بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله (1305-1369هـ/1887-1949م)
تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري(*)
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَٰسِرِينَ ٥٣ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ٥٤
هذه الآية الكريمة تبشر بشارةً عظيمة بالبقاء والحفظ الأبدي للإسلام، والآيات السابقة نهت عن موالاة الكفار، فربما يرتد شخص أو أمة من الإسلام صراحةً من جراء موالاة الكفار، كما نَبَّهَ عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَّتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فَاِنَّه مِنْهُمْ) [المائدة:51]. فنبه القرآن الكريم بمنتهى القوة والصراحة على أن هؤلاء لايضرون بارتدادهم عن الإسلام إلا أنفسهم، ولن يضروا الإسلام شيئًا. فلن يعجز الله تعالى أن يأتي- بدلا من هؤلاء المرتدين أو في مواجهتهم- بقوم، يحبون الله تعالى ويحبهم، يعطفون على أهل الإسلام، وهم أشداء على الكفار. وقد تحققت هذه البشارة – بحول الله تعالى وقوته – في كل قرن. وقامت فتنة الارتداد بعد وفاة النبي ﷺ على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه . فخرج أنواع من المرتدين في وجه الإسلام، إلا أن ما كان عليه أبو بكر الصديق من الحرارة الإيمانية، والتدبر الأعلى، وما قدمه المسلمون المخلصون من التضحيات والخدمات الإسلامية بحب وعشق أعان على إطفاء نار الردة، فوحَّد أبو بكر الصديق كلمة العرب كلهم، وجمعهم على رصيف واحد من الإيمان من جديد وبإخلاص. ونحن نشاهد اليوم أيضًا أن بعض الجهلة الطامعين الجشعين إذا ارتدوا عن الدين وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم، جذب الإسلام إلى نفسه بما فطر عليه المغناطيسية من غير المسلمين المثقفين والمحققين خيرًا منهم وأكثر عددًا. ويقيض الله تعالى لرد شرور المرتدين كثيرًا من المسلمين الأوفياء المخلصين، لايبالون في الله لومة لائم.
فائدة1: من عظم سعادة المرء وأكبر فضل الله عليه أن يستقيم على جادة الحق في الفتنة، ويهم وقاية الناس منها. ويرزق الله تعالى حظًا وافرًا من هذه السعادة الكبرى والفضل العظيم من شاء من عباده. ففضله لاينحصر. وهو أعلم بمن يستحق ذلك من عباده ويتأهل له.
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ ٥٥
شرحت الآيات السابقة موالاة اليهود والنصارى، ومن يجوز موالاتهم؟ وهذه الآية تشرح أن ولي المسلمين الحق هو الله ورسوله، والمخلصون من المؤمنين دون غيرهم.
وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ٥٦
ونظرًا إلى كثرة عدد الكفار، وقلة عدد المسلمين قد تحدث نفس بعض المسلمين من ضعفاء الإيمان وذوي النظرة العابرة السطحية بأن قطع الموالاة من العالم كله، والاكتفاء بولاية عدد من المسلمين، يؤدي إلى تضييق الحياة والبقاء على المسلمين من جراء هجمات الكفار فضلا عن تغلب المسلمين وانتصارهم. فطمأن أمثال هؤلاء بأن لاينظروا إلى قلة عدد المسلمين وعوزهم الظاهر، فإن من كان معه الله ورسوله والمسلمون الصادقون الأوفياء كانت كفته راجحةً. ونزلت هذه الآيات خاصة في الثناء على عبادة بن الصامت رضي الله عنه . فقد كان على صلة ودية وطيدة مع يهود بني قينقاع، غير أنه لم يبال بقطعها بإزاء ولاية الله ورسوله والمؤمنين.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوٗا وَلَعِبٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٥٧
المراد بالكفار هنا المشركون كما يدل عليه العطف.
فائدة1: نهت الآيات السابقة المسلمين عن موالاة الكفار، وهذه الآية أكدت على ذلك بعنوان خاص ومؤثر، وبغَّضت الموالاة. فلاشيء للمسلم أشد تعظيمًا وحرمة من دينه، فقيل له: إن اليهود والنصارى والمشركين يطعنون في دينكم، ويستهزئون به. ويسخرون من شعائر الله (من الأذان وغيره). وأما الساكتون منه فلا تشمئز نفوسهم من هذه الفعلات الشنيعة حين يرونها؛ بل يفرحون بها. والمسلم الذي يرى هذه الأعمال الخرقاء والشنيعة من الكفار، وهو يحمل في قلبه مثقال ذرة من خشية الله تعالى والغيرة الإيمانية لن يرضى لحظة واحدة بموالاة هؤلاء القوم أو الإبقاء على المودة بينه وبينهم. وبغض النظر عن كفرهم وعنادهم وعدائهم للإسلام يشكل استهزاؤهم بالدين القيم واتخاذهم إياه هزوًا سببًا مفردًا بذاته بجانب الأسباب الأخرى لترك موالاتهم.
وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨
أي إذا نودي للصلاة تقلبوا على أشد من الجمر، واستهزؤوا به، مما يعكس نهاية حمقهم، وسفههم. فإن كلمات الأذان تتضمن التعبير عن عظمة الله تعالى وكبريائه، وإعلان التوحيد، وإقرار رسالة محمد ﷺ الذي يصدق الأنبياء السابقين والكتب السماوية، ودعوةً إلى الصلاة التي تجمع بين أوضاع العبودية كلها ومنتهى العبودية، ونداء إلى فلاح الدارين، والنجاح الأعلى، وهل يتضمن الأذان غير ذلك؟ فما الذي يدعو إلى الضحك والاستهزاء. والاستهزاء والسخرية من نداء الصلاح و الحق والصدق هذا ليس إلا حظ من حُرِمَ العقلَ على الإطلاق، ولم يفرق بين الخير والشر. وتفيد بعض الروايات أن بعض النصارى كان إذا سمع في الأذان «أشهد أن محمدًا رسول الله» في المدينة المنورة قال: «حرق الكاذب». وبغض النظر عن نيته بذلك، كان ذلك على وفق حاله تمامًا؛ فقد كان ذلك الخبيث كاذبًا، ويحترق حسدًا على ما يرى من شيوع الإسلام وازدهاره. واتفق أن وليدة دخلت بيته وبيدها حريق، وأهله نائمون، فوقع الحريق عن غير عمد فاحترق أهل البيت وأثاثه كله بالحريق. فأراهم الله تعالى بذلك أن الكاذبين كيف يحترقون بالنار في الدنيا قبل نار جهنم في الآخرة. وصحت قصة أخرى عن الاستهزاء بالأذان وهي أن النبي ﷺ كان قافلا من حنين بعد فتح مكة، وكان في بعض طريقه فأذن بلال رضي الله عنه ، فاستهزأ بعض الغلمان بالأذان وبدؤوا يحكونه، ومنهم أبو محذورة رضي الله عنه. فأمر بإحضارهم. وفي نهاية المطاف ألقى الله تعالى في قلب أبي محذورة الإسلام، ونصبه النبي ﷺ مؤذنًا في مكة. فأصحبت الحكاية واقعًا وحقًا.
قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلَّآ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَٰسِقُونَ ٥٩
يرجع الاستهزاء والطعن في عمل من الأعمال إلى أمرين: إما أن يكون العمل مما يستحق الاستهزاء أو كان الفاعل في وضع يحمل على الاستهزاء. فشرحتِ الآية السابقة أن الأذان ليس مما يستهزئ به ويطعن فيه إلا من سفه نفسه، وخف عقله. وهذه الآية الكريمة تنبه على الأحوال المحترمة للمؤذنين في صورة السؤال، أي ليمعن المستهزئون – خاصة وهم أهل كتاب وعلماء الشرائع- النظر و لينصفوا: ما الذي حملهم على هذا العداء الشديد للمسلمين؟ وما الذي ينقمون من المسلمين مما يرونه يستحق الاستهزاء غير أنهم – المسلمين- يؤمنون من أعماق قلوبهم بالله وحده، وما أنزله من الكتب، و من بعثهم من الرسل والأنبياء؟ وإذا نظرنا في أحوال المستهزئين وجدناهم غير ثابتين على التوحيد الحق لله تعالى، وتصديق الأنبياء والرسل وإكرامهم. فقل لي: كيف يستحق الموغلون في عصيان الله تعالى الاستهزاءَ بمن يطيعون الله تعالى، والطعنَ فيهم والتشنيعَ عليهم؟
قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ٦٠
أي إذا كانت الاستقامة على الإيمان بالله تعالى، وتصديقُ ما أنزل الله تعالى في زمن من الأزمان من أعماق القلب هو أعظم ما تنقمونه من المسلمين، وأشد جرائمهم، ومن أجل ذلك تطعنون فيهم، و تلومونهم، فهيا نُطلعكم على أمة هي أخبث خلق الله تعالى لشرها و رجسها، و يتجلى أثر لعنة الله وغضبه عليها ليومنا هذا، وقد جُعِلَ عددٌ كبيرٌ منهم قردة وخنازير عقوبة على مكرهم، و وقاحتهم، وحرصهم على الدنيا، أمةٍ آثرت عبودية الشيطان على عبودية الله تعالى. فهذه الأمة – وهي شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل- تستحق الطعن والاستهزاء من قبلِكم، و هم أنتم.
وَإِذَا جَآءُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِٱلۡكُفۡرِ وَهُمۡ قَدۡ خَرَجُواْ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكۡتُمُونَ ٦١
ولعل المراد بالإثم الذنب القاصر، وبالعدوان الذنب المتعدي. أي هؤلاء يتسابقون بنهمٍ وشوقٍ كبيرين إلى المعاصي كلها، سواء اقتصر أثرها على أنفسهم، أو تعدى إلى غيرهم. وهل يشك أحد في شرِ من نزلوا إلى هذا الحضيض في أخلاقهم وعاداتهم، وتعودوا أكل الحرام؟ هذا ما عليه عامتهم، وأما خاصتهم فشرحت حالهم الآية التالية:
لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ٦٣
إذا أراد الله تعالى إهلاك أمة ولغ عامتها في الذنوب والمعاصي، ويعود خاصتها أي الدراوشة والعلماء شياطين صمًا. وهذا ما صار إليه بنو إسرائيل، فقد وقعت عامة الناس في ملذات الدنيا، وشهواتها، وغفلوا عن عظمة الله تعالى وجلاله وقوانينه وأحكامه ونسوها. وأما من كانوا يسمون مشايخ وعلماء، فقد أمسكوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنهم كانوا فوق عامتهم في الحرص على الدنيا و اتباع الشهوات. وحالت مخافةُ الخلق أو الحرص على الدنيا دون رفع صوت الحق. وهذا الإعراض و المداهنة مما صار بالأمم السابقة إلى هوة الهلاك. ومن هنا حذر ما لايحصى من نصوص الكتاب و السنة الأمة المحمدية من الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكدت عليه تأكيدات شديدة.
وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٦٤
بعث النبي ﷺ، وقد مسخت قلوبُ أهل الكتاب لولوغهم في الشر والكفر والطغيان والفسق وأكل الحرام وغيرها مسخًا جعلهم لايتحاشون حتى عن الإساءة إلى الله تعالى. ولم تعد منزلة الله تعالى عندهم أكثر من بشر عادي. وكانوا يتفوهون بكل بساطة بالكلمات الساقطة التي تقشعر منها جلود البشر. فقالوا حينًا: (اِنَّ اللَّهَ فَقِيْرٌ وَّنَحْنُ اَغْنِيَاءُ) [آل عمران:181]، وتفوهوا حينا آخر بـ(يَدُ اللَّهِ مَغْلُوْلَةٌ) [المائدة:64]، والمراد به هو ما أرادوه بقولهم: (اِنَّ اللَّهَ…)، من أن الله تعالى قد ضاقت يده، ولم يبق شيء في خزانته، أو كنوا بغُلِّ اليد عن البخل والإمساك، أي أن يده لم تضِقْ عن الإنفاق غير أنه أصبح يبخل في هذه الأيام (العياذ بالله). وعلى أي المعنيين حملته كان الغرض من وراء كلمة الكفر هذه أن الله تعالى لما سلَّط على هؤلاء الملعونين الذلة والمسكنة وضيق العيش والبؤس بسبب تمردهم وطغيانهم، فربما قالوا في أنفسهم: نحن أبناء الأنبياء والرسل؛ بل أبناء الله وأحباؤه، فما الذي جعل بني إسماعيل يسود أمرهم. وقد وسعت عليهم الفتوحات الأرضية والبركات السماوية، و نحن – بني إسرائيل الذين هم لله تعالى، وهو لهم- نعاني الذل والهوان والتشريد. وألسنا بني إسرائيل أولئك؟ ولانزال (نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُ) [المائدة:18]، كما كنا من قبلُ، ولكن يبدو أن الله – الذي كنا نحن أحباءه- قد انتقصت خزائنه أو أن البخل والإمساك مما غَلَّ يده عن الإنفاق؟.
ولم يدر هؤلاء الحمقى أن الله تعالى خزائنه لاتعد ولاتحصى، وأن كمالاته لاتتغير ولا تتبدل، ولاتنتهي عند حد. فلو لم يكن في خزائنه شيء أو يكون قد أمسك يده عن تربية الخلق ومعونته- والعياذ بالله منه- كيف جاز أن يستقيم نظام العالم هذا؟ ومن ذا الذي تكرم بهذا الرقي والازدهار على النبي ﷺ وأصحابه، مما ترونه بأم أعينكم؟ فاعلموا أن يده غير مغلولة، غير أن لعنة الله التي نزلت عليكم من جراء إساءاتكم وشروركم، قد ضيقت عليكم أرض الله تعالى على رحبها، وستزداد أرضه عليكم ضيقا في الأيام اللاحقة. ومن منتهى سفهكم أن تنسبوا بؤسكم إلى ضيق يد الله تعالى.
فائدة: هذه بشارة في صورة الدعاء، أو أنه إخبار عن واقع حالهم، فقد غلَّ البخل والجبن أيديهم على الإطلاق في هذه القصة.
فائدة: حيث ورد من صفات الله تعالى اليد والرجل والعين ونحوها لايخطرن على بالكم أن الله له – والعياذ بالله- جسم وأعضاؤه على شاكلة الخلق؛ بل كما لايجوز شرح ذات الله تعالى ووجوده وحياته وعلمه ونحوها من الصفات الكاملة بنظيرٍ أو مثالٍ أو كيفيةٍ سوا أن نقول: يا من يفوق الخيال والقياس والوهم، وكل شيء قلناه وسمعناه وقرأناه، انتهت السجلات كلها، وانتهت الأعمار. وقِس عليه هذه النعوت والصفات أيضًا. والحاصل أن ذاته تعالى لايجوز النقاش فيها كذلك معاني نعوته وصفاته من سمعه وبصره ويده يجب أن تكون على مايليق بذاته ومكانته القدسيــة، وهي وراء وراء كيفنا وكمنا و شرحنا وبياننا.(لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ) [الشورى:11]، وقال الشيخ عبد القادر في فوائد هذه الآيات: المراد باليدين هنا يد الحب ويد القهر. أي أن يد حب الله تعالى على الأمة المحمدية، ويد قهره على بني إسرائيل في هذه الأيام، كما تشير إليه الآيات التالية.
فائدة: أي هو أعلم بالإنفاق وقته وقدره ووجهه، فربما يبلي بعض أوفيائه بالضيق والعسر اختبارًا له أو إصلاحًا، وقد يفتح عليه أبواب البركات الدنيوية قبل نعماء الآخرة جزاء على وفائه وإخلاصه. وعلى العكس من ذلك قد يعاقب بعض الجناة المتمردين بالعسر وضيق العيش والمصائب والآفات قبل عذاب الآخرة. وأحيانًا يوسع عليه أسباب العيش في الدنيا، ويستدرجه، ليستحيي من فسقه وفجوره إذا نظر إلى نعم الله تعالى عليه أو يملأ كاس شقوته، فيستحق نهاية العقوبة. ومع توفر هذه الأحوال والأغراض المختلفة، والحكم المتنوعة لايمكن القطع بقبول أحد أو رده إلا بإخبار الله تعالى أو بالقرائن والأحوال الخارجــــــة، كما أن قطع يد السارق، وقطع الطبيب يدَ المريض ندرك الفرق بينهما بالأحوال الخارجة والقرائن بأن أحدهما عقوبة والآخر رحمة به وعلاج له.
فائدة: تم الرد على وقاحتهم، ولكن ردود القرآن الكريمة الحكيمة هذه قد لاتقنع المعاندين والسفهاء؛ بل ربما يزدادون شرًّا وإنكارًا حين يسمعون كلام الله تعالى. فإن الغذاء الصالح إذا كان يزيد المريض مرضًا حين يصل إلى معدته، فليس الذنب لهذا الغذاء، وإنما الفساد في طبيعة المريض.
فائدة: رغم أنه نقل عما قريب قول اليهود خاصة، ولكن المراد بقوله (ألقَينَا بَينَهُمْ) هم وأهل دينهم، أي ذكر أحوال اليهود والنصارى جميعًا، كما سبق في هذه السورة وسيأتي الخطاب لجميع أهل الكتاب في الآية التالية أيضًا. والمعنى: كلما يزدادون شرًّا وإنكارًا يزدادون نسجًا للمؤامرات والدسائس ضد الإسلام والمسلمين، ويستعدون لإشعال نار الحرب غير أن الخلاف والشقاق قد دب إليهم، مما لايمحي أبدًا. فلم تفلح مساعيهم الحربية ضد المسلمين.فائدة: فعلم منه أن مساعي أهل الكتاب ودسائسهم لن تفلح ضد المسلمين ماداموا متماسكين بالحب والمودة والأخوة بينهم، وساروا على طريق الرشد والصلاح، وتجنبوا الفتن والفساد، كما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.
(*) أستاذ الحديث والأدب العربي بالجامعة.
مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47