بقلم: الدكتور / أحمد الحوفي
ليس من شك في أن قضية القضاء والقدر قضية قديمة غامضة، شغلت كثيرًا من المفكرين على اختلاف أديانهم، وتباين نزعاتهم، ولم يهتد فيها أحد إلى رأي حاسم، تطمئن إليه النفوس جميعًا..
ولست أزعم أنني في هذه العجالة سأبلغ ما لم يبلغوه، ولا أني سأعرض القضية كلها مفصلة مسهبة، وأناقش الآراء والمذاهب المتشعبة فيها، بل إني سأعتمد على التركيز وعلى الأصول العامة، مقتصرًا على إبطال الفرية التي افتراها علينا نحن المسلمين فريق من أعدائنا، إذ زعموا أن تخلفنا الأخير راجع إلى عقيدتنا في القضاء والقدر.
ويقتضي الموضوع أن أمهد له بعدة قضايا:
1- القدر (بفتح الدال وسكونها) هو التقدير، أي تدبير الشيء قبل وقوعه، والعلم به وبحالاته التي سيقع عليها.
وقدر الله تعالى هو علمه الأزلي بالأشياء والأحداث وزمانها ومكانها وأحوالها ومقاديرها وكل ما يتصل بها من وجود وفناء، وصلاح وطلاح، وكبر وصغر، وقوة وضعف، وجمال وقبح، ما شاكل هذا، فلا تقع إلا مطابقة لعلمه.
قد يطلق القدر على القوانين التي أودعها الله في الكائنات، لتسير على مقتضاها الأحياء، ولتخضع لها الجمادات، كرسوب بعض المواد في الماء، وطفو بعضها فوقه، وتمدد المعادن بالحرارة، وتبخر الماء بالتسخين، وتجمد السوائل بالبرودة.
أما القضاء فهو الخلق والتفصيل والتنفيذ.
لهذا ذهب الغزالي إلى أن القدر أعم من القضاء، لأن القدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر، والقضاء هو الخلق، وقال: إن تدبير الأوليات قدر، وإن سوق تلك الأقدار بهيئاتها ومقاديرها إلى مقتضياتها هو القضاء، ومعنى هذا أن القدر تقدير الأمور بدءًا، والقضاء هو فصلها وقطعها، كما يقال: قضى القاضي، أي فصل الحكم وقطعه وفرغ منه.
روى بعض أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد قال: كنت عنده فقلت في كلامي: ما شاء الله وأراد وقضى وقدر، فقال: أخطأت، إنما هو ما أراد الله وشاء وقدر وقضى، إن الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئا شاءه، فإذا شاءه قدره، فإذا قدره قضاه، فإذا قضاه أمضاه.
وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا مر بحائط مائل أو بهدف أسرع المشي، فقيل له يا رسول الله أتفر من قضاء الله..؟ فقال: أفر من قضائه إلى قدره.
أي أفر من الشيء قبل أن يقع فيصير قضاء فصلا إلى ما قدر ولم يفصّل، فإن الله يزيله عني ويغيره ويمحوه، وهو عز وجل قادر على ذلك.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن القدر فقال: الناس فيه على ثلاث منازل: من جعل للعباد في الأمر مشيئة فقد ضادّ الله في أمره، ومن أضاف إلى الله شيئا مما تنزه عنه فقد افترى على الله افتراء عظيما، ورجل قال: إن رحمت فبفضل الله، وان عذبت فبعدل الله، فذاك الذي سلم له دينه ودنياه جميعا، ولم يظلم الله في خلقه، ولم يجهله في حكمه.
والآيات القرآنية كثيرة في إثبات قدر الله، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا﴾، وقوله جل وعلا: ﴿أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ﴾، وقوله جل ثناؤه: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَوۡلَآ أَجَلٞ مُّسَمّٗى لَّجَآءَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ﴾، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ﴾.
2- أرأيت إلى المهندس الخبير الحاذق الذي اخترع آلة استقل هو بصنعها، كيف يعلم تفصيل أجزائها، وكيف يعلم طريقة عملها وسيرها، وكيف يعرف مقدار قوتها ومدى صلاحيتها..؟
أرأيت إلى صانعي الأقمار الصناعية والصواريخ الدوارة والموجهة كيف يعلمون علم اليقين اتجاهها وسرعتها والمناطق التي ستمر بها، ويحددون أزمان مرورها على المدن والأصقاع، وكيف يعرفون ما شاكل ذلك معرفة دقيقة يندر أن يتخلف بعضها..؟
فكيف ينكر عاقل أن الله سبحانه وتعالى وهو الخلاق العظيم والعليم البصير يعزب عن علمه شيء مما في السموات والأرض..؟
لا عجب إذن في أننا نعتقد اعتقادا جازما راسخا أن بارئ الكون ورب الكاشفين والمخترعين يعلم أزلا علما لا يتغير، ويقدر تقديرا لا يتبدل. وإذا كان من صفات علم الإنسان أنه قاصر ومحدود فإن من صفات علم الله أنه لا حدود له ولا قصور فيه، لأنه العلم العام الشامل الكامل.
كذلك يتصف العلم الإنساني بأنه لا يتعلق إلا بالأشياء الموجودة، لأنه نتيجة لها وأثر من آثارها، أما العلم الإلهي فإنه يشمل حاضرها ومستقبلها، شاهدها وغائبها، لأنه السبب في وجودها.
فالله سبحانه وتعالى يعلم الأسباب والمسببات، يعلم الأشياء والأحداث ويعلم آثارها ونتائجها علما أزليا خاصا به وحده.
لهذا كان علم الغيب مقصورًا على الخالق سبحانه، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ٥٩﴾ وقال جل وعلا: ﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾.
وبديهي أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يعرف حقيقة علم الله تعالى للأشياء المستقبلة؛ لأن هذا العقل عاجز عن معرفة حقيقة الذات العلية، فمن الطبيعي أن يعجز عن معرفة صفاتها؛ بل إن هذا العقل الإنساني عاجز عن معرفة كثير من أحوال النفس الإنسانية وأحوال الجسوم البشرية، وكثير من ظواهر الكون التي يشهدها، فهو أحرى بأن يستبين عجزه التام عن معرفة ما وراء المادة، وعن إدراك صفات الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان من شأن الإنسان أن يفرق بين علمه للماضي وعلمه للحاضر وظنه في المستقبل، فإن هذه التفرقة تنطبق على الإنسان وحده، وليس من الجائز أن تنطبق على علم الله تعالى؛ لأن علمه أزلي أبدي، لا فرق بين ماض وحاضر، ولا بين حاضر ومستقبل، ولا بين شاهد وغائب، فلا يقع في ملكه حدث إلا مطابقًا لعلمه، وموافقًا لما لا ينفك عن علمه من قدرة ومشيئة وإرادة.
يدل على هذا قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ﴾.
وقوله سبحانه: ﴿ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ٨ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ٩﴾. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا يُعۡلِنُونَ ٧٤ وَمَا مِنۡ غَآئِبَةٖ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ﴾.
وقوله جل وعلا: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ١٢﴾.
وقوله سبحانه: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ٢٢﴾.
3- ولا منفذ إلى شك في علم الله تعالى ولا في قدره وقضائه وإنه واقع لا يتخلف، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ﴾.
وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٧١ إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ ١٧٢ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ١٧٣﴾.
وقال تعالى: ﴿لَّوۡلَا كِتَٰبٞ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِيمَآ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾.
والأحاديث النبوية تجري على هذا النسق، كقوله ﷺ : مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير.
وقوله ﷺ : كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس.
لماذا نؤمن بالقدر..؟
نؤمن نحن المسلمين بقدر الله إيمانا وطيدا لا يتزعزع، لعدة أسباب:
1- لأننا نؤمن بعلم الله وقدرته وإرادته، وندين بما يلائم عظمته وجلاله، ونصدق بكتابه وبأحاديث رسوله، وبما تضمناه من قضاء الله وقدره.
2- ولأن هذا الإيمان يعصمنا من الغرور إذا ما حالفنا نجاح وظفر، فقد تسول لظافر نفسه أنه بجده وحده ظفر، فيتمرد ويطغى، وينسى أن يشكر لربه، ويتعامى عن حقوق من حوله، كما فعل قارون، إذ أبطره ثراؤه، وزعم أنه كسب ماله الكثير بعلمه، ونسي حق الله فيه، فجعله الله نكالا وعظة لغيره، قال تعالى: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ.
قال: إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ أَوَلَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ.
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ.
وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ.
فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ.
وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾.
3- على أن هذا الإيمان إذ يعصمنا من الغرور يبعد عنا الخور والضعف واليأس والسخط أن نزلت كارثة، أو حدث إخفاق؛ لأن المؤمن بالقدر يصبر على ما نزل به، ويستمد من صبره قوة على مغالبة عوامل القنوط والاستسلام، فيستأنف حياته في جد مثمر، بعزيمة قوية، وأمل متجدد، وقلب متفتح.
4- ثم إن إيماننا بقدر الله وقضائه يبعث في نفوسنا كثيرًا من الفضائل؛ لأن المؤمن بالقدر شجاع يعلم أنه لن يصيبه إلا ما سبق في علم الله من موت أو حياة، ومن سلامة أو اضطهاد، ومن نفع أو ضرر.
والمؤمن بقدر الله أبي عزيز النفس لا يذل لأحد، ولا يدنس ضميره أو يلوث كرامته لقاء ثمن، لأنه يعتقد أن النفع والضرر بيد الله تعالى، وقدسبق به علمه وقدره، فلو اجتمع الإنس والجن على أن ينفعوه أو على أن يضروه ما استطاعوا شيئا سوى ما سبق به قدر الله. وهو راض دائما، مستبشر دائما، متفائل في جميع حالاته، لأنه مطمئن إلى رحمة الله ولطفه وعدله.
5- ولا شك أن هذا الإيمان يحفظنا من رذيلة الحقد والحسد والسخط؛ لأن الذي يحسد غيره على نعمة أنعم الله بها عليه ساخط على قدر الله، والذي يحقد على ذي نعمة متبرم بحظه من الحياة، والذي يسخط نصيبه من الدنيا ضعيف الثقة بقدر الله، غافل عن نعم أخرى أسبغها عليه الله.
6- وإننا إذ نؤمن بقدر الله تعالى نؤمن بأنه أوجب علينا أن نعمل وأن نسعى، وأن نتخذ من الأسباب والوسائل الشريفة ما يحقق غاياتنا المسروعة، فلا كسل ولا تكاسل، ولا خمول ولا تواكل.
فمثلا أمرنا سبحانه وتعالى بالسعي والعمل للحصول على الرزق، قال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾، وقال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِ﴾.
وأمرنا بالدفاع عن الدين وعن الوطن في قوله سبحانه: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾، وفي قوله جل وعز: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ﴾، وفي قوله سبحانه: ﴿فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ﴾.
وأمرنا سبحانه وتعالى بعمل الصالحات، ونهانا عن فعل المنكرات، فقال تعالى: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ﴾، وقال سبحانه: ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ﴾.
وهكذا تتكرر الأوامر والنواهي في آيات كثيرة.
والأحاديث النبوية تتفق مع كتاب الله في الحض على العمل، فطالما أمر رسول الله ﷺ بالعمل، وطالما عمل بنفسه في السلم وفي الحرب، فقاد الجيوش، وأعد السلاح، وحفر الخندق، وادخر القوت.
وهو القائل: لأن يحمل أحدكم حبله على ظهره فيحتطب به خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
وهو القائل: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، ما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان.
وهو القائل للرجل الذي عرض عليه أن يتصدق بماله كله: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.
وهو القائل: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وهو القائل: تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا: الهرم.
وقد سأله بعض الصحابة: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورُقًى نسترقي بها، وتقى نتقي بها، هل ترد من قدر الله شيئا..؟ فقال رسول الله ﷺ : هي من قدر الله.
7- ونحن نؤمن بالقدر، ولا يعوقنا هذا الإيمان تعويق عن العمل، لأن الأحداث قبل أن تقع سر محجب عنا، خفي علينا، لا يعلمه إلا الله الذي قدر وقضى، وليس في استطاعة مخلوق أن يعلم المقدور. وكيف يتطلع أحد إلى معرفة الغيب، وقد أمر الله ورسوله أن يقول: ﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ١٨٨﴾.
لهذا نعى الله على المشركين اعتذارهم عن شركهم بأنه قدر من الله، ونعى على من يعتذرون بالقدر في انصرافهم عن الخير وإقبالهم على الشر، قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ١٤٨﴾.
وقد قال سراقة بن مالك لرسول الله ﷺ: يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن، فيم العمل؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال رسول الله: فيما جفت به الأقلام، وجرت المقادير.
وروي عن علي بن أبي طالب: كنا في جنازة، فأتانا رسول الله، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكث بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله، أولا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل الشقاوة فيصير لعمل أهل الشقاوة، ومن كان من أهل السعادة فيصير لعمل أهل السعادة، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنۡ أَعۡطَىٰ وَٱتَّقَىٰ ٥ وَصَدَّقَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ ٦ فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡيُسۡرَىٰ ٧ وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ ٨ وَكَذَّبَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ ٩ فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ١٠﴾.
وهكذا تتوالى أحاديث رسول الله، كقوله: ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة، فقال أحد السامعين: ألا نتكل يا رسول الله..؟ قال: لا، اعملوا، فكل ميسر لما خلق له.
وقوله: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
8- لهذا كله كان الإيمان بالقدر وبالقضاء نعمة على البشر، لأنه ظل من الطمأنينة وارف، ونعمة من السكينة الراضية، ولأنه حافز إلى قوة العزائم، وباعث على العمل والعزة والصبر والشجاعة، ووقاية من الشرور التي تصيب الأفراد والجماعات، كالأثرة والحسد والشماتة والنفاق والجزع واليأس.
ولست أريد أن أكرر ما سبق من آيات وأحاديث في الدلالة على هذه المعاني؛ بل أريد أن أذكر أن المنافقين كانوا يتخلفون عن مشاركة رسول الله في صد العدوان عن المدينة وعن الإسلام، وهم في أعماق نفوسهم يودون أن ينهزم الرسول، ليفرحوا بهزيمته، وليبرروا تخلفهم عن نصرته، فأنزل الله تعالى على رسوله أن المسلمين الصادقين لا يأبهون بما يجول في نفوس المنافقين؛ لأنهم مؤمنون بأن ما يصيبهم من خير أو شر قد سبق به قدر الله، ولأنهم قد أرضوا ربهم، وأرضوا نفوسهم بجهادهم في حماية العقيدة وصيانة الوطن، فإذا انتصروا لم يبطروا وإن انكسروا لم ييأسوا. قال تعالى: ﴿إِن تُصِبۡكَ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡۖ وَإِن تُصِبۡكَ مُصِيبَةٞ يَقُولُواْ قَدۡ أَخَذۡنَآ أَمۡرَنَا مِن قَبۡلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمۡ فَرِحُونَ ٥٠ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ٥١﴾.
مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47