الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
يُنْسَبُ إلى ابن خلكان – رحمه الله – أنه قال في شأن الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – أنه لم يبلغه من الأحاديث إلاّ 17 حديثًا . إن هذا القول لايجوز أن يصحّ بوجه من الوجوه ؛ لأن ما رواه الإمام محمد – رحمه الله – من الأحاديث والآثار في موطئه وحده لوعُدَّ لتَجَاوَزَ هذا العددَ بأضعاف ، على حين إنه وغيره لم يُحَاوِلا استيعاب مسندات الإمام أبي حنيفة ، وإنما ذكرا رواياته – رحمه الله – مع روايات المشايخ الآخرين . الأمر الذي يجوز أن يُقَدَّر به مدى الروايات التي يمكن أن وردت عنه – رحمه الله – وقد ثبت خطأُ كون رواياته 17 فقط بشكل بديهيّ ؛ ولكني ظِلْتُ أقول لأحبائي : لماذا تردّون قولَ ابن خلكان ؟ إن قولَه يدلّ على منقبة الإمام أبي حنيفة ، ولايدلّ بوجه على منقصة له . ذلك أن كون الإمام مجتهدًا مُجْمَعٌ عليه لدى الجميع، فلا ينكره أحد . وأقوالُه – رحمه الله – موجودة في كل باب من أبواب الأحكام الشرعية ، وكان – رحمه الله – يتدخّل في كل قضيّة من القضايا ، ومن يعارضونه في الرأي هم أيضًا يذكرون خلافه معهم ؛ فدلّ ذلك على أن المعارضين مهما أنكروا كونه – رحمه الله – مُحَدِّثًا ، فإنهم يُسَلِّمون كونه مُجْتَهِدًا ، على أن الإمام الشافعيّ – رحمه الله – وغيره من الأئمة الكرام ، صَرَّحوا بكون الفقهاء كلهم عيالاً على أبي حنيفة – رحمه الله – في الفقه . فهذه مقدمة ، وأَضِفْ إليها مقدمة أخرى ، وهي : أن الإمام لم يبلغه إلاّ 17 حديثًا ، وإذا جمعنا بين المقدمتين ، خرجت نتيجة مدهشة ، وهي أن الإمام كان أعجوبة في الذكاء والفهم ؛ حيث إنه استنبط هذا الكم الهائل من المسائل بالأحاديث السبعة عشرة فقط التي بلغته ، ولم يقدر غيره من الأئمة أن يستنبطوا مثلَها رغم أنهم كانوا يحفظون مئات الآلاف من الأحاديث . وليس هناك دليل أبلغ على كونه غاية في الفهم والاجتهاد ، فأحبابنا من الأحناف لايجوز لهم أن يمتعضوا من قول ابن خلكان – رحمه الله – لأنه بقوله هذا أثنى على أبي حنيفة – رحمه الله – ثناءً لا حدَّ له ؛ فمن العبث أن نتصدّى للردّ على قول ابن خلكان – رحمه الله – إن أبا حنيفة – رحمه الله –استخرج من 17 حديثًا فقط مئات الآلاف من المسائل الفرعية والقضايا الجزئية .
قصّةُ عامل بالحديث
كان هناك عامل بالحديث ، كان يسألني كثيرًا عن المسائل . قلت له يومًا : لماذا لاتسأل عنها علماءَ مذهبك ؟ فقال لي رغم أنه كان مُتَصَلِّبًا في مذهبه : إن علماءَنا لايعلمون شيئًا سوى الجهر بالتأمين ورفع اليدين فيما سوى تكبيرة التحريم . إن هذه المسائل لايعرفونها هم ، ومن ثمّ لا أرتاح إليهم في شأنها ، وإنما أقتنع فقط بعد ما أسألك عنها . فهناك فرق بين السمع وبين الوعي .
لماذا بكى النبيّ ﷺ وهو نبي على موت ابنه إبراهيم ؟
هناك شبهة يثيرها الجمهور من الناس أن النبي ﷺ وهو نبي خاتم وسيد الرسل لماذا بكى على موت ابنه إبراهيم . وهناك رواية تقول: إن بعض الصالحين قالوا لدى المصيبة أصابته : الحمد لله . على حين إن الأنبياء لمن يبلغ أحد من الصالحين مرتبتَهم . والإجابة عن الشبهة : أن حق الولد على الوالد في مثل هذا الوقت أن يبكي ، وأن حق الله الخالق له أن يصبر على الأمر الإلهي ، ونبينا ﷺ جميع بين الأمرين وأدّى الحقين ! حقِّ الولد وحقِّ الله . أما عباد الله الصالحون غير الأنبياء فهم أقل رتبة من الأنبياء ، ومن ثم لم يستطيعوا أداءَ الحقين ، وإنما اكتفوا بأداء أحدهما.
وكذلك تثور شبهة في قلوب بعض الناس من بعض الأحاديث التي ورد فيها أن بعضَ الأنبياء سيغبطون يوم القيامة بعض الصالحين . مثار الشبهة أن المُفَضَّلين – وهم الأنبياء – كيف سيغبطون المُفضَّلَ عليهم وهم الأولياء . والردّ على ذلك : أن الغبطة لها أنواع ، فقد تكون من أجل فقدان الفضيلة ، فذلك ما لايحدث من الأنبياء تجاه الأولياء . وقد تحدث من أجل نوع من العافية ، مثلاً رجلٌ يتولّى منصبًا كبيرًا ؛ ولكنه نظرًا إلى المسؤوليات الكثيرة التي يكون مُطَالَبًا بأدائها لكونه يشغل منصبًا مرموقًا ، قد يقول : إن الموظف الذي ينال خمس روبيات من الراتب أحسن منّي حالاً ؛ لأنه في راحة ، وليس عليه عبء هذه المسؤوليات . فالأنبياء غبطتُهم تجاه الأولياء من هذا النوع ؛ لأنهم ذوو مكانة كبيرة لدى الله ، فهم يكونون مهمومين من حال أممهم . أما الأولياء فهم يكونون أحرارًا من مثل هذا الهمّ . فهذه الغبطة تُحْمَل على هذا المحمل .
ينبغي المساواة بين العريس والعروس في السنّ لدى الزواج
بعضُ الناس يتجاوزون الحدَّ عندما يُزَوِّجُون بناتهم مع العجائز من الرجال . وذلك طمعًا في المال والثروة . فكانت بنت – متزوجة من مثل هذا العريس من المسنين – في بلدة «كنكوه» (قرية جامعة في مديرية «سهارنبور» بالهند) تقول لأترابها : عندما يدخل زوجي البيتَ يبدو كأنه قد دَخَلَ الجدُّ .
ورحم الله الإمامَ أبا حنيفةَ رحمة واسعة ؛ حيث إنه يقول: إذا بلغت البنت فلا خيارَ في شأنها لأحد . وهذه المسئلة مختلف فيها ؛ ولكن فتوى الإمام تطابق المصلحةَ كلَّ المطابقة . إن الناس يعتبرون مبعث الندم والوقاحة أن يريد الوالدان تزويج بنت ؛ فترفض هي ، على حين إن إظهار الطلب من قبلها وإبداء الرغبة لديهما في الزواج هو الوقاحة ، أما الرفض منها فليس بوقاحة ، وإنما هي الاستحياء ؛ حيث إنها لاتحب حتى مجردَ سماع كلمة «الزواج» . إن ذلك موقف يقبله العقل والمنطق . إن البنت لابدّ لها أن ترفض الزواج بمثل هذه المناسبة . في مثل هذا الموقف إذا اعترض أحد وقال: إن الرجل إذا كان مسنًّا ، وكانت المرأة حديثة السنّ ، فالمفترض أنها ستكون أرملة عما قريب ، يقول بعض الناس ردًّا عليه : من يدرى على أيهما تغدو المنية أولاً ، قد يجوز أن تموت المرأة أولاً ؛ ولكن الظاهر أن الزوج المسنّ هو الذي يموت أولاً ، وهنا تتعرض البنت الحديثة السن لمفاسد كثيرة.
الاهتمام بالمساواة في السن بين الزوج والزوجة
الناس في الأغلب لايهتمون بالمساواة في السن بين الابن والبنت – العريس والعروس – وهناك بيوتات وأسر لديهم طقس معكوس ؛ حيث إن العريس يكون أصغر من العروس . والدليل يؤكد مفاسد هذه العادة المعكوسة كذلك. إن الحكماء يقولون : إن كون البنت أصغر قليلاً من الابن لا بأس به ، والسرُّ في ذلك أن المرأة محكومة بقوّامية الرجل ، على أن المرأة قواها ضعيفةٌ بالنسبة إلى الرجل ، ومن ثم فهي تشيخ قبل الرجل . فإذا كانت البنت أصغر من الابن ، فهي عندما تشيخ ، يشيخ أيضًا الرجل الذي يكبره سنًّا ، فهما يشيخان معًا . ورغم أن العقل يُسِيغ ذلك ؛ ولكن الرسول ﷺ لم يستحسنه. أمّا أن يكون الرجل أصغر من المرأة، فذلك غير محمود لدى العقل ولدى الشريعة لكلا الوجهين : الرجل يكون حاكمًا وقوّامًا، والمرأة تكون محكومة، فإن شاخت قبل الرجل، فليس يسوغ له أن يحكم امرأةً في مثل عمر أمّه، فسيجيء بامرأة أخرى ، وهنا تعود الحياة مرَّة بالنسبة للمرأة العجوزة .
تتخرّق بعضُ الأسر والبيوتات في هذه القضية، فقد تكون العروس بالغة شابة ، ويكون العريس لم يبلغ الرشد ويقيمون الزواج بينهما ، ثم تقع من أجل ذلك مفاسد وفضائح. وتُوَجَّه إليَّ استفتاءات كثيرة مفادها : أن الابن لم يبلغ والبنتُ بالغة ، فهل هناك حيلة لإلغاء النكاح المعقود بينهما ؟ والوالدُ لديه خيار الوصل وليس لديه خيار الفصل ؛ لأن وليَّ الصبيّ له خيار المنافع وليس له خيار المضارّ . وبعض الناس يسائلونني : إذا طَلَّق الابنُ غيرُ البالغ ، فهل يقع الطلاق ؟ فاعلموا أن طلاق غير البالغ لايقع . وفي بعض الحالات يبلغ الولد، في حالة أن البنت تصبح شابّة قويّة، وهو لايُطَلِّق زوجته الشابّة ، فأحيانًا يَحْدُثُ علاقةٌ بينها وبين وَالِدِ الزَّوْج ، وهنا تَحْرُمُ على الزَّوْجِ ، وقد لايحترز والدُ الزَّوج من إقامة العلاقة الجنسيّة معها؛ فهي تصبح للزوج أمًّا وزوجةً في وقت واحد!! إلاّ أن الشريعة لن تستسيغ أمثالَ هذه الأمور القبيحة . وحدث في مدينة «كانبور» (مقر إحدى المديريات في ولاية «يوبي» بالهند) أن البنت زُوِّجَتْ بالإكراه مع شقيق زوجها. والمرأة تكون تحت الضغط ؛ لأنها إن لم تُطِعْ والِدَ زوجها ، فهي تُحْرَمُ الخبزَ . فهذه المواقف إن دلّت على شيء ، فإنّما دلّت على أن كون المرأة أكبر من زوجها يتصادم مع مصالحها أيضًا .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.