اللغة والأدب
بقلم : د / طه مصطفى أبو كريشة
(النبوغ في الأدب، وإحسان القول فيه، مثل النبوغ في أي فن من الفنون، لابد فيه من ملكة خاصة؛ من أجلها يفترق شخص عن آخر، ويمتاز هذا عن ذاك، وإذا اختص بها واحد أبدع وأجاد، وإذا حُرِمَها غيرُه مضى في ركب الحياة وليس له في مجال الإبداع الأدبي نصيب) .
وقد وقف النقد العربي القديم عند ظاهرة الموهبة الأدبية، وتناولها النقاد بالدراسة محاولين الكشفَ عن أسرارها، وبيانَ ما ينبغي أن يفعله من يستشعر – في نفسه – دبيب الموهبة الأدبية، وقد انتهى بهم البحثُ حول منبعها إلى أنها عطاء إلهي ومنحة ربانية لا يقدر العبد على اكتسابها إذا كانت مفقودة من الأصل .
و«الجاحظ» من أوائل الذين تحدثوا عن هذه الظاهرة حديثًا باكرًا؛ وهو حديث يكشف عن بصيرة نافذة ، ورؤية فاحصة ، وحسٌ دقيق إزاء هذا الأمر المستور .
1- فمن حديثه عنها، ما يتصل بها وقد بدت تباشيرها وإرهاصاتها عند من اختص بها، وشعر في نفسه بميل إلى الأدب إنشاء وتذوقًا، وفي هذا الحديث نراه يوجّه ويرشد السائر في أول الطريق إلى كيفية تنمية الموهبة الوليدة ورعايتها؛ حتى يصل بها إلى سن الرشد المؤهَّل للإبداع الأدبي العلني .
فمن هذا قوله :
«وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننتَ أن لك فيهما طبيعة، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تهمك طبيعتك، فيستولى الإهمال على قوة القريحة، ويستبد بها سوء العادة» (البيان والتبيين: 1/203).
وإذا كان من الأمور البدهية أن موهبة الأديب تحتاج إلى غذاء ثقافي تتصدره نماذج الأدب العالية، فإن «الجاحظ» يبين لنا في هذا التوجيه أمرًا لايقل أهمية عن الزاد الثقافي ؛ إنه الممارسـة العمليـة للعطاء الأدبي والتأليف البياني؛ وهي ممارسة مرتكزة على الرياضة والمران؛ للكشف عن كفاءة الموهبة، وإثبات جدراتها؛ حتى يفيض ذلك النبع المختزن في أغوار النفس، وحتى تنقدح نار الحجر المستكنة فيه؛ وما ذلك إلا لأن إهمال هذا الجانب يؤدي إلى أن تصدأ القريحة، ويعلوها الغبار، وينطفئ منها الوميض الوهاج؛ حتى تصل في النهاية إلى الجمود والخفوت والجفاف، وإلى أن تتوارى بعيدًا في غياهب الذاكرة، وتتوه وسط عادات الإنسان وطبائعه الأخرى .
2- ومن هذا الحديث ينتقل «الجاحظ» إلى حديث آخر متصل بما يلي مرحلة الدربة والمران؛ وهي مرحلة إخراج النماذج التي سوف تُذَاع على المتلَقّين، وهنا ترى «الجاحظَ» يوصي الأديب بألاّ يتعجل تقديم النماذج؛ قبل أن يجري لنفسه اختبارًا يعرف من خلاله إذا كان أدبه يلقى أُذُنًا مُصغِية أو لا .
وعن هذا الاختبار الذاتي يقول :
«فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتتسب إلى هذا الأدب؛ فقرضتَ قصيدة، أو حبَّرتَ خطبة، أو ألفتَ رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتُك بنفسك، أو يدعوك عجبك بثمرة عقلك، إلى أن تنتحله وتدعيه؛ ولكن أَعْرضْه على العلماء في عُرْض رسائل أو أشعار أو خطب؛ فإن رأيت الأسماع تُصغى إليه، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه؛ فانْتحلْه، فإذا عاودتَ ذلك مرارًا؛ فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوب لاهية؛ فخُضْ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدَك الذي لايكذبك حرصَهم عليه، أو زهدَهم فيه» (البيان والتبيين303).
وحديث «الجاحظ» هذا فيه تحذير لأولئك الذين يتعجلون الظهور قبل أن ينضجوا، وقبل أن تكتمل لهم الأداة؛ حيث يريدون أن يكونوا ممن يشار إليهم بالبنان شعراء أو كُتابًا أو خطباء؛ إنها دعوة إلى التأني والتريث للاطمئنان على جودة السلعة التي سوف تُطرَح في الأسواق؛ فلتوضع أولاً مع نظيرات لها من تأليف غيره، ثم ليُنْظَر بعد ذلك هل راجتْ ونفدت، أو كسدت وبارت ؟ فإن كانت الأولى فليمْضِ، وليُعْلن عن نفسه، وليظهر بضاعته موسومة باسمه، معلنة بشارته، وإن كانت الأخرى فليبحث عن مجال آخر يصلح للعمل فيه، وكل مُيَسَّر لما خُلِقَ له.
وقول «الجاحظ»: «فإذا عاودت ذلك مرارًا» يشير به إلى أن الاختبار الذاتي لا ينبغي أن يؤخذ بنتيجته السلبية من أول الأمر؛ فيكون من ثم العدول الفوري؛ ذلك لأن إخفاق الأديب مرة لا يحسن أن يزرع اليأس في نفسه؛ بل عليه أن يكرر المحاولة المرة بعد المرة؛ فإن القريحة مثل الضرع تُدرِّ بالاتراء؛ وهو أمر يجب أن يكون الأديب على ذكر منه؛ فإذا كان الإلهام لن يجود لما عنده في اللحظة التي نريدها، ولن يجيبنا في الوقت الذي نحدده نحن؛ فكذلك الأمر في مستوى الإجادة، فإنه يختلف من وقت إلى وقت آخر؛ وعلى هذا فقد ينجح الأديب آخرًا فيما أخفق فيه أولاً، أما إذا تمادى به الإخفاق، وطال عليه زمان التأبى فقد أعذر نفسه إلى نفسه، وأراحها من أول الأمر من ألسنة حداد .
3- ثم يأتي للجاحظ حديث ثالث: يجيب فيه عن سؤال: هل من رُزِق موهبة الأدب يستطيع أن يبدع ويجيد في كل فروع الأدب شعره ونثره؟ وفي إجابته نراه ينفي ضرورة القدرة على الإبداع في كل فرع على جهة التعميم، وإن كان هذا لايمنع الخروج على القاعدة عند بعض الأفراد، و«الجاحظ» في هذا الحديث يقيس فن الأدب على سائر الفنون والمهارات في أن هناك تخصصًا داخليًا في كل فن .
وعن هذا يقول :
«قد يكون الرجل له طبيعة في الحساب، وليس له طبيعة في الكلام، وتكون له طبيعة في التجارة، وليس له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون، وتكون له طبيعة في الناي، وليس له طبيعة في (البوق) السرناي، وتكون له طبيعة في قصبة الراعي، ولا تكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين ، ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع، ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر، وفي الشعراء من لا يستطيع مجاوزة القصيدة إلى الرجز ومنهم من لا يستطيع مجاوزة الرجز إلى القصيدة، ومنهم من يجمعهما، وفي الشعراء من يخطب، وفيهم من لايستطيع الخطابة، وكذلك حال الخطباء في قرض الشعر، والشاعر نفسه قد تختلف حالاته».
وإذن فالقاعدة أن الموهبة يجري عليها قانون التخصص في داخل الفن الواحد (1/207) وهو تخصص جبري، في الأغلب الأعم، وعلى هذا فلا تثريب على من كان شاعرًا مجيدًا إذا لم يستطع أن يكون مبدعًا ناثرًا، ولا إزراء بمن أبدع في أي فن من فنون النثر، ولم يتسطع أن يكون له تبريز في باقي فنونه أو في الشعر.
وبعد؛ فهذا حديث «الجاحظ» حول بعض الجوانب التي تتصل بموهبة الأديب؛ وهو حديث يسبق به كثيرًا من آراء النقد الحديث التي تلتقي معه، ولا تذهب إلى أكثر مما ذهب إليه، ومنها ما جاء في قول العقاد: «إن الشاعر قد يُحكم قلمَه، ويدعو الألفاظَ فتُسعِفه؛ ولكنه لايُحكِم طبعَه، ولن يكون الطبع عند دعوته، بل إن الإنسان هو الذي يكون عند دعوة طبعه! وهو رهن بما تحوى إليه سجيته»، وقوله: «وليس يلزم أن تتوافر في الطبع بواعث السخط والنقمة؛ كما تتوافر فيها بواعث الشكر والرضاء والثناء، وشأن الشاعر في هذا كشأن المصور والموسيقي وسائر أصحاب الفنون فقد يُولَع المصوِّرُ بتمثيل العمائر والقصور، ولا يأتي بشيء في تمثيل الطلول والقفاز، وقد يحسن الموسيقي أن يفرح السامعين بأنغامه، ولا يحسن أن يحزنهم ويُشْجيهم» (مطالعات 392 – بين الكتب والناس: 112) تُرى: هل يحدثنا «العقاد» هنا بلسان «الجاحظ» حدثنا بلسان العقاد في القديم؟ إننا لن نبعد عن الصواب أياً كان الجواب .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب المرجب 1428هـ = يوليو – أغسطس 2007م ، العـدد : 7 ، السنـة : 31.