يستقبل المسلمون في العالم كله عامًا هجريًّا جديدًا، يعيد إلى مخيلتهم أحداث الهجرة النبوية وما سبقها وما تلاها، بعد أن ضاق على نبيهم وأتباعه أرض مكة على رحبها، ومكر أهلها به وبأصحابه، و أذاقوهم أنواعًا من الظلم والاضطهاد، فهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة هجرة أولى وثانية، ثم عاد منهم من عاد إلى مكة ليواجه وضعًا مأساويًّا أفظع من ذي قبل. قال الله تعالى في كتابه الحكيم- وهو يصف مكر أهل مكة بنبيه خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ-: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]. فهذه الآية الكريمة تصور أبلغ تصوير لما كان عليه أهل مكة من التآمر ضد النبي ﷺ، والتبييت له، بدلا من أن يفيئوا إلى الحق ويهتدوا إليه، ولكن باءت مؤامرتهم بالفشل ومنيت بالنكسة؛ فإن المكر البشري يطيش كالريح في الفلاة في العاصفة الهوجاء أمام مشيئة الله تعالى وإرادته، فهو خير الماكرين، كما يقول الله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ [آل عمران:54]. و يقول الله تعالى في قصة صالح مع قومه ثمود إذ عصوه وكذبوه: ﴿وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا وَمَكَرۡنَا مَكۡرٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٥٠ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [النمل:50-51].
فيهاجر الرسول ﷺ وصاحبه أبوبكر بعد أن أذن الله تعالى له بالهجرة من مكة، وهي أحب البلاد فيقول كما روى الإمام أحمد في مسنده [18717] عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وقف النبي ﷺ على الحزورة، فقال: «علمت أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله عز وجل، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت». وفي إمتاع الأسماع: «عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما خرج رسول اللَّه ﷺ من مكة قال: أما واللَّه، إني لأخرج منك، وإني لأعلم أنك أحب بلاد اللَّه إلى اللَّه، وأكرمها على اللَّه، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
ويطرق مسامع المسلمين في المدينة نبأ خروج رسول الله ﷺ، وهم يتلهفون إلى اللحظة التي يتشرف فيها المدينة وأهلها بوصول النبي ﷺ إليها على أشد من الجمر. ويصور لنا كتب السير والتاريخ تصويرًا رائعًا لهذا التلهف والشوق إلى ذلك.
فيروي الإمام البخاري بسنده إلى ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه قال: «… وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله ﷺ من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم. فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله ﷺ وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله ﷺ بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف. فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله ﷺ صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله ﷺ يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله ﷺ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله ﷺ عند ذلك، فلبث رسول الله ﷺ في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله ﷺ».
ویحكي الطبري عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله ﷺ، قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله ﷺ من مكة، وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا، ننتظر رسول الله ﷺ، فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا بيوتنا، وذلك في أيام حارة، حتى إذا كان في اليوم الذى قدم فيه رسول الله ﷺ جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله ﷺ حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وإنا كنا ننتظر قدوم رسول الله ﷺ، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء.قال: فخرجنا إلى رسول الله ﷺ، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا من لم يكن رأى رسول الله ﷺ قبل ذلك، قال: وركبه الناس، وما نعرفه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله ﷺ، فقام أبو بكر، فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك».
وقال البيهقي في دلائل النبوة (2/499): «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بعبد الله بن أبي بن سلول، وهو على ظهر الطريق، وهو في بيت، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسها، فقال له عبد الله: انظر الذين دعوك فانزل عليهم. فذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفر من الأنصار وقوفه على عبد الله بن أبي و الذي قال له: فقال له سعد بن عبادة: إنا والله يا رسول الله، لقد كنا قبل الذي خصنا الله به منك، و منَّ علينا بقدومك، أردنا أن نعقد على رأس عبد الله بن أبي التاج، ونملكه علينا. فعمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وقوفه على عبد الله بن أبي إلى بني عمرو بن عوف، ومعه أبو بكر الصديق، و عامر بن فهيرة، فنزل على كلثوم بن الهدم، وهو أحد بني زيد بن مالك، وكان مسكنه في دار ابن أبي أحمد. وقد كان قدم على بني عمرو بن عوف قبيل قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده ناس كثير من المهاجرين فنزلوا فيهم».
وقيل: نزل على سعد بن خيثمة، وكان عزبًا، وكان ينزل عنده العزاب من أصحاب النبي-ﷺ-، وكان يقال لبيته «بيت العزاب» (الكامل في التاريخ1/670). ويبدو أنه ﷺ كان نزل على كلثوم بن الهدم، فإذا خرج من بيته جلس في بيت سعد بن خيثمة. فيقول ابن كثير (البداية والنهاية 3/231): «ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم: إنما كان رسول الله ﷺ إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبًا لا أهل له، وكان يقال لبيته «بيت الأعزاب».
ويقول ابن حبان في سيرته(1/137): «فكان أول من قدم عليهم من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قصي، فقالوا: ما فعل رسول الله ﷺ؟ قال: هو وأصحابه على إثري، ثم أتاهم بعده عمرو بن أم مكتوم الأعشى أخو بني فهر، فقالوا: ما فعل من وراءكَ: رسول الله وأصحابه؟ فقال: هم الآن على إثري، ثم أتاهم بعده عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود وبلال، ثم أتاهم عمر بن الخطاب في عشرين راكبًا».
وأما استقبال أهل المدينة للنبي ﷺ، فلاتسأل عن الحفاوة البالغة والاستقبال الحار الذي لقوا به رسول الله ﷺ، حين توجه من قباء إلى المدينة بعد أن أقام بها خمسة عشر يومًا. فأرسل رسول الله ﷺ إلى الأنصار بالمدينة.
ولما شخص ﷺ اجتمعت به بنو عمرو بن عوف، فقالوا: أ خرجت ملالا، لنا أم تريد دارا خيرًا من دارنا؟ قال: إني أمرت بقرية تأكل القرى، فخلوها- أي ناقته- فإنها مأمورة.
يصور ذلك أنس بن مالك وهو يومئذ غلام من الغلمان، فقال: إني لأسعى في الغلمان، يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئًا، ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئًا، قال: حتى جاء رسول الله ﷺ وصاحبه أبو بكر. فكمنا في بعض خراب المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمس مئة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين. فأقبل رسول الله ﷺ وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرًا شبيها به. قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض. فلم أر يومين شبيها بهما ورواه البيهقي. قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق، وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رســـــــــول الله، الله أكـــــــــــــــبر جاء محمد، الله أكبر، جاء محمد، الله أكبر، جاء رسول الله.
ويقول ابن الجوزي في المنتظم(3/51): عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: مضى رسول الله ﷺ وأنا معه حتى قدمنا المدينة، فتلقاه الناس، فخرجوا في الطريق، وعلى الأجاجير ، فاشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، جاء محمد.
روى الإمام مسلم بسنده (في صحيحه برقم:75) عن البراء رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «أنزل على بني النجار، أخوال عبد المطلب، أكرمهم بذلك»، فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق، ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله». وروى البيهقي عن أبي خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جعل النساء والصبيان يقلن:
طلع البـــــــــــــــــــــــــــدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * مـــــــا دعــــــــــــــا لله داع
ومن صور هذا الاستقبال الحار للنبي ﷺ ما يحكي ابن إسحاق أنه كان لايمر بقبيلة من قبائل أهل المدينة إلا رغبوا في نزوله ﷺ عندهم، يعرضون عليه المنعة والعدة والعتاد. فقال: فأدركت رسول الله ﷺ الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي- وادي رانوناء- فكان أول جمعة صلاها بالمدينة. فأتاه عتبان بن مالك وعباس ابن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم، فقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا في العدد والعدة و المنعة قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» – لناقته- فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة؟ قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا في العدد والمنعة.
قال «خلوا سبيلها فإنها مأمورة». فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة. قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة»، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدي ابن النجار- وهم أخواله – اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن خارجة في رجال من بني عدي ابن النجار، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة؟ قال: «خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة»، فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده عليه السلام اليوم، وكان يومئذ مربدا لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء (البداية والنهاية 3/242).
وفي هذا اليوم العامر بالترحيب والأراجيز والنداءات من كل مكان، يوم الفرح والابتهاج لم تر المدينة يومًا مثله، وقد لبس الناس أحسن ما عندهم من الملابس، كأنهم في يوم عيد، وحقا كان يوم عيد وسعادة ونعمة وشرف وفضل اختصهم الله تعالى به، ولقد كان حقًّا يوم عيد؛ نزل رسول الله ﷺ.
ويقول الذهبي في تاريخ الإسلام (1/223): وأقبل حتى نزل إلى جانب بيت أبي أيوب، قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله، يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف فيها فجاءه وهي معه، فسمع من نبي الله -ﷺ- ثم رجع إلى أهله، فقال نبي الله -ﷺ: «أي بيوت أهلنا أقرب»؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري، قال: «اذهب فهيئ لنا مقيلا»، فذهب فهيأ لهما مقيلا، ثم جاء فقال: يا نبي الله، قد هيأت لكما مقيلا، قال: «قوما على بركة الله فقيلا».
وروى سعيد بن منصور في سننه (برقم: 2978) عن عبد الله بن الزبير، أن رسول الله ﷺ قدم المدينة، فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي ودار الحسن بن زيد، فأتاه الناس، فقالوا: يا رسول الله، المنزل، فانبعثت به راحلته، فقال: «دعوها، فإنها مأمورة» ثم خرجت به، حتى جاءت به موضع المنبر، فاستناخت به، ثم تجلجلت، ولِناسٍ ثَمَّ عريش كانوا يرشونه ويعمرونه ويتبردون فيه، حتى نزل رسول الله ﷺ عن راحلته، فأوى إلى الظل، فنزل فيه، فأتاه أبو أيوب، فقال: يا رسول الله، منزلي أقرب المنازل إليك، فأنقل رحلك إليه؟ قال: «نعم»، فذهب براحلته إلى المنزل، ثم أتاه رجل آخر فقال: يا رسول الله، انزل علي، فقال: «إن الرجل مع رحله حيث كان».
وقال عبد الملك بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الخركوشي، أبو سعد (المتوفى: 407هـ) في شرف المصطفى(1/104): فبركت على باب أبي أيوب، وخرجت جواري بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن:
نحن جوار بني النجار
يا حبذا محمدا من جار
محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري
(تحريرًا في الساعة السابعــــــــــــــــــة صباحًا مـــــن يــــــــــــــوم الخميس 18/ ذي القعدة 1444هـ = 8/يونيو2023م)
مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48