الفكر الإسلامي 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

        بداية: تتشابه طبيعة سلطة الحاكم في كثير من المجتمعات، إلى حد كبير مع طبيعة سلطة الأب داخل أسرته في ذات هذه المجتمعات. وذلك لأن منشأ السلطة في غالبية أنظمة العالم القديمة والحديثة، وإن لم يكن أجمعها، أساسه سلطة الأب في أسرته.

        هي صورة لرجل تجمّعت في شخصيته عواملُ ضعف ونقص كثيرة، وأحاطه الفشلُ في كل ما خطا إليه وأراد أن يكون لنفسه مجتمعًا، يجد فيه نجاحًا، ويثبت فيه تفوّقه، ويكون الأمر والنهي فيه له وحده، يمارس فيه حلمَه بالقوة التي لايمتلكها، والسلطةِ التي ليس أهلاً لها، فاشترى لنفسه جارية في زمن انتهى منه الرقيق فتزوجها. كانت هي الأخرىٰ تقترب كثيرًا من شخصيته، تبحث عن فرصة تتمكن بها من إخراج ما بداخلها من تعاسة وخيبة أمل وتعقيدات في شخصيتها تراكمَت عبر سنوات عمرها، وإلى أن تأتي لها الفرصةُ أرادت أن تربطه بعديد من الأطفال، لم يكفِ دخله البسيط إلا زيادتهم حرمانًا من كل مُلِذّات الحياة كلما زاد نموهم؛ بل وآثر نفسه عليهم في كل ما امتدت إليه يداه، على مرمى من نظرهم، غير عابئ بهم، وغير مدرك بتأثير ذلك عليهم. لم يكلِّف نفسَه البحث عن مورد رزق آخر، غير الشكوى المريرة والمتكررة لبعض المقرَّبين له، على أمل أن ترقّ قلوبُهم على أطفاله فيمنحوهم بعض الصدقات، أو يكثروا من دعائهم له، فتفتح السماء أبواب خزائنها لتسقط عليه أموالاً بدلاً من المطر. بل بلغ به الجشع أن يلقي بأولاده إلى العمل وهم حديثو السن، ليمتص أجرهم مُعَربدًا به طوال الليل والنهار. أحب أن يُعَوِّضَ ضعفه، ويثبت لنفسه أنه الأقوى؛ ولكن على من؟ على حفنة من الأطفال، ضعاف البنية، ساقَهم قدرُهم أن يكونوا أبناءً لهذا الرجل، عذَّبَهم وقسا عليهم، وكان يزهو بفعله هذا، والذي خلا منه أي معنى من معاني الأبُوة، تحت مسمى التأديب والتربية. تحملت الأطفال، وتحملت الزوجة إلى أن أتت لها الفرصة ؛ لتخرج ما فاض بها؛ ولتثبت هي الأخرى أنها الأقوى، ورافضة أن تكون جارية بعد اليوم، دافعة الأسرة إلى التهاوي أكثر وأسرع، فقد تطلعت إلى ذلك على حساب الأبناء، الذين كانوا هم الضحايا؛ ولكنهم قد عاهدوا أنفسَهم ألا يفشلوا وألا يسقطوا وسط معارك الطريق، وقد زادتهم معاناتهم الأسرية إصرارًا على النجاح، إلى أن اكتمل نموهم واشتد عودهم .

        ولكن كيف سيكون حال الجيل الذي أتى من ظهر رجل كهذا، وما هو مصير هؤلاء الأولاد، وقد تنافرت وتباينت شخصياتهم من جراء تربية ذلك الرجل؟.

        نجد منهم من يبذل قصارى جهده في التقرب من السلطة، آملاً أن ينول عفوها وعطفها السامي، فيتزلف لأصحابها، في مذلة منه وخنوع، مقدمًا لكلٍ فروضَ الطاعة والولاء، يلهث وراء سادته، آكلاً على كل الموائد، ليس لديه ولاء ولا انتماء لأحد منهم، يُغلِّف تملقه بتزييف الحقيقة؛ فيكون بالنسبة لهم مرآة من الخداع، يرون فيه قيمًا كثيرة خلت من نفوسهم وفقدت معناها على ألسنتهم، فيصبح محدِّرًا لطيفًا لضمائرهم العليلة. ومنهم من نشأ متأثرًا بما لاقاه من هذا الرجل من تسلط، فصار تاثرًا على كل ذي سلطة، متمردًا على كل ذي قوة، لا فرق عنده بين سلطة تقهر الآخرين وتنهب ثرواتهم وبين أخرى تعزهم وتمنحهم من ثرواتها، ساخطاً على كل ما حوله، ناقمًا على جميع أوضاعه، معاديًا لكل صاحب فكر مخالف لرأيه، لا يرى من الألوان إلا الأَسْود، ومن الأمور إلا الأسوأ، عاش حالماً بمدينته الفاضلة وكيفية نقلها من حيز الأحلام إلى أرض الواقع، مُصِرًا على أن يسلك طريقه إليها، رغم علمه بوعورة هذا الطريق وملئه بالألغام التي قد تودي بحياته أو تفضي به إلى فشل محاولته؛ فبات لا يستكين أمام أية طاغية، ولم يخنع أمام أي مستبد، لم تزده العراقيل والعقبات التي تعرض لها إلا إصرارًا على إتمام طريقه؛ ولكن ما مقدوره؟ وهو لا حول له ولا قوة فلا يملك قوة يواجه بها الطغيان ولا سلطة تساعده في تحقيق مدينته الفاضلة، وهذه الفئة هي أقلهم عدة وعتادًا، وليس في سعتها غير المجاهدة والاستعانة بالله والثقة في نصره عسى أن يأتيه قريبًا!؟. ومنهم من يعيش يأكل وينعم كالأنعام لا يهتم بأي شيء يدور حوله سوى إشباع غرائزه مهما كان الطريق إلى ذلك، يطلب العيش للعيش، فئة مهمشة تتسم بالجهل واللامبالاة بكل ما يحيط بها، صادقة اليأس من تغير أي من شيء، فقد بنيت شخصيتها على القهر والجبن والخضوع، وصارت السلبية هي منهجها، فهي تنعم في ظلها بالأمان وانحصرت أقصى أمانيها في بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وهذه الشريحة عندما تتواجد في أي مجتمع تثقل عليه خطاه، فتشل مسيرته نحو التحرر والتطور، وهي الفئة الأكثر سوادًا في أية أسرة وفي أي مجتمع. أن تربية الخنوع والخضوع التي تربَّى عليها الفئتان : الأولى والثالثة خلقت جيلاً تعس ضعيفًا، ليس لديه اية مقومات لبناء شخصية متوازنة تستطيع أن تحكم على ما يودر حولها من أحداث، عليه أن يتعايش دائمًا مع ما يفرض عليه من تدني لمستوي المعيشة وقهر واستبداد.

        عودة إلى ذي بدء ؛ فبعد أن قلت حيلة هذا الرجل وطفحت شيخوخته، تغيرت نظراته إلى أبنائه، وتفتحت حاجته إليهم، بمقدار ما يملكون من منصب وسلطة وقوة ومال، فطلب منهم المعاونة، بحجة أنه السبب فيما وصلوا إليه، متناسيًا أن حرمانهم ومعاناتهم وكدهم وراء نجاحهم. ولكن هيهات!! لقد اعتلتهم المرارة مما ذاقوه منه طوال حضانته لهم ، فلم يترك في نفوسهم شيئًا تجاهه يدفعهم إلى مساعدته، فلم يقدموا أو يؤخروا شيئًا له ، وهنا صاح وبالوالدين إحسانًا، ونسي أن من يزرع الحب والعطاء يجني حبًا وتضحية، ومن يزرع عكس ذلك لايحصد إلى الحقد والبخل والكراهية، وماجزاء الإحسان إلا الإحسان. وعندما وافته المنية لم يترك وراءه إلاّ السيرة السيئة والتنكر منه فلا خلف يدعو له بالرحمة ولا عمل صالح يتذكرونه به .

        إن مثل هؤلاء من أصحاب السلطة سواء الأب في أسرته أو الحاكم في مجتمعه ، يأخذون من الدين أو العلم أو حتى من أقوال الحكماء ما تستهويه أنفسهم، ويدر عطف الآخرين عليهم، خصوصًا وهم في مراحل الضعف والوهن، بينما كانوا لا يأخذون بمثل هذا وقتما كانت الدفة في أيدهم، مفتونين بالسلطة مُدعَّمين بالقوة، فلم تكن تأخذهم شفقة ولا رحمة بأي كائن من كان، ولم يمدوا يدَ العون والإحسان لأحد محتاجًا كان أو فقيرًا، ولم يعفوا عندما كانوا يملكون القدرة؟ فبأي وجه يطلبون العفو الآن ؟ فمن لم يرحم لا يُرحَم؟!. ولذا فإن عقوق الأبناء للآباء، والشعب لرجال السلطة، أصحاب السلطة في الأسرة والمجتمع هم السبب فيه، بسوء تربيتهم لأبنائهم وسوء معاملتهم لرعاياهم ؛ لذا فيا أيها المتهجمون على أبناء هذا الجيل ألم تسألوا أنفسكم أين تربى هذا الجيل، ألم ينشأ ويترعرع بين أحضانكم، واكتسب منكم كل ما به من صفات، فإن أخطأ فمنكم ، وإن أصاب فإليكم يرجع السبب في ذلك، وقبل أن توجهوا إليه اللوم الذي زاده ضيقًا من الحياة ، أصلحوا أنفسكم وسلوككم وأسهروا على رعاته وتوفير حاجاته، وأعيدوا للروابط الأسرية والمجتمعية قوتها فبأيديكم أنتم أيها الآباء! مقادير الأمور وإصلاحها بإصلاح أنفسكم .

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.


(*)    6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

      الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

      الجوّال : 0101284614

      Email: ashmon59@yahoo.com

Related Posts