بقلم: الأستاذ إسحق موسى الحسيني
يوجه الباحثون الغربيون إلى المسلمين نقدًا لاذعًا، علينا أن نتأمل فيه ونبحثه صراحة، سواء أعجبنا أم لم يعجبنا. وخلاصة ما يقولون أن الإسلام شيء والمسلمين شيء آخر. وبعبارة أخرى: أن الإسلام كما هو في القرآن الكريم، وفي كتب المسلمين يتضمن مبادئ سامية، كالصدق والأمانة والوفاء والعدل والإنصاف والرحمة والرأفة والتعاون والتعاضد، وما إلى ذلك من مبادئ أكدها الإسلام، وحثّ عليها، على نحو لا نكاد نجد له نظيرًا في الديانات الأخرى، الأمر الذي ينبغي أن ينتج مجتمعًا مثاليًّا فريدًا يقرب من «المدينة الفاضلة» أو «الأيتوبيا» التي تحدث عنها الفلاسفة. هذا من حيث المثال.
أما من حيث الواقع فإن المجتمع الإسلامي – كما نراه – مجتمع نخر، قرضت قلبه مساوىء اجتماعية، يضرب بقبحها المثل في المجتمعات الراقية. وهو مجتمع متفكك، متعدد الشخصية، يخشى أن يظهر على حاله فيتلون حسب الظروف، في ظاهره صف واحد – كما يبدو في الصلاة – وفي باطنه صفوف متناحرة، يثب بعضها على بعض.
هذا النقد نقرأه حينًا في الكتب، ونسمعه حينًا آخر، فنرتاع ونلتاع. ولكنه على أي حال ذو نتائج غاية في الإضرار بديننا وسمعتنا، وقضايانا القومية وعلاقاتنا الدولية، لا سيما في هذا الظرف الذي نواجه فيه عدوًّا ذا قدرة فائقة على بث السموم والدعايات، وتأليب الدنيا علينا.
في كل مجتمع مساوىء
ويحسن بنا قبل أن نبين الأسباب ونصف العلاج أن نقف عند النقد نفسه، نزنه ونضبطه ونقيده.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: أتخلو المجتمعات غير الإسلامية من مساوىء؟ أتحافظ هذه المجتمعات على مبادئها الدينية؟ وما أظن أن الجواب يحتاج إلى إسهاب. ففي كل مجتمع مساوئ خاصة به، ناجمة عن الظروف المادية والمعنوية التي تحيط به. وكما أن مرض الإنفلونزا يفتك في البلاد الباردة الكثيرة الرطوبة، فإن المساوىء الاجتماعية تتأثر بالأجواء على مختلف أنواعها. ففي البلاد الغربية المتحضرة – مثلا – تسامح في العلاقة الجنسية لا نجد له نظيرا في المجتمع الإسلامي. وفي العالم غير الإسلامي حكومات تشهر الحروب وتستبيح لنفسها التحكم في رقاب أمم مسالمة وإذلالها، ومنع تقدمها، لتمتص دماء أهلها. والحكم الإسلامي لم يعـــــــرف هذا النوع من التحكم، إذ كانت المصلحــــــــــة العــامــــــة مقدمـــــــــة على غيـرهـــــــــــــا، على نحو ما نقرأ في تاريخ المسلمين في الأندلس، وشمالي إفريقيا، أو على الأقل كان الخير عاما والبلاء عاما.
ولو كانت مبادئهم الدينية هناك سائدة لما وثبت الدول الغربية بعضها على بعضها مناقضة تعاليم السيد المسيح – عليه السلام – التي تقطر رحمة ونبلا وتسامحًا.
وإذن ففي المجتمعات غير الإسلامية مساوىء من نوع آخر لا نظير له في المجتمع الإسلامي.
الإسلام بريء
والحقيقة أن الإسلام لا علاقة له البتة بواقع المسلمين السيئ.. والدليل على ذلك أن المسلمين كانوا – يوم فهموا دينهم والتزموا بتعاليمه – من أرقى أمم العالم. ولو كان دينهم هو علة واقعهم الحالي لوجب أن يكونوا في مؤخرة العالم طرا، في كل مرحلة من مراحل تاريخهم، ولا سيما في المرحلة التي كانوا فيها أشد تعلقًا بمبادئ دينهم، وأصدق فهما لها.
ودليل آخر: أن المجتمع الإسلامي ليس متساويًا في هذا البلاء الواقع فيه. والذي يتنقل في العالم الإسلامي من إندونيسيا شرقًا، إلى المغرب العربي غربًا يجد فروقا بينة أوضح من أن يشار إليها. ولو كان المصدر واحدا لجاءت النتيجة واحدة أيضا؛ بل إن المجتمع الواحد في القطر الواحد متباين أشد تباين، من مدني وريفي وبدوي. وبعض المجتمعات الإسلامية يضرب بها المثل في صدق القول والأمانة، حتى لا يكتب بعضهم على بعضهم صكوكا، ولا مواثيق، بقدر ما يضرب بغيرها المثل في عكس ذلك.
وأمر ثالث: أن بعض الباحثين المغرضين يلفق الأقوال ويبهرجها. مثال ذلك ما رواه مؤلف عن (العقلية الإسلامية) من أن المسلمين يفصلون بين الدين والمعاملات، فللمسلم أن يغش ويكذب ويحتال ما شاء، وما عليه بعد ذلك إلا أن يصلي ويصوم، فيغفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. ولو صح هذا القول لكان المسلمون جميعا لصوصا محتالين. والأمر خلاف ذلك، إذ حرم الإسلام السرقة، وبالغ في عقابها، كي يقطع دابرها، كما حرم الخيانة والاحتيال والكذب وما أشبه ذلك. وقد اشتمل على العبادات والمعاملات معا، حتى جعل لها أبوابًا تفرد بها من دون الديانات الأخرى. والباحثون الغربيون أنفسهم يتذمرون ويتبرمون بما تشتمل عليه الشريعة من حدود وعقوبات وقواعد وأحكام.
ولكن مساوئنا شوهته:
وهل ننتهي إلى أن المجتمع الإسلامي محافظ على مبادئ الدين مراعٍ أحكامه خالٍ من المساوئ؟
نستغفر الله من قول ذلك. فهذه المساوئ قد طمت وعمت، حتى لا يستطيع أن ينكرها إنسان. إنها مساوئ تسيء إلى الدين بقدر إساءتها إلى المسلمين. إنها مساوئ تنغص على المرء حياته، وتزري بكرامته، وتهيب به أحيانا إلى أن يدعو الله أن يرحمه فيريحه من أمته أو أن يريحها منه!! إنها مساوئ تثقل الصدر والقلب والعقل، وتحمل على الاعتقاد بأن الكفاح الاجتماعي لا يقل شرفا عن القتال الحربي، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أضحى فريضة، لا تقل شأنا عن الفرائض الأخرى. إنها مساوئ شوهت هذا الوجه السمح الكريم الذي تجلى في بعض صفحات التاريخ الإسلامي فازدهرت به الدنيا ردحا من الزمن، ثم غاب وراء سحب دكناء..
سبب هذا الواقع
وما الذي حدث حتى انقلب الحال إلى اسوإ منقلب؟
تبدو للمتأمل ثلاثة أسباب نجملها فيما يلي.
الأول: فساد الإدارة بفساد الحكام الذين جعلوا من أنفسهم طبقة تعبد من دون الله، واتخذوا من حولهم حاشية تكون طبقة أخرى تسكت عن الفساد بفساد مثله. وهكذا ضاع الشعب المؤمن بربه، وفقد ثقته بنفسه وبمبادئه، وانحرف وظل ينحرف حتى ضاعت القيم الاجتماعية، وأصبح القابض على مبدئه كالقابض على جمرة.
والثاني: الموقف السلبي الذي وقفه المسلم من مجتمعه، نتيجة للمآسي التي عاناها والتجارب المريرة التي قاساها، فانزوى بنفسه لا يبالي بمن حوله، أعاشوا أم هلكوا. وما يفيده لو بالى وهو لا يملك ضرًّا ولا نفعًا. لقد كان المؤمن يملك إزالة الجبال يوم كان يؤمن فردًا كان أم حاكمًا بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضرب من ضروب الإيمان، من فقده ضعف دينه. لقد كان المجتمع يومذاك مسؤولا عن الفرد وكان الفرد مسؤولا عن المجتمع، كرب الأسرة، يعنيها ما يعنيه، ويعنيه ما يعنيها. كان الفرد ملتزمًا التزاما كاملا بدفع الأذى حيثما كان، ومن أين جاء، وبجلب النفع ولو من الصين وأقاصي الدنيا. ثم همدت الهمم وفترت، وذهب كل في سبيله متمثلا بالقول المأثور «انج سعد فقد هلك سعيد». ولم يؤسس المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة؛ بل أسس على «الإيجابية» التامة وتكافؤ الفرص، والاندفاع في معترك الحياة بكامل العدة، وتوزيع خيرات الله على عباد الله.
والثالث: فهم الدين فهمًا هزيلا سطحيًّا. جعل بعض الناس يفهمون – خطأ – أن الدين عبادة، وأن العبادة هي – وحدها – القربى إلى الله. أما ما سوى ذلك من إيمان عميق بالله، ونية خالصة في معرفته، وحب الله بحب عباده وحسن معاملتهم فقد غاب عن أذهانهم. مع أن الإسلام قد أوثق الربط بين العبادات والمعاملات؛ بل امتاز بأحكام الربط بينهما حتى جعل حسن المعاملة عبادة يثاب المرء عليها، فجاء قوم فصلوا بينهما، وقطعوا الدين عن الدنيا، ففقدوا الاثنين معا.
لقد توهموا أن العبادة غاية، مع أن الله تعالى منزه عن الحاجة إلى عبادة. ولم يفطنوا إلى أن العبادة وسيلة إلى توثيــق الصلـــــة بالله، والالتصاق به، وتنفيذ أحكامه، وتكوين ضمير إلهي، ومجتع إنساني كامل.
وبعد فما العلاج؟
إن المجتمع الإنساني – كالفرد – مفطور على المرونة والتكيف بالظروف والأحوال والمجتمع إما أن يسير إلى الإمام وإما إلى الوراء. أما المجتمع الثابت فلا وجود له وإذا قيض الله للمجتمع قادة أولي حكمة وعزم وقوة يصدقونه النصح والقيادة، ويؤثرونه على أنفسهم بالحب والسعي، يجددون أنظمته، ويحددون أدواءه، ويحسنون علاجه، ويؤسسونه على العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص، ويشرحون الدين شرحًا سليمًا، فإن المجتمع الإسلامــي يسترد مكانتـــــــــــــــه، ويـــــبرأ من أدوائه، ويعود إلى حيث أراده الله أن يكون في طليعة الأمم قيــــادة وريادة وبناء وإبداعا. وما ذلك على الله بعزيز.
* * *
مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47