بقلم:  الدكتور / أحمد الشرباصى

         من الأقوال المأثورة: «إن الله قد يضع سره في أضعف خلقه».

         والمثل العربي يقول: «إن لله جنودا منها العسل».

         وخير من هذا وأجمل قول الحق جل جلاله: ﴿وَلِلَّهِ ‌جُنُودُ ‌ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾. وقوله سبحانه: ﴿وَمَا ‌يَعۡلَمُ ‌جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ﴾.

         وفي ضوء هذه الكلمات المضيئة نفهم أن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة تؤيدها عناية الله تبارك وتعالى، فإذا قوة الضعف تهد الجبال، وتحير الألباب.

         وقد نتساءل في هذا الباب – على سبيل المثال – فنقول: بم أهلك الله الجبابرة الطغاة الكافرين من أهل سبا، حينما وهبهم جنتين عن يمين وشمال، وقال لهم: ﴿كُلُواْ ‌مِن ‌رِّزۡقِ ‌رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ﴾. ولكنهم طغوا بكفرهم، وتباهوا بقوتهم، فماذا كانت النتيجة؟: ﴿‌لَقَدۡ ‌كَانَ ‌لِسَبَإٖ ‌فِي ‌مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ ١٥ فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ «أي المطر الشديد» وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ ١٦ ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْۖ وَهَلۡ نُجَٰزِيٓ إِلَّا ٱلۡكَفُورَ١٧﴾.

         فكان المطر – وهو قطرات ماء رقيق سائل – سبب الهلاك والدمار، وجعل الله عز شأنه من الشيء الضعيف الرقيق المنساب قوة قوية مدمرة لأهل البغي والطغيان.

         وحينما جاء أبرهة الأشرم يتحدى يرغي ويزبد مهددا بجبروته وجنوده العرب، منذرا بهدم الكعبة، ومعه الفيلة الضخمة الغليظة التي لا تعرفها العرب ولم تألفها، حتى خاف أهل مكة فتركوها واعتمصوا بالجبال والشعاب، أظهر الله قوة في الضعف، وجعل السبب الضعيف الضئيل سببا وسلاحا للقضاء على الجيش العرمرم الجرار، ولم يرسل الله لإهلاك الفيلة حيوانات ضخمة مثلها، ولا ما يقاربها؛ بل أرسل عليها الطير الأبابيل.

         ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ ١ أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٖ ٢ وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ ٣ تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ ٤ فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ٥﴾ أي كتبن أكلته الدواب وتطايرت بقاياه.

         وهذا (لوط) عليه السلام، يتعرض لموقف الضعف والشدة، حيث يهجم عليه اللئام الفاسقون من قومه، يريدون الاعتداء الوضيع على ضيوفه من ملائكة الرحمن، ويتطلع لوط، يبحث عن ناصر أو معين، فيجد كل اللئام يقفون ضده فيقول كأنه يرجو إغاثة ونجدة ﴿قَالَ ‌لَوۡ ‌أَنَّ ‌لِي ‌بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡنٖ شَدِيدٖ٨٠﴾.

         وجاء الجواب من ملائكة الرحمن ﴿قَالُواْ ‌يَٰلُوطُ ‌إِنَّا ‌رُسُلُ ‌رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ﴾ واختار الله تعالى أن يكون تدميره لهؤلاء ولوطنهم بقطع من الحجارة الصغيرة المطبوخة بالنار، وهي حجارة متتابعة مسومة، أي معلمة للعذاب فتجلت منها القوة: قوة الضعف ﴿‌فَلَمَّا ‌جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ ٨٢ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ٨٣﴾، ﴿فَأَخَذَتۡهُمُ ‌ٱلصَّيۡحَةُ مُشۡرِقِينَ ٧٣ فَجَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٍ ٧٤ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡمُتَوَسِّمِينَ ٧٥ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٖ مُّقِيمٍ ٧٦ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ٧٧﴾.

         وأمر «عاد» قوم هود غير بعيد من أمر قوم لوط، فإذا كان هلاك قوم لوط قد تم بقطع صغيرة متوالية من الحجارة، فقد تم إهلاك عاد بالهواء بريح صرصر عاتية. «لها صوت من شدتها» ﴿سَخَّرَهَا ‌عَلَيۡهِمۡ ‌سَبۡعَ ‌لَيَالٖ ‌وَثَمَٰنِيَةَ ‌أَيَّامٍ ‌حُسُومٗاۖ﴾ (مشؤومات) ﴿فَتَرَى ‌ٱلۡقَوۡمَ ‌فِيهَا ‌صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِيَةٖ ٧ فَهَلۡ تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِيَةٖ﴾.

         وأمر قوم نوح غير بعيد من أمر عاد؛ فقد هلك قوم نوح بالماء ﴿فَكَذَّبُوهُ ‌فَأَنجَيۡنَٰهُ ‌وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ﴾.

         وأمر فرعون وقومه غير بعيد من أمر قوم نوح؛ فقد أغرق الله الطاغية بالماء ومعه أتباعه ﴿فَٱنتَقَمۡنَا ‌مِنۡهُمۡ ‌فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ﴾. ﴿فَأَتۡبَعَهُمۡ ‌فِرۡعَوۡنُ ‌بِجُنُودِهِۦ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ ٧٨ وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ﴾.

         وهذا هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، يخلق له ربه من الضعف قوة، ومن القلة كثرة، ومن الفقر غني وثراء ﴿أَلَمۡ ‌يَجِدۡكَ ‌يَتِيمٗا ‌فَـَٔاوَىٰ ٦ وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ ٧ وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغۡنَىٰ﴾.

         لقد كان فردًا فصار أمة، وكان أميا فعلَّم الملايين، وكان قليل المال فصار بالله أغنى الأغنياء، وما زال صلوات الله وسلامه عليه، يلتمس الغنى في الفقر والقوة في الضعف، حتى أوتي من عزيمته وعزمه، ما زعزع به أركان الأكاسرة والقياصرة ﴿وَكَانَ ‌فَضۡلُ ‌ٱللَّهِ ‌عَلَيۡكَ ‌عَظِيمٗا﴾.

         ولعل الله تبارك وتعالى قد أشار إلى قوة الضعف، حين اختار الحمامة الأليفة الضعيفة – كما تقول بعض روايات السيرة – لتكون حارسة على باب الغار الذي لجأ إليه الرسول حين اختفى عن عيون المشركين، وهو في طريقه مهاجرًا من مكة إلى المدينة، كما اختار العنكبوت – إن صحت الرواية – ليكون معوانًا للحمامة في هذه الحراسة، وكانت الحمامة الرقيقة النحيلة، مع خيوط العنكبوت الهشة الوانية، سببًا في تعمية المشركين حتى لا يبصروا الرسول وصاحبه حين اختفيا في الغار.

         وفي داخل الغار كان هناك مشهد أروع وأمتع لقوة الضعف، فهذا أبو بكر رضي الله عنه، يخاف على الرسول  ﷺ  من سفه الشرك وبغي المشركين، ويقول: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا، فإذا القوة العارمة المؤمنة، تتجلى من الرسول في موقف الشدة والضعف»، فيقول «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا».

         ويؤيد صوت السماء رجاء النبوة، فيتنزل قول الحق ﴿إِلَّا ‌تَنصُرُوهُ ‌فَقَدۡ ‌نَصَرَهُ ‌ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ٤٠﴾.

         وتأتي غزوة بدر الكبرى، ويخرج نحو ثلاث مئة من المؤمنين ليلاقوا نحو ألف من الكافرين، ويشاهد الرسول فقر المسلمين وضعفهم وجوعهم وقلتهم، فيدعو ربه قائلا عنهم «اللهم، إنهم حفاة فاحملهم، اللهم، إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض».

         ويستجيب قيوم السماوات والأرض لرجاء الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- فيخلق من الضعف قــــوة ومن القلــــــــة كثـــــــــــــــرة، ومــن الجوع شبعًا، فإذا الضعاف ينتصـــــــــــرون على الأشــــــــــــــــداء ﴿وَلَقَدۡ ‌نَصَرَكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ﴾، – ﴿‌وَٱذۡكُرُوٓاْ ‌إِذۡ ‌أَنتُمۡ ‌قَلِيلٞ ‌مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ٢٦﴾.

         وهذا هو المكفوف يفقد بصره وفقدان البصر لون من النقص، ولكن الله جل جلاله يجعل من هذا الضعف قوة فيعوض صاحبه ما يجعله في حصانة وبراعة، وكم في المكفوفين من عبقريات تجلت فأدهشت ولو رجعنا إلى كتاب «في عالم المكفوفين»، لرأينا العجائب بعد العجائب في هذا المجال، وهذا هو «أحمد شوقي» يخاطب سلطان مصر منذ عشرات من السنين، في شأن المكفوفين في الأزهر الشريف، فيقول له كالموجه المرشد:

         نظرًا وإحسانًا إلى عميانه

وكن المسيح مداويًا ومجبرًا

         والله ما تدري لعل كفيفهم

يومًا يكون أبا العلاء المبصرا

         لو تشتريه بنصف ملكك لم تجد

غبنا، وجل المشتري والمشترى

         وليس هذا الحديث الذي تقدم عن «قوة الضعف» دعوة إلى الرضا بالضعف، أو السكوت عليه؛ بل هو دعوة إلى استشعار القوة حتى في حالة الضعف، دعوة إلى التدثر بالرجاء والمل، حتى في مواطن الشدة والبأس، ودعوة إلى بذل الجهد في أي حالة، وعلى أي وضع، ودعوة إلى اليقين بأن الله قادر على أن يجعل من الضعف قوة ما دام الإنسان يجاهد بقدر ما يستطيع ﴿وَأَعِدُّواْ ‌لَهُم ‌مَّا ‌ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾.

*  *  *

         وإذا كنا قد حدثنا عن «قوة الضعف» فلنتحدث عن «ضعف القوة»، وإذا كنا قد رأينا أن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة تؤيدها عناية الله، وضربنا على ذلك الأمثال فإننا نستطيع أن نرى كيف تتداعى القوة القائمة على غير أساس سليم، أو على مبدأ قويم، فإذا هي تتحطم وتنهار ﴿وَٱللَّهُ ‌غَالِبٌ ‌عَلَىٰٓ ‌أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾.

         وهذا مثلا هو «الشيطان»، وهو القوة الممثلة للشر والإثم والانحراف أنه يختال بجنوده، ويغتر بأتباعه، ويزهو بمكره وكيده، ولكن هذا الطغيان يصبح أمام الإيمان واهيًا ضعيفًا، والله جل جلاله هو الذي يقرر ذلك، فيقول ﴿ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌يُقَٰتِلُونَ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّـٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾.

         وهذا هو فرعون، الذي طغى وبغى، وكان في الأرض عاليًا من المسرفين، والذي تأله في الأرض، ﴿فَكَذَّبَ ‌وَعَصَىٰ ٢١ ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ ٢٢ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ٢٣ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ٢٤﴾ فماذا كانت العاقبة؟ تحول التأله ذلا، وانقلبت القوة ضعفا، ﴿فَأَخَذَهُ ‌ٱللَّهُ ‌نَكَالَ ٱلۡأٓخِرَةِ وَٱلۡأُولَىٰٓ ٢٥ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰٓ٢٦﴾. ولم يستطع فرعون الطاغية ومن روائه أشداء قومه أن يدفعوا عن أنفسهم الأذى، حتى ولو كان في صورة أرق الأشياء وهو الماء.

         وهذا هو «قارون» المغرور بنفسه، المبهور بقوته في الحياة، وكثرة ثروته بين الناس ﴿إِنَّ ‌قَٰرُونَ ‌كَانَ ‌مِن ‌قَوۡمِ ‌مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ٧٦﴾.

         وجاءته الموعظة العادلة الفاضلة الهادية إلى خيري العاجلة والآجلة ﴿‌وَٱبۡتَغِ ‌فِيمَآ ‌ءَاتَىٰكَ ‌ٱللَّهُ ‌ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ٧٧﴾.

         ولكن قارون لم يسمع ولم يستجب، فهو غارق هناك في أمواج خيلائه، وطوفان كبريائه فهو يتباهى بقوته وعلمه ويغتر بثروته وماله، ويظن أنه بهذا يستعصم على الضعف، ويتأبى على الانكسار ناسيًا أن الله جل جلاله قادر على أن يبطش به كما بطش بمن هو أقوى وأطغى ﴿‌قَالَ ‌إِنَّمَآ ‌أُوتِيتُهُۥ ‌عَلَىٰ ‌عِلۡمٍ ‌عِندِيٓۚ أَوَلَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٧٨ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ ٧٩ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ٨٠﴾.

         فماذا كان المصير؟…

         انقلب العز ذلا والغنى فقرًا، والقوة ضعفًا ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ ‌وَبِدَارِهِ ‌ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ ٨١ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٢ تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ٨٣﴾.

         هؤلاء هم قوم إبراهيم عليه السلام، يسرفون على أنفسهم وعلى الناس، فيسعون في الأرض فسادًا، ويعبدون من دون الله عز شأنه ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يجديهم النصح والتوجيه شيئا، ويعطيهم نبي الله إبراهيم درسًا بليغًا في أن الأصنام لا تدفع عن نفسها شرًّا، فكيف تدفع قليلا أو كثيرا عن غيرها، وهنا يثور الأقوياء الأشداء السفهاء لكرامتهم المهضومة وعزتهم المزعومة، ويجتمعون في طغيان وبهتان، ويقررون أن يعصفوا بالنبي الوحيد الفريد الأعزل، ويختارون للخسف به أقسى أنواع العذاب وهو الإحراق بالنار، جزاء له على تحطيمه أصنامهم وسخريته بضلالهم:

         ﴿‌فَجَعَلَهُمۡ ‌جُــذَٰذًا إِلَّا كَبِــيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡــهِ يَرۡجِعُونَ ٥٨ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٥٩ قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ ٦٠ قَالُواْ فَأۡتُواْ بِهِۦ عَلَىٰٓ أَعۡيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡهَدُونَ ٦١ قَالُوٓاْ ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُ ٦٢ قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ ٦٣ فَرَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوٓاْ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٦٤ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَـٰٓؤُلَآءِ يَنطِقُونَ ٦٥ قَــالَ أَفَتَعۡبُــدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يَضُرُّكُمۡ ٦٦ أُفّٖ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُـدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ٦٧ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوٓاْ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ٦٨﴾.

         فماذا كان صنع الله القوي المتين؟

         جعل الشـــــــــــدة هوانا وأحال القوة ضعفا، ومن خلال النار المحرقة المهلكة بعث الله السلام والنجــاة ﴿قُلۡنَا ‌يَٰنَارُ ‌كُونِي ‌بَرۡدٗا ‌وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ ٦٩ وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِينَ٧٠﴾.

         وهذا هو «النمرود بن كنعان»، الملك الجبار المتمرد، الذي ادعى الربوبية وحاجّ إبراهيم في ربه وقال في شأنه القرآن الكريم: ﴿أَلَمۡ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ٢٥٨﴾.

         فماذا يصنع القدر مع ذلك الذي بغى وطغى، وتجبر وعتا، وآثر الحياة الدنيا واغتر؛ لأنه أحد الأربعة الذين قالوا: إنهم ملكوا العالم وهم ذو القرنين وسليمان والنمرود، وبختنصر؟!

         اختار الله لإهلاكه وإهلاك جنوده حشرة ضعيفة ضئيلة هزيلة، هي البعوضة. يقول التاريخ «فأرسل الله عليهم ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس فسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم وتركتهم عظاما بالية» ودخلت بعوضة أنف النمرود، فعذبه الله بها، وجعل يضرب رأسه بالمطارق لكي تموت البعوضة أو تخرج من أنفه، ولكنها ظلت تذيقه العذاب ألوانا حتى مات الجبار ذو الأسباب ميتة الكلاب وما أضعف قوة المخلوق أمام سلطان الخالق ﴿أَلَا ‌لَهُ ‌ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٥٤﴾.

         هؤلاء هم أهل الكفر والضلال يعدون في الدنيا بالملايين بعد الملايين وعندهم طاقاتهم وقدراتهم ولديهم أمــــــــوالهم وثــــــــرواتهم ولهم جبروتهم وقــــــــد كفـــــــروا بربهم، وتمـــــــــردوا على خالقهم وعبدوا من دونه ما عبدوا من أصنام وأوثان؛ ولكن الله جل جلاله يذل اغترارهم ويحطم قوتهم ويتحداهم أن يسخروا كل أسبابهم لإيجاد حشرة ضعيفة هزيلة ﴿‌يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌ضُرِبَ ‌مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ ٧٣ مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٧٤﴾.

         والخطاب هنا لجميع الناس أبيضهم وأسودهم، وعربهم وعجمهم، والتحدي موجود حتى مع اجتماعهم وتضامنهم «ولو اجتمعوا له»، وموضوع التحدي من أضعف المخلوقات وأصغرها. والتحدي هنا نوعان: إما أن يخلقوا ذبابة وإما أن يستردوا من الذبابة شيئا أخذته منهم وما هم بفاعلين ﴿ضَعُفَ ‌ٱلطَّالِبُ ‌وَٱلۡمَطۡلُوبُ﴾. وفي الحديث القدسي يقول الحق جل جلاله: «فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة».

         وهذه الذبابة الضعيفة يعطيها الله من الحيلة والوسيلة ما تقلق به الأشداء وتضايق به الأقوياء. ولقد روي عن أحد الخلفاء العباسيين أنه كان جالسا في قصره فوقعت على وجهه ذبابة فطردها فطارت ثم عادت فوقعت على وجهه. فطردها فطارت ثم عادت فوقعت على وجهه، وظل الأمر كذلك حتى غضب الخليفة وتضايق، وهنا.. دخل عليه أحد العلماء فسأله الخليفة: لماذا خلق الله الذباب؟!

         وكأنما أحس العالم بما كان هناك فأجاب قائلا: لقد خلق الله الذباب ليذل به الجبابرة أمير المؤمنين..

         ليس هذا الحديث عن «ضعف القوة» تنفيرًا من القوة أو تزهيدًا في الشدة والتماسك أو دعوة إلى الضعف؛ لأن الإسلام يدعو إلى كل أنواع القوة الفاضلة ﴿وَأَعِدُّواْ ‌لَهُم ‌مَّا ‌ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ ولكنا نريد القوة القائمة على الإيمان والعدل والخضوع لسلطان الله عز وجل ﴿خُذُواْ ‌مَآ ‌ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ﴾ ونريد القوة العادلة المتعادلة ﴿‌مُّحَمَّدٞ ‌رَّسُولُ ‌ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ﴾.          يا أهل الإيمان لا تخافوا قوة البغي في الأرض فمن فوقها قوة السماء، لا تهابوا الأقوياء السفهاء من الناس فإن ثباتكم في وجوههم مع رضى الله عنكم كفيل بأن يحطم بنيانهم ويهدم كيانهم، ويأتي عليهم من القواعد ﴿لَا ‌يَغُرَّنَّكَ ‌تَقَلُّبُ ‌ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ١٩٦ مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ١٩٧﴾ انتزعوا من ضعفكم قوة تحيل قوة عدوكم ضعفًا، اعتصموا بحبل ربكم يجعل لكم من أمركم فرقانًا وينصركم نصرا مبينًا.

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts