دراسات إسلامية
بقلم : أ. د. عبد الفتاح مصطفى غنيمة
وُلِدَ المأمونُ في عام 170هـ أبوه هارون الرشيد وأمه فارسية ونشأ في حجر الخلافة وتهيأ له من أسباب التربية والتثقيف الكثير، وكانت مظاهر الذكاء والنجابة والبعد عن سفاسف الأمور من أهم سماته .. كما اشتهر بالحزم وحسن التدبير والطموح إلى الكمال، وكان استعداده الفطري أن يكون قائد أمة فقد حبتْه قدرةُ الله فنَ الخطابة وكان جهير الصوت وحسن اللهجة، كما كان على عرفان بشؤون الحياة. وكان حسن التوفيق في اختيار حاشيته وأهل الشورى حوله من ذوي العلم والحنكة، وقد اشتهر أيضًا بالحلم والعفو والكرم والبصر بالسياسة وشغف بالعلم والأدب والحوار الهادف .
كان هذا الخليفة عالمًا من كبار العلماء. مثقفًا واسع الثقافة، يجيد كثيرًا من العلوم يهب العلم وقته ورعايته، كما يهب العلماء عطفه وعنايته .
روى بعضُ المؤرخين: «أن المأمون لما دخل بغداد واستقر فيها ، أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته واختير لمجالسته مائة رجل، ظل يختارهم واحدًا بعد الآخر حتى حصل منهم عشرة» كما كان يسهم مع العلماء في الحوار العلمي، ويستنهض العلماء إلى النقاش الحاد، فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء حيث كانت أسعد ساعات العمر هي التي يستمع فيها إلى الحوار المتبادل في موضوع واحد، وكان العلماء يتجادلون ويتناظرون في شتى المسائل العلمية ويقول بعض المؤرخين: «أراد بعقد هذه المجالس إزالة الاختلاف بين المتناظرين في المسائل الدينية وتثبيت عقائد من زاغوا عن الدين، وبذلك تتفق كلمة الأمة في المسائل الدينية التي كانت مصدر ضعفهم».
ويقول البعض الآخر أنه «أراد أن يجعل مجلسه (محكمة) يتنازع فيها الخصوم: وكان يدلى بحجته والمتنازعون هم العلماء، ثم تحكم المحكمة فيجب أن ينفذ حكمها.. ويجب أن يذعن المتنازع لحكم المحكمة، فلا يقول قائل برأي إلا ما قضت به المحكمةُ.. ».
وبلغت في عهده الصالونات والمجالس العلمية الذروة.. فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها. وقويت في عهده حركة النقل والترجمة من اللغات الأجنبية – وخاصة من اليونانية والفارسية – إلى العربية – فأرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والطب والعلوم التطبيقية والموسيقي .. ولم تكد تلك الذخائر النفيسة تصل إلى بغداد حتى عهد المأمون إلى جماعة من العلماء – منهم «حنين بن إسحاق» (194-264هـ) (809-877م) و«الحجاج بن نصر» و«ابن البطريق» (المتوفى 184هـ – 800م)، و«قسطا بن لوقا» البعلبكي تُوُفِيَّ حوالي (300هـ – 912م) و«ثابت بن قرة» المتوفى عام (288هـ -900م) وهم يشكلون المرحلة الأكثر تألقًا في حركة الترجمة العربية. في ترجمتها، وكان «قسطا بن لوقا» يشرف على الترجمة من اللغات اليونانية والسريانية والكلدانية إلى العربية، كما كان «يحيى بن هارون» يشرف على الترجمة من الفارسية القديمة .
ويشير «القفطي» إلى تميز «حنين» في الترجمة، وأنه هو الذي أوضح مؤلفات «أبقراط» و«جالينوس» ولخصهما بأفضل السبل، وكشف غموضهما. ويذكر «ابن أبي أصيبعة» أن «حنينًا» قدم تلخيصًا سريانيًا لكتاب «جالينوس» حول العقاقير البسيطة، وأن ترجماته كانت أكثر سلامة لغويًا، وتعطي الانطباع بأنها نتيجة امتلاك سلس وعميق للغة وليست نتيجة جهد قلق. وقد ظهر هذا الأمر في التكييف السهل للأصل اليوناني وفي الدقة المدهشة للتعبير المنتج دون إسهاب .
أما «يحيى بن البطريق» فقد كان يهتم بكل كلمة يونانية ودلالتها، ثم يقدم الكلمة العربية المقابلة لها بالمعنى ويترجمها، ثم يأخذ كلمة أخرى وهكذا تنتهى الترجمة. وتعتبر هذه الترجمة رديئة.. حيث أن الكلمات اليونانية ليس لها كلها مقابل بالعربية وهكذا تبقى كلمات يونانية في اللغة العربية.
وقد ذكر «ابن العبرى» في كتابه مختصر تاريخ الدول، إن «قسطا بن لوقا» أحد مشاهير الأطباء ونقلة العلوم في الإسلام – تبحر في الفلسفة والتنجيم والهندسة والحساب والموسيقي، وكان يجيد اللغة اليونانية وجيد العبارة بالعربية. ولذا فقد نقل كتبًا كثيرة من اليونانية إلى العربية، واشتهر بحسن النقل فصيحًا باللسان العربي واليوناني والسرياني.. ويشير «ماكس مايرهوف» إلى ما نقله «قسطا»، أنه ترجم الكثير من المؤلفات الطبية والرياضية والفلكية كما ترجم إلى جانبها مؤلفات فلسفية نذكر منها:
كتاب في أوجاع النقرس، كتاب في الروائح وعللها، كتاب في النبض ومعرفة الحميات، كتاب في الأخلاط الأربعة، كتاب في الكبد وما يعرض فيها من الأمراض، كتاب في الأغذية، كتاب في دفع ضرر السموم، كتاب في المدخل إلى علم الهندسة، كتاب في النوم والرؤيا، كتاب في الدم، كتاب في الفرق بين النفس والروح، كتاب في شكل الكرة الاسطوانية، كتاب في الهيئة وتركيب الأفلاك، كتاب في ترجمة «ديوفنطس» في الجبر والمقابلة، كتاب في الأوزان والمكاييل، كتاب بالاستدلال بالنظر إلى أصناف البول، كتاب في شكوك «إقليدس»، كتاب القصد، كتاب المدخل إلى المنطق وغيرها.
وقال بعض المؤرخين أن المأمون كان يدفع ثمن الكتاب المترجم ذهبًا ويقولون: إنه «أي الخليفة هو الكاسب، وفي عهده أيضًا بدأ كثير من المسلمين في دراسة الكتب التي ترجمت إلى العربية وعملوا على إيضاحها وتفسيرها والتعليق عليها وإصلاح أغلاطها. واشتهر من هؤلاء «أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي» (185-253هـ) 801-867م) – وهو عربي الجنسية من قبيلة كندة اليمنية – وقد نبغ في الطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق والهندسة وعلم النجوم، وحذا في تأليفه حذو «أرسطو».. وترجم كثيرًا من الكتب اليونانية إلى العربية وشرح غوامضها فمثلاً نقل كتاب الجغرافيا في المعمور من الأرض لـ«بطليموس»، وكان سريانيًا، وقد نقله «الكندي» إلى العربية نقلاً جيدًا. كما نقح ما ترجمه غيره من المترجمين .. وكان هذا العالم معاصرًا للمأمون ثم للخلفاء المعتصم والواثق والمتوكل .
ويقول أحد المستشرقين أن عصر المأمون كان: «أزهى عصور بني العباس في تاريخ النهضة العلمية في العصر العربي، إذ كان المأمون نفسه من أساطين العلم – يختار أصحابه ورجال الدولة من الصفوة الأفذاذ من الشرق والغرب؟ ذلك إلى جانب المستشارين المفكرين والمترجمين، الذين ملأ بهم بلاطه وزين بهم ملكه كما قيل أيضًا أن بلاطه كان يموج بجمهرة عظيمة من رجال العلم والأدب والشعر والأطباء والفلاسفة الذين استدعاهم من جهات متعددة من أنحاء العالم، وشملهم جميعًا بعنايته وعطفه وتشجيعه مهما اختلفت جنسياتهم ودياناتهم..
وفي عهده وصل النشاط في مكتبة «بيت الحكمة» التي أنشأها والده الخليفة هارون الرشيد إلى ذروته.. وقد نقل إليها المأمون كتب الفلاسفة من جزيرة «قبرص»، إذ أنه عندما هادن صاحب تلك الجزيرة أرسل إليه يطلب كتب اليونان.. ويقال أن المأمون اغتبط بهذه الكتب أيما اغتباط وقد خصص في المكتبة خزانة خاصة لكتبه كما خصص خزانة لكتب والده الرشيد كما طلب كتبًا من ملك الروم، الذي أرسل إليه الكثير من الكتب.
وقد صنفت كتب هذه المكتبة حسب موضوعاتها واختار لها المأمون المترجمين ممن لهم خبرة علمية بالموضوع إلى جانب اتقان اللغة المنقولة منها، وكان من هذه الكتب كتاب «كلوديوس بطليموس» (127-180م) في الجغرافيا السماوية فأمر المأمون بترجمته وسموه «المجسطى» وقام بترجمته «ثابت بن قرة» حيث نجح «بطليموس» في التدليل على أن الأرض ثابتة وهي مركز الكون. وهو من كبار علماء الفلك اليونان الذين استقروا بالإسكندرية تحت حكم الرومان . ويقال أن المأمون نقل إلى بغداد من الكتب اليونانية المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير.
وأكثر الكتب المنقولة عن الفارسية في عهد المأمون من قبيل الآداب والأخبار والسير والأشعار وبعضها في النجوم مما نقله «آل نوبخت» و«علي بن زياد التميمي» وغيرهم أمثال «جبلة بن سالم» و «عبد الله بن المقفع» والأخير وهو المترجم لكتب «كليلة ودمنة» و«الأدب الكبير» و«الأدب الصغير» و«مزدك» و«اليتيمة» ونقل العرب عن اللغة الهندية اية في عهد المأمون من قبيل الآداب والأخبار والسير والأشعار وبعضها في النجوم مما نقله >ة المنقولة منلكثير من كتب الطب والنجوم والرياضيات والحساب والأسمار والتواريخ ومن مشاهير المترجمين عن الهندية منكة الهندي وكان يعرف الفارسية أيضًا.
والمأمون أول من نادى بأن يكون نشاط مكتبة «بيت الحكمة» موقوفًا على سخاء الخلفاء والأمراء، فهيأ للعلماء أرزاقًا ثابتة يتقاضونها من أوقاف ثابتة يكفي ريعها لكل المطلوب للعلماء والطلاب .
وقال كثير من المؤرخين: «إن جميع النهضات العلمية العربية إنما هي فروع للأصل الذي أنبته المأمون .. وأن ما جرى في عهده من ترجمات للتراث اليوناني يُعتَبَر مضرب الأمثال».
والمأثور عن المأمون أنه كان يقدر العلماء سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين.. فقد رُوِيَ أنه أكرم «يوحنا البطريق» – وكان أمينًا على ترجمة الكتب القديمة.. كما رفع منزلة «سهل بن سابور» وابنه «سابور».
كما رُوي أنه كان يضطهد أحيانًا أعداء العلم وجفاة الفلسفة وقد عرف التاريخ كثيرًا من أرباب الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين لأنهم كانوا يعادون الفلسفة، ظنًا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده، ويقول المرحوم الإمام محمد عبده – رحمه الله – في كتابه «الإسلام دين العلم والمدنية مستفهمًا: هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا دينيًا يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة». ثم يجيب طيب الله ثراه، على هذا السؤال بقوله: «لعلك لا تجده أبدًا».
وفي عهده أيضًا نبغ علماء الفلك فقاسوا طول الدرجة الأرضية وحددوا درجة كالطول 66 ميلاً وثلثين، وهذا التقدير قريب من القياس الصحيح الذي انتهى إليه العلماء .
كما بُنِيَ في عهده عدة مراصد وجهزت بأدوات شتى مثل مقياس الرتفاع والاسطرلاب والمزولة (الساعة الشمسية).
وفي عهده كذلك نبغ المسلمون في علم الجغرافيا، حيث دخلت عهدًا جديدًا، وحلت كتابات المسلمين فيها محل كتابات اليونان، وأصبحت بعد تصحيحها لأخطاء اليونان الأصل الحقيقي الذي بدأ منه لتقدم الأوروبي فيما بعد. «والحق أن القياس المأموني لخط منصف النهار (أي الذي تم في عهد المأمون) كان أصح من القياسين اليونانيين السابقين وأكثرهما ذيوعًا وانتشارًا فيما بعد .
وفي عهد المأمون رسم سبعون رجلاً من علماء العرب خريطة للأرض بالاستعانة بخريطة «بطليموس» مع الإشارة إلى تصحيحات كثيرة .. وقد صوروا هذه الخريطة العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك وقد رأى المسعودي هذه الخريطة وتكلم عنها .
ويقول الأستاذ «كراتشكوفسكي» أنه لم يبق شيء من هذه الخريطة .. وإن كانت المعلومات التي لديه عنها صحيحة لدرجة تسمح بتكوين فكرة عنها؛ ولكن إعادة تصورها بحذافيرها يكاد يكون أمرًا مستحيلاً إذ لايزال هناك غموض كثير يكتنف طبيعة الأسس التي رسمت عليها .
أما الأستاذ «ليليفيل» فيقرر أنه توجد بقايا منها. ورسم فعلاً تلك الخريطة في أطلسه .. كما يقول أنه إذا قورنت البقايا التي تحت أيدينا من رسم الأرض المأموني، بخريطة «بطليموس» اتضح لنا تصحيحات كثيرة في مجموع الخريطة. فالتحسينات التي أدخلها العرب على وضع الجزيرة العربية والمناطق حول دجلة والفرات هي تصحيحات ذات شأن ، بالإضافة إلى التصحيحات القيمة التي أدخلوها على المناطق الممتدة من قادس في أسبانيا إلى السند في الهند .
وكان المأمون فوق ذلك كله يؤثر العلماء على الوزراء .. فقد قيل إنه كان «لتمامة بن الأشرس» – وكان من أبرز رجالات العلم والأدب – مكانة عند المأمون فوق مكانة الوزراء .. وأراده ليكون وزيرًا بعد قتل «الفضل بن سهل»، فأبى وقال: «إني لم أر أحدًا تعرض للخدمة والوزارة إلا لم يكن لتسلم حاله، ولا تدوم منزلته».
فقبل المأمون ذلك منه وهذا المنحى الذي نحاه المأمون يرجع إلى بصره بأسرار الشريعة وعلمه بدقائق الدين وتفوقه في فهم أنواع الخلاف بين المسلمين وتعمقه في دراسة النفس البشرية .. لذا فإن المأمون في علمه وعرفانه أهل للاحتذاء .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.