دراسات إسلامية
بقلم : أ. د. عبد الرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي
لقد كثر في السنوات الأخيرة الحديث وإصدار التقارير الدورية من قبل بعض دول الغرب وبعض منظماته المدنية عن الإنسان وانتهاك حقوقه في دول معينة . والمتتبع لما يُطْرَح في دول الغرب ومنظماته عن حقوق الإنسان والإلحاح عليها يدرك كأنه أم مقصود وله غايات مبطنة تجاه هذه الدول .
(لقد قامت حكومة المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة بإنشاء الجمعية الوطنية السعودية لحقوق الإنسان). إن من يتلو القرآن الكريم ويقرأ الأحاديث النبوية الشريفة ويتتبع تطور الحضارة العربية الإسلامية منذ فجر الإسلام وحتى أفول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس لن يلحقه أدنى شك في أن دين الإسلام وما تمخض عنه من حضارة عربية أصيلة هو الأول في إعطاء الإنسان قيمته الإنسانية، وحدد ما له وما عليه من حقوق وواجبات، وفي هذا الخصوص سبقت الحضارة الإسلامية العربية ما سبقها وما جاء بعدها من حضارات في هذا المجال .
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإنسان في قرآنه الكريم، وأشار إلى خلقه من دون سائر الكائنات الحية الأخرى، وبيّن أنه خلقه وسوّاه على صورة وهيئة مختلفة، وأنه يتميز عن سائر المخلوقات الأخرى. يقول المدميري: والإنسان نوع العالم، والجمع الناس. يقول ابن عباش رضي الله عنهما: إنه إنما سمّي إنسانًا لأنه عهد إليه فنسي. قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيْم﴾ سورة التين(4)، وهو اعتداله وتسوية أعضائه؛ لأنه خلق كل شيء على وجهه، وخلقه سويًا، وله لسان ذلق ينطق به، ويد وأصابع يقبض بها، مزينًا بالعقل مؤدبًا بالأمر مهذبًا بالتمييز، يتناول مأكوله ومشروبه بيده. وقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة تتعلق بالإنسان وبمكانته وبحقوقه وواجباته. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ* عَلََّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ سورة الرحمن الآيات 1، 2، 3، 4 وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ سورة الحجرات (13). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ سورة الإسراء(70)، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُّؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أن يَصَّدَّقُواْ فَإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاق فديَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أهْلِه وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ سورة النساء(92) . نتبين من الآيات السابقة أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وعلمه البيان، وخلق الناس من ذكر وأنثى وأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى، وأنه سبحانه وتعالى كرم بني آدم وفضلهم على كثير من خلقه. وتبيّن الآية الأخيرة أن الإسلام أول من نادى بتحرير العبيد؛ لأن الناس سواسية، فالإنسان بصفاته السابقة التي وصفه بها خالقه عز وجل يستحق أن ينال حقوقه كاملة في حياته، يقول جميل: (الإنسان بحقوقه، فإذا كان يملك كل حقوقه كان كامل الإنسانية، وإذا انتقص له حق من الحقوق كان ذلك انتقاص من إنسانيته، وكلما تعددت الحقوق التي تسلب من الإنسان، يكون الانتقاص من إنسانيته بنسبة ذلك المقدار). وقال رسول الله ﷺ في خطبة الوداع: (أيها الناس إن ربكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم فاشهد). وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟). ويقول جميل أيضًا: ومن الآثار التي تركتها رسالة الإسلام كما جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية، نجد الفقه الإسلامي وما دوّنه فيه الأئمة المجتهدون وكبار الفقهاء من صفحات نيرة في الانتصار للإنسان واعتبار مصالحه ومصالح المجتمع أساسًا لترتيب الأحكام التفضيلية التي تتعلق بحياته وعلاقاته الاجتماعية، وبالتأكيد على حقوقه المدنية والسياسية، وفي علاقة الفرد بالدولة وما نسميه اليوم بالفقه الدستوري. مما تقدم يتبين لنا أن الإسلام قد وضع الأساس الفعّال الذي يحفظ للإنسان حقوقه وكرامته في حياته، وهذه الأسس التي وردت في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة عن قيمة الإنسان وحقوقه المختلفة هي الينبوع الأول التي استقت منه الحضارة البشرية صياغة قوانينها واتفاقياتها المتعلقة بما يطلق عليه بحقوق الإنسان. يقول جميل: من المعالم الرئيسية في مسيرة الحضارة العالمية (النهضة الأوروبية) في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وأوائل القرن السابع عشر وهي نهضة تنعت بالانبعاث أو الإحياء.. أن (هذه) النهضة الأوروبية حققت تحرر الفرد ومن ثم المجتمعات، من السلطات التي كانت تقيد العقول والأفكار، تلك السلطات التي كانت تتمثل بالبابا والكنيسة والحكم الإمبراطوري. نقول: قبل أن تصل الشعوب الأوروبية إلى ما يسمى بنهضة الانبعاث أو الإحياء كان لرجال الكهنوت المسيحي وبعض المفكرين الأوروبيين احتكاك وتفاعل وانبهار مع ما كانوا يشاهدونه من تطور حضاري، علمي، وفني وفلسفي وإنساني في الدولة العربية الإسلامية في الأندلس وذلك بعدة قرون من نهضة الانبعاث والإحياء .
يقول الجابري: يحدثنا الباحثون الأوروبيون المختصون في فكر القرون الوسطى وفكر النهضة (الأوروبية) أن المبادرة إلى ترجمة القرآن إلى اللاتينية قد جاءت من أحد رجال الدين المسيحي، وأن الدافع إليها كان التعرف على الإسلام لمقاومته، وكان ذلك في إطار الصراع الطويل المرير بين دولة الإسلام في الأندلس وبين جاراتها، وكانت كلها مسيحية تحت قيادة الإمبراطورية البابوية الرومانية. وفي إطار هذا الصراع الذي كان دمويًا، حروبًا وغزوات، قام بطرس الجليل رئيس دير كلوني بجولة في الحدود الفرنسية مع الأندلس بين عامي 1141-1143، فتعرف هناك على الإسلام والمسلمين، وخلص من هذه الزيارة إلى أنه لابد من نقل الصراع مع المسلمين إلى مجال الفكر أيضًا .
قال : (يجب أن نقاوم الإسلام لا في ساحة الحرب، بل في ساحة الثقافة). (سبحان الله ما أشبه الأمس باليوم). لقد أدرك (هذا القس) أنه (لإبطال العقيدة الإسلامية يجب التعرف عليها – حسب تعبيره – وأنه سواء وصفنا الضلال المحمدي – كذا – بالنعت المشين: بدعة، أو بالوصف الكريه: وثنية، فإنه لابد من العمل ضده، لابد من الكتابة ضده). وأضاف: إن هذا السم القاتل (العقيدة المحمدية – كذا) الذي تمكن من إصابة أكثر من نصف الكرة الأرضية، يجب التصدي له بالقلم وليس بالسيف وحده. وذكر الجابري في كتابه أنه حصلت ترجمات أوروبية عديدة للقرآن الكريم بعد ذلك.. وأن هذه الترجمات التي نقلت معاني القرآن إلى اللغات اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية الإقليمية، قد وظفت أيضًا ضد رجال الدين المندمجين في نظام الكهنوت، فأصبحت عنصرًا أساسيًا في الصراع ضد الكنيسة. وهكذا سارع (الإنسانيون)، وهم فئة ناشئة من المثقفين الذين كانوا يفكرون ويعملون خارج نظام الكنيسة وضدًا عليها، إلى توظيف ترجمات القرآن للاستعانة بها في تعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته وتعلّي من شأنه كفرد حر لا يحتاج في تعامله الديني، عقيدة وسلوكاً إلى وسيط آخر (الكنيسة). وأكثر ما كان يشدهم إلى القرآن هو استغناؤه عن الكنيسة وإعلاؤه من شأن الإنسان، في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ سورة الإسراء(70). إن تنصيص القرآن على أن الله فضل الإنسان وكرمه تكريمًا، كان يقدم دعمًا قويا للنزعة الإنسانية التي خرج من جوفها الإصلاح الديني في أوروبا وبالنهضة الأوروبية بكيفية عامة.. وقد واصل رجال النزعة الإنسانية هؤلاء معركتهم ضد الكنيسة منوهين بالإسلام وموقفه من الإنسان. ويقول الجابري أيضًا: كانت النزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي التي ازدهرت في القرن السادس عشر، والتي تعتبر بمثابة الأرضية الفكرية التي أسست لحركة الإصلاح الديني والنهضة الأوروبية عمومًا انعكاسًا مباشرًا لتأثر المفكرين الأوروبيين ، ابتداء من القرن الثاني عشر، بالثقافة العربية الإسلامية ونظرتها إلى الإنسان بوصفه أرقى المخلوقات. ذلك ما عبر عنه أحد أبرز مؤسسي هذه النزعة في أوروبا الإيطالي جيوفاني بيكوديلا ميراندولا (1486) الذي ألّف كتابًا بعنوان (في الكرامة الإنسانية) قال فيه: (لقد قرأت في كتب العرب أنه ليس ثمة في الكون شيء أكثر روعة من الإنسان) .. ويقول لوكوف في كتابه الرائد المثقفون في القرون الوسطى: لقد كان هؤلاء (الإنسانيون) الذين ظهروا في أوروبا القرن الثاني عشر وأعين بأنهم ينتمون إلى جيل ثقافي جديد، وكان معاصروهم يسمونهم بـ(المحدثين). غير أنهم مع وعيهم الحداثي لم يكونوا يتنكرون لفضل القدماء، بل بالعكس كانوا يعلنون أنهم يقتدون بهم ويستفيدون منهم ويقفون على أكتافهم. يقول أحد هؤلاء: (لايمكن الانتقال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إلا بقراءة وإعادة قراءة كتب القدماء بشغف حي ومتزايد، فلتنبح الكلاب، ولتغمغم الخنازير، فإن ولائي للقدماء سيبقى قائمًا وسأظل منصرفًا إليهم بكل اهتمامي، وسيجدني الفجر كل يوم منهمكاً في قراءة مؤلفاتهم)! و (القدماء) المعنيون هنا هم العرب ومن خلالهم اليونان. ويقول آخر… (نحن أقزام محمولون على أكتاف عماليق، وإذا كنا نشاهد أكثر مما شاهدوا، ونرى أبعد مما رأوا، فليس ذلك لأن بصرنا أحد أو لأن أجسامنا أطول، بل لأنهم يحملوننا على أكتافهم في الهواء يرفعوننا بكل طول قاماتهم الهائلة).
نقول : كأن الغرب يقول لنا – العرب والمسلمين – اليوم نحاربكم بالسلاح وبالأفكار التي أخذناها منكم عندما كنتم تبدعون، أما اليوم فلا.. هذا، والله من وراء القصد.
* * *
المراجع :
- الدميري ، كمال الدين، (حياة الحيوان الكبرى) .
- جميل، حسين، 2001م. حقوق الإنسان في الوطن العربي. بيروت – مركز دراسات الوحدة العربية.
- الجابري، محمد عابد، 2005م. في نقد الحاجة إلى الإصلاح. بيروت – مركز دراسات الوحدة العربية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1428هـ = نوفمبر – ديسمبر 2007م ، العـدد : 11 ، السنـة : 31.