دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
في إحدى المناطق النائية والمعدومة الموارد من العالم ، تقطن جماعةٌ دينيةٌ ، تفتقر في معيشتها لأي شكل من أشكال التمدن والحضارة؛ فقد قَطَعَتْ كلَّ السبل والوسائل التي تُيَسِّرُ لها مواكبةَ التطور والتقدم، ولا تسمح بأي تغيير فكري أو ثقافي أو حضاري يتسرّب إليها . يعيش أبناؤها على أساليبَ بدائيةٍ في أغلب نواحي حياتهم؛ حيث يستخدمون الدوابَّ في تنقلاتهم، ويمتهنون الصناعاتِ الأوليةَ البسيطةَ، كما يعيشون على الرعي والزراعة عندما تجود السماء بالمطر، ويُحَقِّقُونَ لأنفسهم بعضَ الاكتفاء الذاتي في ما يخصّ لوازمَ المعيشة الأساسية عن طريق المُقَايَضَة والتبادل التجاري، يسكن مُعْظَمُهُمْ الكهوفَ والجبالَ أو الخيامَ والمساكنَ المصنوعةَ من الطين، يُؤَدُّونَ عباداتِ وشعائرَ الدين على خير وأكمل وجه؛ لكنهم يعيشون أيامَنا هذه كما لو كانت عجلةُ الزمان تَوَقَّفَتْ بهم عند القرون الميلادية الأولى . وقد احْتَفَظَتْ هذه الجماعةُ بعاداتها وموروثاتها البالية، وصار في مسيرتها جيلٌ يُسَلِّمُ آخرَ مفرداتِ تلك الحياة كما وَرِثـُوها عن أسلافهم.
يَتَزَعّمُها بعضُ الأمراء، يُلْزِمُون أتباعَهم بعدم الخروج عن أحكام الجماعة، ويأْمُرُونَهُمْ بالطاعة لكل أمر يأتمرون به، فطاعتُهم واجبةٌ وعصيانُهم معصيةٌ محظورٌ الواقعُ فيها . يُصِرُّونَ على المضيّ في حياتهم على ما هي عليه، غافلين عن سنة التطوّر التي لاَزَمَتِ الإنسانَ منذ بداية خلقه وحتى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، ومُوَلِّين ظهورَهم لكافة أنواع التغييرات التي تَحْدُثُ حولهم. يُطِلُّون على العالم من نافذة صغيرة يرون منها ما يحدث في الدنيا فلا يُبَالُون بهذه الأحداث ولا يُحَرِّكُون لها ساكنًا. استيقظ ذاتَ يومٍ كبيرُ قادتهِم على خاطرٍ وَرَدَ له، وهو أنّ عليه وعلى جماعته، واجبًا ينبغي أن يُؤَدُّوه نحو دينهم، ألا وهو تخليص العالم من الطغاة الذين يستبيحون دماءَ البشر ويَغْتَصِبُونَ حقرقَهم وخيراتِ أراضيهم؛ فاجتمع بأمراء جماعته، لعرض الأمر عليهم، ولتحديد من هم هؤلاء الطغاةُ، ومن منهم إذا قُطِعَتْ رأسُه بدايةً تَسَاقَطَتْ باقي الرؤوس تِبَاعًا له، فوجدوا أن أمريكا هي أقوى وأكبرُ الطغاة، وهي تُحَرِّك بين أصابعها مفاتيحَ كلِّ الأحداث، والعالمُ كلُّه يسير في فلكها وتَبَعًا لأوامرها؛ فَقَرَّرُوا توجيهَ ضرباتهم إليها في عقر دارها. وها هم القادةُ قد اتفقوا على الأمر، وجاءوا يعرضونه على رعاياهم داخلَ الجماعة، وبين من يرى في ذلك طاعةً لقادته، ومن يرى في ذلك طاعةً لربه، فكيف يَدَّعِي تمسُّكَه بدينه وهو يَتَقَاعَسُ عن نصرته!. وَافَقَ الجميعُ وقَرَّرُوا خوضَ هذه الحرب، وهم على يقينٍ بأن النصرَ سيكون حليفَهم، فكيف لا ينصر الله الجماعةَ المؤمنةَ مهما قَلَّتْ عُدَّتُها وعِدَادُها على الطغاة مهما أُوْتُوا من قوة وعُتَاد؟.
وَبَدَأَ التفكيرُ في تحديد موقع العدو، وكيفية الوصول إليه، وكيفية نقل أفراد الجماعة وأسلحتهم ودوابّهم وكافة مستلزماتِ معيشتهم الضرورية، مما يفي بحاجاتهم واحتياجاتهم طَوَالَ مدة سفرهم وأثناءَ الحرب؟ وبعد مُنَاقَشَاتٍ ومُدَاوَلاَتٍ دارت بين القادة، وبعد سماع أفكار بعض أفراد الجماعة، اسْتَقَرُّوا على أن الحل هو بناء مجموعة من السفن، ولكن من أين يأتون بالأموال لصنعها ولتوفير الأسلحة وشراء المُؤَنِ وغيرها، فعَدَّدُوا بعضَ الحلول مثل فرض مكوسٍ على أفراد الجماعة، بجانب جمع تَبَرُّعَات من أغنيائها. وقد قَسَّمَ الأمراءُ الجماعةَ إلى فِرَقٍ : فِرَقُ المحاربين نُصِبُوا على كلّ فرقة، قائدٌ يَتَوَلَّى تدريبَها على فنون القتال، كما رَوَتْه كتبُ السلف والتراث القديمة، فِرَقُ الحرفيينَ يَتَوَلَّوْن صناعةَ السفن، وصناعةَ المجانيق والعَجَلاَت الحربية، وما يمكن تصنيعُه من أسلحةٍ تعينهم على مُوَاجَهَة أعدائهم، وفِرَقٌ من علماء الدين لحضّ الأفراد على التضحية بالنفس والمال، والتبشير بالنصر الذي ينتظرهم على أعتاب «واشنطن» والترهيب من العقاب الذي سيَحِلُّ بمن يَتَقَاعَسُ عن القتال، وأخيرًا فِرَقُ جامعي الأموال . وبَدَاَ العملُ الدَّؤُوْبُ والمُضْنِي يمضي على قَدَمٍ وسَاقٍ للاستعداد للمعركة، الكلُّ يَعْمَلُ: الكبيرُ والصغيرُ، الشابُّ والمُسِنُّ، المرأةُ والرجلُ، الأمراءُ والرعيَّةُ، لا يُسْتَثْنى قريبٌ ولا نسيبٌ. وفي هذه الأثناء مَرَّتْ عليهم طائرةُ استطلاعٍ أمريكيةٌ كانت تقوم باستطلاعاتها الدوريَّة حولَ العالم، فصَوَّرَتْ تجهيزاتِ تلك الجماعة واستعداداتِها، وفي عَرْضِ الشريط على المختصين في وِكَالَةِ المُخَابَرَات المركزية الأمريكيّة والبيتِ الأبيض و«البنتاجون» أَثـَارَ لديهم الفضولَ، وتَصَارَعَتْ في رؤوسهم الأفكارُ والتساؤلاتُ: ما هذا الجديدُ وما هذه التغييراتُ التي تَحْدُثُ على هذه القطعة من الأرض؟ فهل هو تصويرٌ لفيلم سينمائي تاريخي؟ أم أنه استعراضٌ لتراث هذه الجماعة؟ أم أنه سِبَاقٌ للمبارزة والفروسية؟ ولكن إذا كانت الحقيقة تحتمل فرضًا من هذه الفروض، فما كلُّ هذه السفن التي تتم صناعتُها؟ ربما تكون الجماعةُ أرادت أن تَتَمَيَّزَ بحرفة تُدْخِلُهَا إلى السوق التجاري الدوليّ !. ولأن السياسة الأمريكية لا تقوم على الافتراضات ولا تحتمل الشكَّ في صنع قراراتها، فَرَأَى أصحابُ الحل والعقد إجراءَ مزيدٍ من الاستخبارات لتَقَصِّي الحقائق عن هذه الجماعة؛ فَوَصَلَتِ اللجنةُ إلى أن حقيقةَ ما يدور في فكرِ وعقلِ ونفسِ كلِّ فردٍ من أفراد هذه الجماعة، فتَمَلَّكَتْهُمُ الدهشةُ والاستغرابُ والسخريةُ، فهل يوجد أحدٌ في العالم يصل به عقلُه إلى إلقاءِ نفسِه بين براثن الأسد غير مُبَالٍ بموت مُحَقَّقٍ؟ ومن أين أَتَوْا بهذه الثقة في النصر؟. وجَلَسَ المتخصصون يدرسون أمرَ هذه الجماعة وكيفيةَ التخلص منها؟ هل يقومون بإغراق هذه السفن بصاروخ عابر للقارات؟ فذهبوا إلى أن هذا ربما يُحْدِثُ تَلَوُّتٌ بيئيٌ قد يَمْتَدُّ أثرُه فترةً من الزمن ولو قصيرةً. هل يقوم العلماءُ بالعمل على تحنيط هؤلاء الأشخاص، ووضعهم في أحد المتاحف الأمريكية، ليرى العالمُ هذا الأثرَ الذي لن يَتَكَرَّرَ، وفي هذه الحالة تكون قد حَقَّقَتْ مكسبًا مادِّيًّا وحضاريًّا، أم تأخذهم لإجراء التجارب العلمية والْمَعْمَلِيَّةِ عليهم، ربما خَرَجَتْ منهم باكتشافٍ علميٍّ يُذْهِلُ البشريةَ؟ . فليكن الحلُ الآن هو أن يُكَرِّسَ العلماءُ وقتَهم لاختراع كَبْسُولَةٍ تُسْحَبُ إلى داخلها أفرادُ هذه الجماعة، ويُجَمَّدُوا على حالهم، ويُلْقى بها خارجَ كوكبِ الأرض، إلى أن يُفْتَى في أمرهم .
على الجانب الآخر ها هو الجيشُ قد اكتمل بناؤه، وأَصْبَحَ كلُّ شيء على أهبة الاستعداد، وها هي السفن تتحرك مُتَّجِهَةً إلى مقصدها، وها هم الأفرادُ على ظهر السفن يَقْضُونَ حياتَهم وكأنهم ذاهبون في رحلةٍ للاستجمام؛ فقد كانوا يأكلون ويشربون ويلعبون مستمتعين بالطبيعة الخلاَّبة من حولهم، وكانوا يعقدون مجالسَ للسمر يتسامرون فيها بالمصير الذي سيُلاَقِيه ضحاياهم أثناءَ وبعد الحرب، وبكيفية توزيع الغنائم بعد النصر، وهل ستكون من حقهم وحدَهم أم يُوَزَّعَ بعضٌ منها على البلاد التي سَلَبَها ذلك الطاغيةَ؟. وصار القادةُ كلٌّ منهم يرى تحقيقَ حلمه، فمنهم من يرى في نفسه العظيمةَ، فيَحْلُمُ بنصر يُخَلِّد به التاريخُ اسمَه مثلُ كبار القادة العسكريين الذين حَقَّقُوا لشعوبهم الأمجادَ والانتصاراتِ، ومنهم من يرى في نفسه التميزَ العقليَّ عن أقرانه، وهو الذي لم يأخذ من التعليم ما يفتح آفــاقَـــه وعقلَه إلى تدبّر حقيقة الأشياء من حوله، فيَحْلُمُ بنصر يُحَقِّقُ له انفرادًا علميًّا يجعله في صفوة العلماء الذين غَيَّرُوا العالَم باختـــراعاتهم ونظـــرياتهم ، ومنهم من يَحْلُمُ بنصر يجعله من أغنياء العالم ومن كبار أصحاب رؤوس الأموال والمُـــدَّخَرَات، ومنهم من يزهو بنفسه وقد رأى الفتياتِ الأمريكياتِ ذوات الجمال اللاتي يَتَمَتَّعْنَ بالحرية والتخلّي عن أي قيود مما تضعها الجماعةُ وتُلْزِمُ أفرادَها بها؛ فتَمَنَّى نصرًا يُحَقِّقُ له أن يمضي حياته بين الجميلات الفاتنات، عائدًا بذلك إلى عصر الجواري. صارتِ الجماعةُ على هذا النهج شِرَهَةً للمعركة الفاصلة، وها هي الأيامُ والأسابيعُ تَمُرُّ، وها هي السفنُ تمضي في طريقها، وها هو البحرُ يومًا هادئاً ويومًا هائجًا، وها هو يومٌ مُلَبَّدٌ بالغيوم ترتسم سماؤه الحزنَ، تنتظر ثورةً من بحره، وها هو البحرُ لا يُخَلِّف لها ظنًّا، فصار ثائرًا في هياجٍ لم يسبق له نظيرٌ، لكنّ غضبَ البحر هذه المرة لم يَهْدَأْ إلا بعد أن ابْتَلَعَ في جوفه الكثيرَ من أبناء هذه الجماعة المنكوبة في فلذاتها، منهم شبابٌ كانت تَمْلُؤُه الشَّجَاعةُ لمُلاَقَاةِ العدوّ والأمل في النصر، ومنهم نساءٌ لم يَجِفَّ لسانُهنّ من الابتهال إلى الله والدعاء بالنصر، وغيرُهم كثيرون، لكنَّ الجماعةَ لم تفقد إيمانَها، وصَبَرَتْ على الابتلاء، وتَخَلَّتْ عن أحزانها، وأعادت تدريبَ وتأهيلَ الْمُتَبَقِّي من أبنائها، لتُكْمِلَ مسيرتَها في تحقيق رسالتها .
ترى من فيهما يستحق النصرَ؟ أ أمريكا؟ صاحبةُ العلمِ والتقدمِ والقوةِ ، أمريكا التي تُبِيْحُ الأعراضَ وتَسْفِكُ الدماءَ وتَنْهَبُ الثرواتِ وتَغْتَصِبُ الخيراتِ ، أم تلك الجماعةُ المتدينةُ ، التي تنظر إلى دينها من رؤيةٍ مقصورةٍ على العبادات والطقوس الدينية، وتعيش في عصورٍ باليةٍ من التخلف العلميّ والحضاريّ ؟!. حقيقةً أن الله عزّ وجلَّ قادرٌ على أن يهزم أمريكا بأسلحتها وقـــواتها، ويــريها يومًا كيومِ عادٍ وثمودَ ، ويرينا فيها عجائبَ قدرتِـــه ، كما إنه عَزَّ وَجلَّ قادرٌ على أن ينصر عبادَه المؤمنين ، ويريهم يومًا كيوم بــدرٍ، ولكنّ نصرَ الله يُعْطَى لمن يَسْعَى إلى الحق آخِذًا بالأسباب وهي عديدة ومتنوعـــة وتَشْمَلُ مختلفَ مَنَاحِي الحياة ، لعلنا نفهم هـــذه الحقيقـــةَ ونعمل بها أَيَّــدَنا اللهُ بنصره. قال تعالى في سورة الحج آية 40-41 (وَلَيَنْصُــرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيْزٌ الَّذِيْنَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وآتَوُا الزكَوةَ وَأَمَرُوْا بِالْمَعْرُوْفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الأُمُوْرِ)
* * *
* *
*
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1428هـ = نوفمبر – ديسمبر 2007م ، العـدد : 11 ، السنـة : 31.
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com