بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله
(1305-1369هـ/1887-1949م)
تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري(*)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٨٩
أي ليس عليهم كفارة، كما يجب في اليمين المنعقدة. وتفسير يمين اللغو سبق في أواخر تفسير الجزء الثاني في الآية رقم 225. وذكر فيما مضى تحريم الطيبات، ومن صور التحريم اليمين، فذكر أحكامها فيما يلي.
فائدة1: أي الكفارة بعد الحنث في هذه اليمين ما يأتي بيانه. ويخير في الطعام بين أن يدعو عشرة مساكين إلى بيته ويطعمهم، أو يتصدق على كل مسكين بمقدار صدقة الفطر من الطعام، أو يدفع قيمته.
فائدة2: والكسوة بما يغطي جسده، كالقميص والسروال والإزار والرداء.
فائدة3: أي تحرير رقبة، ولايشترط فيها الإيمان.
فائدة4: أي صوم ثلاثة أيام متواصلة، والمراد بالعجز كونه لايملك قدر النصاب. كذا في روح المعاني.
فائدة5: وحفظ الأيمان أن يحذر الحلف في كل أمر من غير حاجة إليه، فإنه عادة غير مستحسنة. فإن حلف بَرَّ فيه ما استطاع إليه سبيلا. فإن حنث فيه لسبب من الأسباب، فليكفر. فكل ذلك يدخل في حفظ الأيمان.
فائدة6: ما أعظم منة الله علينا حيث اجتنبنا الطيبات فمنعنا منه. فإن أخطأ أحد وحرم الطيبات على نفسه، أرشده إلى ما يتحلل به منه مع حفظ اليمين.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠
سبق تفسير الأنصاب والأزلام في فاتحة هذه السورة (وَ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ اَنْ تَسْتَقْسِمُوْا بِالْاَزْلاَمِ) [المائدة:3].
فائدة: نزلت بعض الآيات في الخمر قبل هذه الآية، ونزل أولا قوله تعالى: (يَسْــَٔـلُوْنَكَ عَنِ الْخَــمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيْهِمَا اِثْمٌ كَبِيْرٌ وَّمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَاِثْـمُهُمَا اَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا) [البقرة:219]. ورغم أنها كانت إشارة صريحة إلى تحريم الخمر، إلا أنه لم يرد الأمر صراحةً بتركها، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم بین لنا بیانًا شافیًا. ثم نزلت آية أخرى: ( يٰٓاَيُّهَا الَّذِيْنَ اٰمَنُوْا لَا تَقْرَبُوا الصَّلٰوةَ وَاَنْتُمْ سُكٰرٰى) إلى آخر الآية [النسآء:43]. ولم تصرح هذه الآية أيضًا بتحريم الخمر، وإن منعت عن الصلاة في السكر، وكان ذلك قرينة على أنها ستُحرَّم على الإطلاق عما قريب. وكان العرب قد انتشر فيهم الخمر انتشارًا كليًّا، ولم يتيسر على المخاطبين تركها مرةً واحدةً. فسلك أسلوبًا حكيما متدرجًا، فبدأ بتأصيل النفور منها في القلوب، وألفهم بحكم التحريم قليلا قليلا. فلما سمع عمر هذه الآية أعاد قوله ذلك: الله بين لنا بيانا شافعا، حتى نزلت آيات سورة المائدة التي بين أيدينا: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91] التي نهت بصراحة عن هذا الرجس على شاكلة عبادة الأصنام. فما إن سمع عمر رضي الله عنه (فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ) حتى صاح: انتهينا، انتهينا. فكسر الناس دنان الخمر، وخربوا الكؤوس، و سالت الخمر في سكك المدينة مثل الماء. وترك العرب كلهم هذه الخمر الرجس، وسكروا بخمر المعرفة الربانية، والمحبة والطاعة النبوية. ونجح جهاد رسول الله ﷺ ضد أم الخبائث هذا نجاحًا لايوجد له مثيل في التاريخ. ألاترى كيف أن الذي حذر منه القرآن الكريم تحذيرًا شديدًا في الماضي، قد شعرت بفسادها وأضرارها أعظم الدول ولوغًا في الخمر، وصممت العزم على إبطالها وإفنائها. فلله الحمد والمنة.
إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١
يشرب المرء الخمر فيزول عقله، فربما يجن جنون شاربيها، فيتقاتلون. وربما تبقى آثار القتال حتى بعد زوال السكر، وتستمر العداوة بينهم. وعلى مثلها أو فوقها الميسر، فيحدث قتال وفساد شديد حين يكسب أحدهم الرهان، فتتوفر فرصة كبيرة لأن يثير الضجة والفساد. وهذا فسادها الظاهر، وأما فسادها الباطني فهو أن الإنسان يشتغل في مثل هذه الأشياء، فيغفل عن ذكر الله تعالى وعبادته. والدليل عليه المشاهدة، و التجربة. ألا ترى لاعبي الشطرنج، ربما يغفلون عن الطعام والشراب وعن أهليهم فضلا عن الصلاة. فإذا كانت هذه الأشياء تحمل هذه الأضرار الظاهرة والباطنة، أفلا ينتهي منها المسلم بعد أن يسمع ذلك؟
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢
وامتثلوا أوامر الله تعالى ورسوله، ولاتخرجوا على القانون وإن عجزتم عن الإحاطة بمنافع شيء وأضراره. فإن أبيتم فاعلموا أن رسولنا قد بين لكم القانون والأحكام الإلهية، وانظروا في مغبة العصيان.
لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٩٣
جاء في الأحاديث – وهي على غاية الصحة والقوة- أن آيات التحريم لما نزلت سأل أصحاب رسول الله ﷺ، فقالوا: يارسول الله، كيف بالمسلمين الذين شربوا الخمر قبل نزول تحريمها و ماتوا، فبعض الصحابة -مثلا- شربوا الخمر، وشهدوا أحدًا، ثم ماتوا عليه، وفي أجوافهم الخمر. فنزلت هذه الآيات. ونظرًا إلى عموم الآيات والألفاظ الأخرى تُحمل هذه الآيات على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الأحياء أو الأموات، لابأس عليهم في تناول المباح حين إباحته، وخاصة وهم كانوا على خصال التقوى والإيمان في عموم الأحوال، ثم شهدوا الرقي في هذه الخصال بصورة متواصلة، وارتقوا في مدارج التقوى والإيمان حتى وصلوا إلى منزلة الإحسان، التي هي منتهى درجات الرقي الروحاني للمسلم؛ حيث يحب الله تعالى عبده حبا خاصًّا، وفي حديث جبرئيل: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه». فالصحابة الأطهار الذين قضوا حياتهم في الإيمان والتقوى، ونالوا منزلة الإحسان، وقُتِلوا في سبيل الله، لا مجال لإثارة الشك والأوهام في مثل هؤلاء؛ فإنهم تناولوا شيئا لم يُحرَّم حينئذ وإنما حُرِّم فيما بعد، وماتوا عليه. قال أهل التحقيق: التقوى -أي اجتناب المضار الدينية- لها درجات، كما تتفاوت مراتب الإيمان واليقين قوة وضعفًا. وأكدت التجربة والنصوص الشرعية أن المرء كلما ازداد رقيا في الذكر والتفكير ، والعمل الصالح، والجهاد في سبيل الله، ازداد بقدره خوفًا من الله تعالى، وعمارةً لقلبه بتصوره عظمة الله تعالى وجلاله، ويزداد إيمانه ويقينه قوة وإحكامًا. وإلى مراتب الرقي والعروج في السير إلى الله تعالى هذه أشار تكرار التقوى والإيمان في هذه الآية، ونبه على آخر منازل السلوك، وهو الإحسان، وثمرته. وأما الصحابة الذين سئل عنهم فذكر قاعدة كلية عامة، وأجاب عنه بعنوان يتضمن الإشارة اللطيفة إلى فضل ومنقبة هؤلاء المرحومين. وتنص ذخائر كتب الحديث على أن الصحابة سألوا مثل هذا السؤال مرتين: الأولى: فيما يتعلق بالخمر. والثانية: سألوه حين تحولت القبلة، فقالوا: ما بال صلوات من مات قبل تحويل القبلة، ولم يصل صلاة واحدة إلى الكعبة المشرفة. فنزل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللّٰهُ لِـيُضِيْعَ اِيْمَانَكُمْ اِنَّ اللّٰهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوْفٌ رَّحِيْمٌ)[البقرة:143].
ويفيد التأملُ أن هاتين القضيتين هما اللتان كانت تحيط- قبل نزول الحكم الصريح فيهما- بهما آثار وقرائن جعلت الصحابة ينتظرون نزول صريح الحكم فيهما. وفيما يتعلق بالخمر سبق أن حكينا قبل فوائد عدة من الروايات ما يؤكد دعوانا أكثر. فالآيات الواردة في أول الجزء الثاني من القرآن الكريم فيما يخص تحويل القبلة (قَدْ نَرٰى تَـقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاۗءِۚ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰىهَا) [البقرة:144] تشير إلى أن النبي ﷺ كان ينتظر كل وقت نزول الأمر بتحويل القبلة. وغير خافٍ أن الصحابة رضي الله عنهم لايغيب عنهم أمثال هذه الأحوال. ولذا حين سار بعض الناس إلى حي من أحياء المدينة وتلا عليهم حكم تحويل القبلة في مسجده تحول المصلون كلهم من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بمجرد سماع خبر الواحد، وإن لم يعلموا تحويل القبلة علما قاطعًا، وما كان خبر الواحد الظني ناسخا للخبر القاطع. ومن هنا صرح علماء الأصول بأن هذا الخبر كان محفوفًا بالقرائن فأنزلوه منزل الخبر القاطع. فالقرائن والآثار التي كانت تشير بصورة قاطعة إلى تحويل القبلة أو تحريم الخمر قريبًا كأنها كانت تطلع الصحابة رضي الله عنهم عن مرضاة الله تعالى قبل نزول الحكم. فلايكون السؤال في هاتين المسألتين عن الأحوال السابقة على نزول الحكم محل استبعاد، وخاصة فيما يتعلق بالخمر، التي كانت الآثار الواضحة على تحريمها في قوله: (وَاِثْـمُهُمَآ اَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا) [البقرة:219]. والله سبحانه وتعالى أعلم.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٩٤
منع في الركوع السابق عن تحريم الطيبات والاعتداء، ثم أمر باجتناب بعض الأشياء المحرمة على الدوام. وهذا الركوع يتضمن اجتناب أشياء غير محرمة على الدوام؛ بل تحريمها مختص ببعض الأحوال والأوضاع، أي الصيد في الإحرام. والمعنى أنه امتحان من الله تعالى مَن يخافه سبحانه بالغيب في الإحرام، ويحذر الصيد وهو بين يديه، ويقدر على قتله أو أخذه بكل يسر وسهولة، ويخشى عقوبة الله تعالى على الاعتداء وهو في الإحرام وسبق بيان قصة أصحاب السبت في سورة البقرة أن الله تعالى منعهم من الصيد يوم السبت خاصة، فاحتالوا و مكروا وعصوا أمره سبحانه، واعتدوا في ذلك. فأنزل الله تعالى عليهم عذابا في منتهى الخزي.
وكذلك امتحن الله تعالى الأمة المحمدية بعض الامتحان بألا يصيدوا حالة الإحرام. وكان الصيد- حين أنزل هذا الحكم في قصة الحديبية –كثيرًا وقريبا جدًّا حتى كان الصحابة يتناولونه بأيديهم ورماحهم؛ و لكنهم أكدوا أنه لايدانيهم أمة في العالم في امتحان الله تعالى واختباره.
فائدة: وراجعوا لكشف ما يتوهم من قوله: (ليعلم الله) من حدوث العلم الإلهي إلى الفائدة المذكورة في قوله: (لنعلم من يتبع الرسول) في أول الجزء الثاني.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ ٩٥
سبق بعض الأحكام الخاصة في أوائل سورة المائدة.
فائدة: معنى قوله: (مُّتَعَمِّدًا) أنه يتذكر كونه محرمًا، وأنه لايجوز الصيد في الإحرام. ولم يتعرض هنا إلا للمتعمد بأنه عقوبة فعله كذا، وزِد عليه ما ينتقم الله تعالى منه، كما نبه عليه بقوله: (وَ مَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّٰهُ مِنْهُ). فإن صاد خطأ فجزاؤه ما سبق، أي الهدي أو الطعام أو الصيام، ثم إن الله تعالى ينتقم منه.
فائدة2: ذهب الحنفية إلى أنه يجب عليه إطلاق الصيد إن أمسكه في الإحرام، فإن قتله، قوَّم أصحاب البصيرة والتجربة من الرجال، ثم يشتري بقدره نعمًا – كالشاة والبقر والإبل مثلا- ويصل به إلى الكعبة أي داخل حدود الحرم ليذبحه بها، ولايأكل منه، أو يتصدق بقيمته على الفقراء لكل واحد منهم مقدار صدقة الفطر، أو يصوم عدل ذلك.
فائدة: أي من أتى ذلك قبل نزول هذا الحكم أو قبل الإسلام، فإن الله لايتعرض له، وإن كان العرب يكرهون الصيد في الإحرام حتى قبل الإسلام. فلم يكن المؤاخذة عليه في غير وجهه بأنه لم أتيتم شيئا يدخل في الجريمة حتى في زعمكم؟
فائدة: أي لايجد جانٍ من الجناة مهربًا من قدرته، كما لايعفو الله تعالى عن الجرائم التي يقتضي عدله وحكمته المعاقبة عليها.
أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ ٩٦ يقول الشاه [عبد القادر] رحمه الله: يجوز في الإحرام صيد البحر أي السمك، وطعامه أي السمك الذي نضب عنه البحر، فمات، ولم يمسكه، أيضًا حلال. قال (مَتَاعًا لَّكُمْ) أي لايظن أحد أنه أحل لهم ببركة الحج. وقال: (وللسيارة) المسافرين جميعًا. وإذا كان السمك في البركة فهو أيضًا من صيد البحر. وهذا حكم الصيد في الإحرام. ويقصد المرء في الإحرام مكة المكرمة، ويحرم الصيد في مكة وما حولها للأبد؛ بل لايجوز إخافته وتنفيره.
مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48
(*) أستاذ الحديث والأدب العربي بالجامعة.