بقلم:  الدكتور محمد الدسوقي

         1- في حياة الرسل والأنبياء والمصلحين والمجددين أيام مشهورة وأحداث بارزة تعكس مبلغ ما بذل هؤلاء من الجهد والكفاح من أجل أن تسود كلمة الحق والخير، كما تعكس أيضا سطوة الباطل وحرصه الشديد على التصدي دائمًا لدعوات الهداية والإصلاح.

         وكان خاتم الهداة والمرسلين محمد ﷺ المثل الكامل في كل شيء، وكانت حياته المباركة كلها صفحة مشرقة بجلائل الأعمال، ومن ثم تعد هذه الحياة -بلا جدال- الأسوة الحسنة للدعاة في سبيل الله، والصورة المثلى للبذل والفداء، والآية الصادقة على أن الإيمان الذي لا تشوبه شائبة ما لا تنال منه أعاصير البغي والكفر مهما قست وطغت، ولا تزيده الشدائد والمصائب إلا مضاءً في العزيمة وثباتًا في اليقين وإصرارًا على الجهد والتضحية.

         2- ولا مجال في هذه الكلمة للحديث عن تلك الحياة الفريدة في تاريخ البشرية، ومهما يكتب الكاتبون فيها فإنها ستظل أبدًا في حاجة إلى مزيد من الحديث عنها، والكشف عن مثلها وقيمها الرائعة، فهي غنية بالمثل والقيم التي يبحث عنها الإنسان في ظل الحضارة المادية الحديثة، عله ينجو مما يقاسيه من القلق والاضطراب، ولكني – تحية لذكرى المولد الشريف – أقصر الحديث في إيجاز على يومين من حياة رسولنا الكريم هما:

         أ- يوم الطائف.

         ب- يوم الفتح.

         لأنهما وإن تفاوتا من حيث ما وقع فيهما للرسول عليه الصلاة والسلام تجمعهما صفة الرحمة والرأفة في حياة الرسول العظيم.

         3- والحديث عن يوم الطائف يقتضي الإشارة إلى طرف من الأحداث قبله، فقد كانت الجاهلية في مكة منذ صدع محمد بأمر ربه تحاول ما استطاعت أن تحول بين محمد وما يدعو إليه، وكانت تسوم المؤمنين برسالته كل ألوان الأذى والعنت، بيد أنها ما كانت تجرؤ على إيذاء الرسول كما كانت تؤذي أصحابه وأتباعه، لمكانة عمه أبي طالب في قريش، ولبطولة هذا العم في الدفاع عن ابن أخيه(1)، وليس أدل على هذا من موقفه يوم قدم وفد قريش إليه قائلا له! يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا جميلا، وردهم ردًّا رفيقا فانصرفوا عنه، وهم يحسبون أنه سيقف دون محمد وما يدعو إليه، ولكن محمدا مضى في طريقه يبلغ رسالة ربه غير عابئ بما تضعه الجاهلية من أشواك أمامه وأمام الذين آمنوا به.

         وذهب وفد قريش مرة ثانية إلى أبي طالب واتسمت لهجتهم في الحديث معه هذه المرة بالحدة والتهديد بالحرب إن لم يمنع ابن أخيه من سب الآلهة والآباء، وتسفيه الأحلام وفتنة الأرقاء والضعفاء، واحتار الشيخ الوقور بين مشاعره نحو ابن أخيه وإحساسه بالانتماء إلى قومه، ولم يجد خلاصًا مما هو فيه من حيرة سوى أن يبعث إلى رسول الله ﷺ وأعلمه ما قالت قريش، ثم أردف هذا بقوله: ابق على نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، وما كاد أبو طالب يلفظ بهذه العبارة في هدوء يشوبه القلق والأسى حتى استولى على الرسول إحساس بأن عمه قد خذله وضعف عن نصرته، غير أن هذا الإحساس لم ينل من الإيمان الذي لا يغلب ولا يَهِن، فقال الرسول لعمه تلك القولة التي أصبحت شعارا للفداء وثبات اليقين: يا عماه والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه.. ما تركته(2).

         ويروى أن الرسول بكى بعد هذا وقام منصرفًا، ولكن عمه ناداه وقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا، وأنشد:

         والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا(3).

         4- فلما توفي أبو طالب في السنة العاشرة من المبعث، وتوفيت بعده بقليل السيدة خديجة  رضي الله عنها  حزن الرسول لموتهما حزنًا شديدًا حتى سمى العام الذي ماتا فيه عام «الحزن».

         وبموت أبي طالب وخديجة تتابعت الشدائد والمصائب على رسول الله ﷺ(4)، فخديجة  رضي الله عنها  كانت سندًا لزوجها بما توليه من حبها وبرها ومن رقة نفسها وطهارة قلبها وقوة إيمانها(5) لقد كانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن(6) إليها فتهون عليه كل شدة وتزيل من نفسه كل خشية، وأما أبو طالب فقد كان لابن أخيه حمى وملاذًا من خصومه وأعدائه، ومن ثم تجرأت قريش على الرسول ﷺ بعد موت عمه وزوجه، وأسرفت في إذائه والإساءة إليه، فقد روي عن ابن مسعود قال: بينا رسول الله ﷺ يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد «عليه الصلاة والسلام» إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه.

         فلما سجد النبي ﷺ وضعه بين كتفيه فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهره، والنبي ﷺ ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة.

         فجاءت – وهي جويرية – فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم(7). كما يروى أن بعض سفهاء قريش نثر على رأس الرسول ترابا، فدخل رسول الله ﷺ بيته والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله ﷺ يقول: لا تبكي يابنية فإن الله مانع أباك.. ثم كان يقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبوطالب(8).

         5- وضاق الرسول بمكة بعد أن ضاقت به وتفكر له الناس حتى أقربهم إليه وأدناهم منه، فخرج إلى ثقيف بالطائف يلتمس عندهم النصر والعون والجوار(9)، وبين مكة والطائف نحو خمسين ميلا والطريق وعر، يخترق سلسلة من الجبال، وقد قطع محمد ﷺ هذه المسافة – في ذهابه ورجوعه – على قدمه، ولم يكن معه غير مولاه زيد بن حارثة، وحين انتهى الرسول إلى الطائف عمد إلى جماعة من أشراف ثقيف، ودعاهم إلى الإسلام، فسخروا منه وهزئوا به، ومكث الرسول يتردد على منازل القوم عشرة أيام، فما رأى منهم جميعًا إلا ردًّا منكرًا، فلما يئس عليه السلام من خيرهم طلب منهم أن يكتموا عليه أمره معهم حتى لا تزداد عداوة أهل مكة له، وشماتتهم به، ولكن القوم كانوا أخسّ مما ينتظر، فقد قالوا له: اخرج من بلدنا، ولم يكتفوا بذلك، فقد حرشوا عليه الصبيان وأغروا به السفهاء والعبيد يسبونه ويرمونه بالحجارة ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس في صورة كريهة تبعث على الأسى والألم وزيد بن حارثة يحاول – عبثا – الدفاع عنه حتى شج في ذلك رأسه(10).

         وكان الرسول يحاول أن ينأى عن هؤلاء السفهاء الذين تملكتهم حمى السخرية والإيذاء، ولكنهم ظلوا يطاردونه ويركضون وراءه حتى وجد نفسه أخيرًا يدخل بستانًا، فانصرفوا عنه، وقد أدموه وأرهقوه كل إرهاق.

         6- وأوى الرسول إلى ظل شجرة في بستان ابني ربيعة بعد هذه المطاردة المؤلمة، وقد عز عليه ما كان من ثقيف التي سعى إليها يدعوها للتي هي أقوم، ويلتمس لديها الجوار والنصرة، فلم يجد منها إلا القسوة والجفوة وسوء الخلق. وكان هذا الذي حدث له في الطائف ذكره بما حدث له في مكة فاتجه إلى السماء قائلا: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك(11).

         7- وكان يوم الطائف أو ثقيف لما أومأت إليه أشد الأيام على رسول الله ﷺ وظل -عليه السلام- يذكر هذا اليوم وما كان فيه من حماقة أهل الطائف، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لرسول الله ﷺ: هل أتى عليك يوم أشد من أحد(12)؟ قال: لقيت من قومي ما كان أشد، قال: وكان أشد ما لقيت منهم يوم ثقيف، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مغموم فلم أستفق إلا أنا وبقرن الثعالب(13) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي وقال: يا محمد: أنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(14) فقال له رسول الله ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا(15).

         هذا يوم الطائف، يوم بلغت فيه الجهالة والضلالة ذروة المنكر والشر، كما تجلت فيه بعض أخلاق النبي الأمي الذي بعثه ربه رحمة للعالمين وأثنى عليه في كتابه المبين بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ ‌لَعَلَىٰ ‌خُلُقٍ ‌عَظِيمٖ﴾ (16).

         8- ولم يستطع الرسول دخول مكة بعد رجوعه من الطائف حزينًا إلا في جوار المطعم بن عدي، فالجاهلية في تلك المدينة قد اهتبلت تلك الأحداث التي ألمت بالرسول فأدخلت على قلبه الحزن الشديد، وأخذت تفكر جديا في قتله وتصب العذاب صبًّا على كل من آمن به، فكان دخول مكة بعد يوم الطائف محفوفًا بالمخاطر الجسيمة، وكان الجوار ضروريا لتجنبها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

         وأخذت الأحداث تترى بعد ذلك، والكفر لا يدخر وسعًا في عدوانه وطغيانه والرسول الأمين لا يألو جهدا في تبليغ ما أمره الله به، ثم كانت الهجرة إلى يثرب لا فرارا من البطش والاضطهاد؛ ولكن تحولا إلى بيئة جديدة تصلح للدعوة الخاتمة حتى يمكن أن تقام الدولة وتعد القوة، حماية للحق وتمكينا له، وردعا للباطل وقضاء عليه، فالحق بلا قوة تذود عنه فكرة ذهنية مجردة لا تستطيع أن تعيش في دنيا الناس، ولهذا خاضت القلة المؤمنة بعد الهجرة معارك عديدة ضد الكثرة المشركة، فما أجدت كثرة هؤلاء شيئا، وما حالت قلة المؤمنين بينهم وبين الظهور على أعدائهم من المشركين والمنافقين واليهود.

         9- وأما يوم الفتح فقد كان في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، كان قمة الانتصار لدعوة الحق، ففي هذا اليوم دالت دولة الشرك، وطهر البيت الحرام من الأوثان والأصنام، ودخل الناس بعده في دين الله أفواجًا.

         على أن يوم مكة أو فتحها لا يمثل عدوانا على أهلها، فهم قد نقضوا ما شرطوا لرسول الله ﷺ في صلح الحديبية، إذ كان من مبادئ هذا الصلح أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله ﷺ  وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنوبكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ﷺ وعهده(17).

         ودفعت سورة الحقد الجاهلي قريشًا وحلفاءها من بني بكر إلى مهاجمة خزاعة – وهي مع المسلمين في حلف واحد – وقاتلوهم فأصابوا منهم رجالا وانحازت خزاعة إلى الحرم، إذ لم تكن متأهبة لحرب، فتبعهم بنو بكر يقتلونهم وقريش تمدهم بالسلاح وتعينهم على البغي(18).

         10- وفزعت خزاعة، لما حل بها إلى رسول الله ﷺ تخبره بما أصابها وبما كان من تحالف قريش مع بني بكر عليها، بالإضافة إلى أن ما قامت به قريش نقض صريح للعهد، ولا سبيل إلى نصر خزاعة والرد على نقض العهد إلا بإعداد الجيوش لفتح مكة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

         ولم يمض وقت طويل حتى كان المسلمون قد تجهزوا للسير نحو مكة، ولم تفجع محاولات قريش في إقناع الرسول بالعدول عن عزمه، ولم يترك الرسول لأهل مكة الفرصة حتى يستعدوا للقائه، حرصًا منه عليه السلام على أن يباغت القوم في غرة منهم فلا يجدوا له دفعا فيسلموا من غير أن تراق الدماء، ولذلك كانت أوامر الرسول للقواد ألا يحاربوا أو يسفكوا الدم إلا إذا أكرهوا على ذلك، ليدخل المسلمون البلد الحرام آمنين مطمئنين، وليظل لهذا البلد قدسيته وحرمته فلا يخاف فيه إنسان ولا تزهق فيه أرواح، ولذا يروى أن زعيم الأوس سعد بن عبادة حين ذكر ما فعل أهل مكة وما فرطوا في جنب الله، وأدرك أنهم لا حول لهم أمام قوة المسلمين، صاح قائلا: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. وبلغت هذه الكلمة مسامع الرسول ﷺ، فأمر بنزع اللواء من سعد، ودفعه إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة في الناس(19).

         11- وكان جيش المسلمين نحو عشرة آلاف مجاهد، وقد دخل هذا الجيش مكة دون مقاومة أو قتال اللهم إلا ما كان من الفرقة التي قادها خالد ابن الوليد، فقد اعترض لها بعض المشركين، ولكنهم لم يصمدوا أمام بأس خالد ورجاله وولوا منهزمين.

         وبعد أن أخذ الرسول الكريم حظا قليلا من الراحة في قبته التي ضربت له على مقربة من قبري أبي طالب وخديجة امتطى ناقته القصواء، وسار بها حتى بلغ الكعبة فطاف بالبيت سبعًا، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة ففتح الكعبة، فوقف الرسول على بابها وتكاثر الناس في المسجد فخطبهم قائلا: يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا قوله تعالى: ﴿‌يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌إِنَّا ‌خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾ ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء(20). وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن قريش وأهل مكة جميعًا، وهو عفو لا يصدر إلا عن قلب كبير لا يعرف غير الحب والتراحم والرأفة ويزيد من جلاله وروعته صدوره في لحظة القوة والغلبة، فالقوي الذي ينتصر من الضعيف أضعف الضعفاء، والقوي الذي يصفح عن عدوه وهو قادر عليه أرحم الرحماء وأشرف الأقوياء.

         12- وبعد فهذه كلمة موجزة عامة عن يومي الطائف والفتح، وفيهما تجلت عظمة الرسول الإنسان الذي تحمل ما تحمل من المشقات في سبيل إنقاذ قومه من دياجير الكفر والوثنية، وما كان يؤلمه إيذاء قومه له بقدر ما كان يؤلمه عكوفهم على أصنامهم وجاهليتهم وعدم أيمانهم بما جاءهم به من عند ربه، لأنه يعلم أن مآلهم بهذا الضلال والعناد جهنم وبئس القرار، ولذلك كان عليه السلام في ساعات العسر واليسر ولحظات الهزيمة والنصر الإنسان الرحيم الذي بلغ الذروة في الحب والعفو والصفح، والذي واجه الأذى والاضطهاد بالإغضاء والدعاء بما هو خير كما حدث في يوم الطائف، فلم يشأ أن ينزل العقاب المدمر بهؤلاء السفهاء، وإنما رجا الله تبارك وتعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده.

         وفي يوم الفتح وقف أمامه في ذلة وضعف من كانوا بالأمس يأتمرون به ليقتلوه، ومن أساؤوا إليه وإلى أصحابه إساءة تجاوزت كل حد، وكان عليه السلام يستطيع أن يعاقب هؤلاء القساة الظالمين ولا جناح عليه في ذلك، فجزاء سيئة سيئة مثلها، ولكن محمدا ﷺ رحمة مهداة تعفو عمن ظلم وتدفع دائما بالتي هي أحسن، وهذا بعض أسرار العظمة الإنسانية في حياته عليه السلام.

         لقد كان محمد ﷺ رحيما عظيما في ضعفه وقوته، ما عرف الانتقام سبيلا إلى فؤاده، وما جازى مسيئا بإساءته، وما حرص على شيء حرصه على أن يخرج قومه من الظلمات إلى النور، وصدق الله العظيم ﴿لَقَدۡ ‌جَآءَكُمۡ ‌رَسُولٞ ‌مِّنۡ ‌أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾(21).

         فما أجدر الدعاة والقادة والحكام والناس كافة أن يسترشدوا بسيرة هذا النبي الإنسان الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فهي كلها دروس رائعة تنير معالم الطريق نحو حياة إنسانية كريمة تليق بالإنسان الذي كرمه الله وجعله خليفة له في أرضه وصدق الله العظيم ﴿لَّقَدۡ ‌كَانَ ‌لَكُمۡ ‌فِي ‌رَسُولِ ‌ٱللَّهِ ‌أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا﴾(22).

*  *  *

الهوامش:

  • فقه السيرة للأستاذ محمد الغزالي ص129.
  • فقه السيرة ص 114.
  • فقه السيرة ص 115.
  • انظر السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص122.
  • حياة محمد لهيكل ص 186.
  • السيرة النبوية لإبن كثير.
  • فقه السيرة ص 129.
  • انظر سيرة ابن هشام م1 ص 416.
  • على هامش السيرة ج2 ص 140.
  • فقه السيرة ص 131.
  • السيرة لابن هشام م1 ص 421.
  • في أحد كسرت رباعية الرسول وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه، وأصيبت ركبتاه فضلا عن استشهاد عدد كثير من الصحابة ومنهم حمزة عم النبي ﷺ (انظر إمتاع الأسماع للمقريزي ج1 ص135).
  • موضع تلقاء مكة على مرحلتين منها.
  • الأخشبان: جبلان بمكة.
  • الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ص 98.
  • الآية 4 في سورة القلم.
  • السيرة لابن هشام م2 ص 290.
  • فقه السيرة ص 403.
  • المصدر السابق ص 412.
  • السيرة لابن هشام، م2 ص 412.
  • الآية 128 في سورة التوبة.
  • الآية 21 في سورة الأحزاب.

مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47

Related Posts