحديث حتى خلال التدريس ، وإنما كان يكتفي بقدر الحاجة الملحة من القول ، ولم يُرَ ضاحكاً عبرَ حياته ، فكان جلّ ضحكه الابتسامة التي ربما كانت تظلّ مطويّة داخل شفتيه ولا تبدو عليهما ، مهما كانت الأحوال . وكان الطلاب في زمن تحصيلي بدارالعلوم يجمعون أن الشيخ عندما يضحك سينزل المطر هاطلاً أو يحدث حدث كبير . ربما كان يطلق في دروسه ومحاضراته فقرات وكلمات ساخرة ذات نكتة دقيقة ، يضحك منها الطلاب ضحكاً صارخًا ؛ ولكنه كان لايتجاوز ابتسامةً لاتتجاوز المحيطَ الداخليّ من شفتيه .
وكانت دروسُه نافعةً للغاية ؛ حيث كانت محدودة الكلام ، مقصورة على ضرورة الإرسال والطرح ؛ فكان التلاميذ يتوصلون من خلال عرضه البسيط الموجز، إلى المعاني المرادة وإلى حلّ المطالب العويصة . وكان الشيخ يؤمن بأن الإفاضة في شرح المعاني والإطالة في الحديث تُغَيِّبَانِ المعنى المطلوبَ عن أفهام الطلاّب .
وكنتُ قد قرأتُ على الشيخ بدايات كتاب «مختصر المعاني» فكان يُعْجِبُني منه أسلوبُه في الطرح والتلقين المُؤَسَّس على الذكاء والتمكّن من الموادّ التي كان يقوم بتدريسها، وعلى إثارة الضحك والهزل العُذريّ دون أن يُشَارِكنا في الضحك والابتسامة المسموعة . وكان الطلاّبُ مُعْجَبِين به وكان معرفاً بهُوِيَّتِه الجادَّة الوقورة، وسحنته الممتازة ، وقلنسوته القائمة على رأسه، وملابسه البسيطة، وهيئته العفويّة ، ومنهاجه في الحياة الذي كان مصدره عدم التصنّع وعدمُ التأنّق. وكان رحمه الله مُئْتِسيًا برسول الله ﷺ في مباشرته شؤون نفسه الصغيرة والكبيرة . وكان ذلك جانبًا واضحًا من جوانب حياته . كما كان مُتَوفِّرًا على العلم والدراسة ، منقطعًا إليهما . وكانت اهتماماته في الحياة قليلةً جدًّا ؛ فكان كثيرَ التفرغ للعلم . وكان يبذل مُعْظَمَ أوقاته في الدراسة والتدريس والتأليف . وهكذا كان السلف من العلماء والمشايخ من أساتذته ؛ لأن المهتمَّ اهتمامًا كثيرًا بالشواغل الحياتيّة ، والأعمال الجانبية ، والشؤون التي تطلع بها العشايا والضّحايا ، لايجد فرصةً للمُهِمَّات الحياتيّة الأصيلة التي تنحت ذكرَه في جبين الأيّام ، وتجعل الخلقَ يُشِيدون به ويدعون له من بعد طيِّ بساطِ حياتِه .
الشيخ محمد نعيم مات بعد ما عاش حياةً كلُّها جديرةٌ بالغبطة حيث ما أَضَاعَ فرصةً منها في غيرما يعنيه . وترك عائلتَه ذا بسطة في العلم والدين والدنيا التي يسيل لها لعابُ عامّة الناس . حيث أسبغ الله عليها نعمةَ ظاهرةً وباطنةً . وما أظنُّها إلاّ فيضًا من دعائه رحمه الله وصلاحه ؛ لأن صلاحَ المُرَبِّي ووليِّ الأمر ينعكس على أخلافه نعمةً عاجلةً وآجلةً حسبما يشاء الله العزيز القادر الوهّاب .
كثيرًا ما أَتَمَثَّل صورةَ أستاذي الشيخ محمد نعيم رحمه الله وأنا – من حسن الصدفة – أقوم بتدريس كتاب «ديوان المتنبئ» في الفصل الكبير الذي يقع في الجانب الشمالي الملاصق لقاعة «دورة الحديث الشريف» في الطابق الأرضى من المبنى المركزي لدارالعلوم / ديوبند ؛ حيث قرأت عليه مع زملائي الكُثْر بدايات كتاب «مختصر المعاني» ، وأتذكر الإشارات الذكية اللطيفة التي كان يطلقُها الشيخ خلال تدريسه للكتاب . وكان عندئذ في نحو الخمسين من عمره ؛ حيث قرأتُه عليه في 1967م / 1387هـ . ويسرّني ويسعدني جدًّا أن أجلس مجلسه في ذلك الفصل الذي سعد بتدريس كبار العلماء الصالحين ودراسة عدد لايُحْصَىٰ من الطلاب السعداء ، الذين تخرّج كثيرٌ منهم يحملون العلم والصلاح والتقوى وينشرون العلم والدين في مشارق الأرض ومغاربها بألسنتهم وأقلامهم وبأسوتهم الممثلة للصلاح والدين ، التي تكون أقوى الدُّعاة دائمًا . جزاه الله خيرًا وأكرم نُزْلَه في جنّته العليا ، وأَكْرَمَ أخلافَه كلَّهم بجميع النعم التي تفوق أحلامَهم .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.