بقلم: الدكتور/ عباس متولي حمادة
إلى المنكرين للسنة، أو العاملين في الظلام ضدها، والناشرين للرسائل المجهولة في ظلمة الليل، أو المستأجرين للأقلام المأجورة، والنفوس الرخيصة، طمعا في النيل منها، وإلى المشككين في رواتها، حرصا على بلبلة الأفكار خوفا من إشعاع هديها، أن يطيح بهم وبأقلامهم.
إليهم بعض الآيات من القرآن الكريم الدالة على وجوب طاعة الرسول ﷺ:
1- قال الله تبارك وتعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾(1).
2- وقال تعالى ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(2).
3- وقال تعالى ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾(3).
4- وقال تعالى ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ﴾(4).
5- وقال تعالى ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَـٔۡذِنُوهُۚ﴾(5).
6- وقال تعالى ﴿فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾(6).
7- وقال تعالى ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا﴾(7).
8- وقال تعالى ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾(8).
هذه الآيات يرى الناظر فيها لأول وهلة أقوى الأدلة على وجوب طاعة الرسول ﷺ، ولا تحتاج إحداها إلى استنباط وجه الدلالة من لازم اللفظ، أو اللفظ غير الصريح أو الإيماء، أو غير ذلك من وجوه الدلالة، إذ أنها كلها تنص بالنص الصريح على وجوب طاعة الرسول ﷺ، أو اتباعه، أو الأخذ بما أتى به، أو التسليم لحكمه أو غير ذلك.
وهذه الآيات دلت على إيجاب طاعة الرسول، وتحريم معصيته، وقد نهجت مناهج شتى في بيان ذلك، إذ تمددت وسائل الوعد والبشارة، والحث الترغيب، والحض على اتباع الرسول وطاعته، كما تعددت فيها أيضا عبارات الوعيد، والإنذار، والتخويف، والترهيب من مخالفته، والخروج عن مقتضى أوامره، وعدم الاستسلام لأحكامه. وهي أيضا في وعيدها على المخالفة لأوامر الرسول ﷺ تسلك في ذلك مسالك متعددة مختلفة، فتارة يهددهم الله فيها بإصابة الفتن، وفي الفتن ما فيها من بلايا ونقم في الدين والدنيا، لا يعرف خطورة التهديد بها إلا من تعرض لها، وطورا يهددهم بإصابة العذاب الأليم، وأخرى يحكم بنفي الإيمان عن الخارجين المارقين الذين لا يستسلمون لحكمه، والله تعالى لا ينفي الإيمان فقط، ولكنه تبارك وتعالى يقسم بربوبيته، وهو قسم – قلما يقسم الله به في القرآن – وإن أقسم به فإنما يقسم لشدة تأكيد المقسم عليه، لبالغ اهتمامه به، وتارة يتوعدهم بما لا يعلم قدره، ومقدار عذابه سواه، لم يحدده بحد ولم يحصره في نوع، ولم يقصره على لون من ألوان العذاب والبلاء؛ بل يطلقه بدون تحديد، كأنما يحمله كل ألوان الهول والنكال، وحتى يذهب فيه المهدد به كل مذاهب التصور. وقال تعالى ﴿وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا﴾.
وكما أخذت الآيات في وعيدها تلك الصور التي تعبر عن غضب الله تعالى القادر، كذلك كانت عبارات الوعد للمطيعين في آيات أخرى متعددة تحكي كل أنواع الرضاء، وتعبر عما يدخره الله للمطيعين لرسوله، المذعنين لأحكامه من ثواب جزيل، فهي تارة تمنيهم بالرحمة، وتارة تعدهم بالهداية، وطورا تعدهم وعدا يتضاءل أمامه كل وعد، وتشتاق النفوس إلى الوصول إليه. قال تعالى ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ﴾. وتارة يطلق الثواب إطلاقا، ويرسله إرسالا ليذهب فيه كل ذاهب مذهبه الذي يحبه، وليفكر كل في لونه ونوعه وماهيته وكنهه، وما هو بمستطيع تقديره قدره، قال تعالى ﴿فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾.
هذا. ولم تقف الآيات عند حد الأمر بالطاعة والثواب عليها، ثم يترك الله للمتدبر فيها أن يستنبط حكم مخالف الرسول، أو المعرض عن اتباعه، فقد يقول قائل إن الله لم ينص على حكم العاصي لأوامر الرسول ﷺ، وقد يتجاوز إنسان الحد فيقول: إن معصية الرسول على البراءة الأصلية لم ينص الله عليها، ولهذا ذكرت الآيات بصريح اللفظ النهي عن معصيته؛ بل بعض الآيات جمع الله فيها بين الأمر بالطاعة، وبين النهي عن المعصية. فقال ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾.
كما لم تقف الآيات عند الأمر بالطاعة للرسول ﷺ والنهي عن معصيته في الأمور التشريعية فقط، بل نصت على أحكام من آداب السلوك العام، يجب اتباعها معه عليه الصلاة والسلام، وهي آداب الانصراف من مجلسه، فقد عالجها القرآن الكريم أيضا، ووضع لها تعاليم، وألزمهم بآداب خاصة معه. قال تعالى ﴿وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَـٔۡذِنُوهُۚ﴾ فقد يرى في وجودهم مصلحة لا يرونها، إذ مجالسه عليه الصلاة والسلام مجالس علم وهداية وتربية، منحهم الله فضلها، وخصهم بفيضها حتى يتعلموا من المعصوم المبلغ عن ربه ما يعدهم لتحمل عبء هذه الدعوة بعده، ونشر رسالته، لأنه خاتم المرسلين، المبعوث للناس كافة، ونصوص الشريعة تنتهي، والوقائع لا تنتهي، وما لا ينتهي لا يضبطه ما ينتهي.
لهذا. دعاهم إلى اتباعه وطاعته، والتعرف على هديه، وملازمة مجالسه، وعدم الانصراف عنها، حتى يأذن لهم بالانصراف؛ لأن وظيفته بيان الكتاب الكريم، والوحي له بالمرصاد يتابعه ويلاحقه، ويبين له ويرشده، وهو فوق ذلك إلهامه وحي، وبيانه هدي، فكان لابد لهم من مجالسته حتى يستطيعوا بعده عليه الصلاة والسلام نشر دينه الذي وعده الله أن يمكنهم به في الأرض، ويستخلفهم فيها، فيكونوا حينئذ بفضل تربية الرسول ﷺ وصحبته أهلا للاستخلاف، وقيادة غيرهم.
فلم كل تلك الرعاية؟ ولماذا كل هذا الاهتمام أمن أجل القرآن الكريم فقط الذي يبلغه الرسول عن ربه؟ كما يقول المنكرون لحجية السنة، وقد حفظوه في صدورهم وكتبوه.
ثم إن تلك الأوامر والنواهي التي ذكرها الله تعالى في الآيات، لا تشير إلى تخصيص القرآن الكريم بالذكر، وما كان الله ليقصر بيانه عن أن يحدد مراده، فيضيف في آية واحدة من الآيات التي أمر فيها باتباع الرسول، ما ينص على أنه يريد القرآن الكريم كأن يقول مثلا: «وما آتاكم الرسول من كلامنا، أو فليحذر الذين يخالفون عن قرآننا، أو من يطع كتابنا.
لكن الله تعالى لم يقل من ذلك شيئا، ولو كان مريدا له لقاله، ولكن الذي أراده بالفعل هو الذي كان في كتابه بالنص على الأمر بطاعة الرسول ﷺ في هذه الآيات وغيرها، وهو لا يشير إلى تخصيص القرآن الكريم بالذكر.
فالآية الأولى: يأمر الله تعالى باتباع أحكام الرسول ﷺ، ويحكم عليهم بعدم الإيمان إن لم يسلموا بها تسليما منبعثا من قلوبهم، لا يخالطه ريب ولا شك؛ لأنهم تحاكموا إليه، فوجب الإذعان له. ثم هو يقسم بربوبيته أنهم لا يكونون مؤمنين إلا إذا سلموا بأحكامه.
على أن المنكرين للسنة يقولون في مثل هذا: إن أحكامه تطاع بوصف أنه إمام لهم، وقاض يحكم في قضاياهم، وهذا قول غير سديد، لأن الله تعالى لم ينص على اتباع أحد كما نص على اتباع هذا الرسول، بل ما رأينا حاكما جعل الله له هذه الطاعة التي اشترط فيها أن تصدر من القلوب، وتخرج من الأعماق، وأي حاكم أو إمام أمة قال الله تعالى في شأنه ما قاله في شأن هذا الرسول الكريم؟ قال تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾(9) بل أي حاكم وصف المتحاكمين إذا تحاكموا إليه أنهم يتحاكمون إلى الله ورسوله. كما جاء في قوله تعالى ﴿وَإِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُم مُّعۡرِضُونَ﴾. وقال تعالى ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ﴾.
لا. فليس هذا للرسول الذي أرسله الله وأيده بالوحي، يلازمه، ويسانده، ويباعد بينه وبين الخطأ الذي ينجم عن زيف الحجج، فتكون أحكامه من الله تعالى، لأنها من الوحي استلهمت، وعنه أقرت.
وفي هذه الآية كلام ذكر في أسباب نزولها لا يتسع المقام لذكره، لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في قوله تعالى ﴿لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ لتأكيد وجوب العلم، ولا يؤمنون جواب القسم، وقيل إنها غير زائدة، وقد نقل الرازي(10) عن الواحدي وجهين في توجيه المعنى على ذلك.
الأول أن «لا» تفيد نفي أمر سبق، والتقدير ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف القسم بقوله «فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك».
الثاني – أنها لتوكيد النفي الذي جاء فيما بعد، لأنه إذا ذكر في أول الكلام، وفي آخره كان أوكد وأحسن. وفي الآية الثانية/يحذر الله تعالى الذين يخالفون عن أمره. «وأمر»/ اسم جنس مضاف، واسم الجنس المضاف من صيغ العموم(11) فيعم كل أمر، والضمير في أمره للرسول ﷺ بدليل السياق في صدر الآية. قال تعالى ﴿لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ﴾ أي لا تقيسوا ولا تشبهوا أوامر الرسول ﷺ بأوامر غيره، لأنه مميز بميزة الرسالة.
وللرسالة قداستها وقدسيتها التي جعلت إرادتنا تقتضي وجوب اتباع أوامره ﷺ. قال الأخفش «عن» صلة زائدة، فيكون المعنى: فليحذر الذين يخالفون أمره، وغيره: ضمن المخالفة معنى الاعراض لتتعدى «بعن» لأن المخالفة فعل متعد بنفسه، وحينئذ لا تكون «عن» زائدة حكاه الرازي(12)، ونقل الآلوسي(13) عن ابن عطية: أن معنى «عن» بعد، والمعنى حينئذ: فليحذر الذين يخالفون بعد أمره، كما يقال: المطر عن ريح، وأطعمته عن جوع.
وسواء كان هذا أو ذلك فالآية بمنطوقها، وبما صاحبها من قرائن منصوص عليها في الآية الكريمة، وأهمها. الوعيد الشديد على المخالفة تمحض الأمر للوجوب، وتقوي من دلالتها على وجوب طاعة الرسول ﷺ إلى أن تجعل الأوامر في معظم ألفاظ الآيات محكمة لا تقبل التأويل، أو التخصيص.
هذا. والباقي من دلالات الآيات سبق لي ذكرها مجملة في صدر هذا المقال. وإني لأرجو أن يعلم كل مسلم علم اليقين أن ما ينشر الآن وما يقال ضد السنة، أو رواتها الفرض منه التخلص من تشريع الله والتحاكم إلى العقل وحده: والعقل مهما سما فنتاجه رأي بشر لا يلبث أن يخبو نوره، ويتبين فساده، فيتسرب الاضطراب والاختلاف بين أبناء هذا الدين وهذا هو كل ما يسعى إليه أعداؤه، منذ أن انتسبوا إليه بعد الفتح الإسلامي إلى الآن ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾.
* * *
الهوامش:
- سورة النساء: 65. (2) سورة النور: 63.
(3) سورة آل عمران: 31. (4) سورة النور: 56.
(5) سورة النور: 62. (6) سورة الأعراف: 158.
(7) سورة النساء: 80. (8) سورة الحشر: 7.
(9) سورة النساء: 65. (10) الفخر الرازي (2693).
(11) الإتقان للسيوطي (2/19).
(12) الفخر الرازي (6/347-348). (13) روح المعاني (18/205).
مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48