بقلم:  الدكتور / محمد سعيد رمضان البوطي

         يوم الخميس 1/المحرم عام 1394م كان يومًا ثقيلا ينوء بحمل تاريخ كبير من أمجاد هذه الأمة.

         يوم يحمل ينبوع وجودها، وسر أمجادها، ومبعث عزتها، وروح وحدتها!..

         كان يوما ارتسم على شمسه الباب العظيم الذي دخلت منه هذه الأمة إلى التاريخ ثم تبوأت عرشه، وقد كانت قبل ذلك ملقاة على هامشه، شاردة وراء سوره!.. ذلك لأنه كان يوم الهجرة!..

         فكيف استقبله المسلمون عندنا؟.. وكيف احتفلوا به، وكيف أكرموا مقدمه؟

         لاشيء.. لقد أقبل اليوم ومر كما يمر أي آخر دون أن يأبه به أحد. ولقد طلعت شمسه، ثم ارتفعت، ثم استوت في قبة السماء، ثم دلفت إلى مغربها وغابت فيه، وليس في الناس من يحفل بها، أو يلتفت إلى عظيم ما تحمله من تاريخ، أو يستهدي بشعاعها إلى غابر مجد لهذه الأمة سجدت له الدنيا كلها ذات يوم!!..

         وهكذا دخل اليوم الأول من عام هجري جديد، دخول اليتيم إلى دار لا عشيرة له فيها ولا أهل. ولكنه هنا يتيم بين أهله، وغريب بين قومه وعشيرته.

         وقبل ذلك بشهر أو أقل، دخلت أجراس الكنائس واحتفالاتها بيوت المسلمين كلهم، وسمعوا ذلك كله طوعًا أو كرهًا!.. وازينت الأسواق وزخرفت الحوانيت والمحال التجارية بالإضاءات الملونة وأشجار (الكريسمس) وأغرقت واجهاتها بالقطن الذي صيغت منه عبارات، وشكلت به شعارات تماما كما هو الشأن في أي سوق من أسواق أوروبا!.. وتجلت هذه الصورة ذاتها لا في الأندية والملاهي العامة فقط؛ بل تجاوزتها إلى داخل كثير من البيوتات الإسلامية العريقة!.. حيث احتفلت الأسر وتجمع أفرادها – على الطريقة الأوروبية ذاتها – في سهر صاخب إلى مطلع الفجر..

         كل ذلك، احتفالا بقدوم عام ميلادي جديد!..

         ويأتي بعد ذلك يوم الهجرة، بكل ما يحمله من ذكريات، وبكل ما سجل فيه من تاريخ وعز، فلا يرتفع له شعار، ولا تبتهج به دار، ولا تحس به في سوق، ولا تسمع عنه في إذاعة أو نحوها!!..

         ألا يا حسرتا على الأمة التي لم يكن يعرف عز الأرض إلا بها، فأصبحت وذل الأرض لا يعرف إلا بها. أمة لا تقاسي الهوان ولكن تتعشقه، ولا تعاني من الذل بل تستريح إليه، ولا تبتلى بالضيم وإنما ترحب به!..

         يا هؤلاء الناس!.. ما الذي نفعكم مما يفعله المستعمرون في افتتاحات أعوامهم الميلادية فتقلدوهم في ذلك أتم تقليد وتسبقوهم في الابتهاج بها والصخب من حولها، وصبغ بيوتكم وإذاعاتكم بشعاراتها وإيحائها؟.. وما الذي ضركم من تاريخكم ورأس عامكم الهجري – وإنما هو عنوان وجودكم، ومسرح أمجادكم، ومنفذ سلطانكم – فتعرضوا عنه هذا الإعراض وتنسوه هذا النسيان؟

         أفمن الحتم عليكم – وقد فرغتم أنفسكم لوظيفة التقليد – أن لا تعرفوا لعامكم الهجري معناه وأن لا تؤدوه حقه، إلا بعد أن يسبقكم إلى ذلك أولئك الأسياد، فيحتفلوا به لكم ويؤدوا حقوقه عنكم، فتفعلوا مثله بدوركم تقليدا، وتنهجوا نهجهم محاكاة واتباعا؟..

         أم هل من الحتم إذا قام الخطباء في مساجدهم يذكرون بهذا اليوم وخطورته وينبهون الناس والمسؤولين إلى حقوق هذا اليوم والقيام بواجباته أن يظهر من إعراض الناس عنهم ما يصبح تكذيبا لهذا الحق، وعقوقا لهذا اليوم، وكفرانا لفضله وجميل أياديه؟!

         يا هؤلاء الناس!.. من أنتم؛ بل ما أنتم لاولا الهجرة؟!

         أي اسم كان يذكر لكم في العالم، أم أي وطن كان يحويكم، أم أي أرض كانت تقلكم أم أي حضارة كانت تنتسب إليكم، لو لم تكن الهجرة؟!..

         هل كنتم تعرفون اسم الشام التي تفخرون بأمجادها، أوالعراق التي تتباهون بحضارتها أو مصر التي تعتزون بأمجادها، أو العراق التي تتباهون بحضارتها أو مصر التي تعتزون بتراثها؛ بل هل كانت لكم فلسطين تذودون عنها، أو ثروة تخيفون العالم بسلاحها لو لم يبعث فيكم هذا النبي الأمي القرشي، ولو لم ينفذ أمر ربه فيهاجر الأرض في سبيل المبدأ، ويترك الوطن في سبيل العقيدة، ولو لم يجعل الله له من أرض هجرته (المدينة) منطلقا إلى شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه؟!..

         ماذا تقولون غدا لعلام الغيوب، إذا أخذكم بجريرة هذا النكران، ثم أخذكم بجريرة تقليد لا فائدة فيه واتباع لا حكمة من ورائها؟..

         أولادكم يا مسلمون.. يستيقظون من طفولتهم الصغرى على الطنين والرنين اللذين تعج بهما ليلة رأس السنة الميلادية، يرتضعون منكم لبان عاداتها وتقاليدها، وتفيض آذانهم بأحاديث المعلقين من أفراد الأسرة وغيرهم على نهاية العام الماضي.. وبداية العام الجديد، والتقاليع المستوردة لتوديع ذاك واستقبال هذا!.. حتى إذا بلغ الطفل أشده استحكمت الصورة في أغوار نفسه وانصبغ بها عقلا وطبعا ووجدانا، وتهيأ له – مما غذي به – أن أيام السنة إن هي إلا دائرة مغلقة متماسكة، لا ينتهي ذيلها إلا عند رأسها الوحيد: أول كانون الثاني حيث رأس السنة الميلادية!..

         أما الهجرة والحديث عنها، فكلام كالطيف كان يردده الأجداد.. وأما مكانها من دائرة العام وأيامه، فقد عفى عليه الصدأ والقدم، ولم يبق منه إلا رمز كالطلل، وأشبه ما يكون بشارة على قبر مهجور ربما ذكر بعض العابرين بقراءة الفاتحة!..

         أفيسعدكم يا مسلمون أن تربوا أولادكم على هذا النهج؟..

         أفلا يؤرق لكم بالا، أن تقبلوا إلى الله غدا تحملون أوزار هذه التربية على ظهوركم عذابا من الله ونكالا؟..

*  *  *

         أكتب هذا الكلام، وإن ذكرى مولد رسول الله ﷺ، تلوح لي من بعيد، ولعل كلامي هذا لن ينشر إلا والمسلمون في أنحاء عالمهم الإسلامي يستقبلونها، وينصرفون إلى الاحتفاء بها والاحتفال لها.

         ولكني أعتقد أن المسلمين مهما فعلوا في استقبالهم لهذه الذكرى، فإن جميع ما يفعلونه لن يقع موقع القبول من صاحب الذكرى محمد عليه الصلاة والسلام.

         إن الأمة التي تصدق في احتفائها بمولد نبيها محمد ﷺ، لا تذهب هذا المذهب العجيب في احتفالاتها التقليدية برأس السنة الميلادية. وقد علمت جيدا أنها لا تسترضي بذلك قلب عيسى عليه الصلاة والسلام، وإنما تسترضي به نظرة أجنبية إلى هذه الأمة!.. نظرة ترمي بشرر من الحقد على دينها وغابر عزها وأمجادها!.. نظرة لا تقوم الدنيا إلا من خلال الأحقرين: متعة الفرج ومتعة البطن!..

         فتعالوا نكن صادقين – يا مسلمون – في احتفالنا بذكرى مولد نبينا محمد ﷺ هذه المرة. ولنفسر صدقنا هذا بسلوك يمسح عنا ماضي آثامنا ويرضى رسول الله ﷺ عنا.

         إن عواطفنا الإسلامية – ولله الحمد – قد غدت مشبوبة وناضجة وما رأيتها في عهد من العهود أنضج منها اليوم.

         إن كلا من ظروف الحرب والسلم، وموقف الدول الأجنبية – صديقة وعدوة – منها، وعبر الحياة التي نراها من حولنا والمآسي التي لاحقتنا يوم ابتعدنا عن حمى إسلامنا – كل ذلك قد أورثنا يقينا لا يتزعزع بأن الإسلام من حياتنا كالروح من الجسد وكالماء البارد من الكبد الحرى.. وبأن مشكلاتنا – على اختلافها – لا يمحقها إلا الإسلام عقيدة أولا ونظاما وأخلاقا ثانيا.

         وقد ولى العصر الذي كان يتحمل فيه بعض الناس بالإلحاد، ويجاهر بالفسوق والكفران. إنها اليوم (موضة) قديمة، وتقليعة بائدة.

         إن ملاحدة الأمس، يتنافسون في عرض عظمة الإسلام اليوم!..

         وإن الدنيا كلها قد علمت أن الإلحاد ليس إلا ظاهرة مرضية، تتسلل إلى الفكر بواسطة جرثومة من أهواء النفس، أو عقدها، أو عصبيتها، أو ردود فعلها!.. وليس بعد الإسلام من ملجإ لأي فكر حر، بعد أن تخلص من وباء الإلحاد.

         وإذًا فما جمودكم اليوم يا مسلمون؟.. يا مسلمون: علماء ومثقفين ومدرسين وعمالا وموظفين؟

         كيف تستقبلون مولد نبيكم محمد ﷺ، من سجن هذا الجمود، وقد علمتم أن ميراثه الوحيد الذي وضعه في أعناقكم إنما هو النهوض بأعباء الدعوة إلى الله؟..

         أو لا تزالون تعيشون في تلافيف تلك الضلالة التي تزعم على ألسنة كثير من الجهال بأن للإسلام (رجال دين) هم المسؤولون عن الدفاع عنه إذا هوجم، وعن إحيائه إذا ذبح، وعن إعادة تشييده إذا هدم، وأن غيرهم ليسوا إلا نظارة يتخذون أماكنهم أمام المسرح؟!..

         لقد آن لنا، جميعًا، أن نستغفر الله من هذه الضلالة البشعة، وأن نقف خاضعين خاشعين أمام قول الله عز وجل:

         ﴿وَمَنۡ ‌أَحۡسَنُ ‌قَوۡلٗا ‌مِّمَّن ‌دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾.

         ثم أمام قول رسول ا لله محمد -عليه الصلاة والسلام-: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

         ثم أن نبسط أيمانا صادقة إلى الله عز وجل نبايعه بها على أن نكون – وقد انتسبنا إلى حزبه – أعضاء عاملين لا أشخاصًا تقليديين.

         إنكم لتكثرون الكلام في هذه الأيام عن الكفاح، وتسمعون عنه كثيرا، ولكن اعلموا أن أهم كفاحٍ يستنفر له الإسلام المسلمين جميعا، في هذا العصر، إنما هو الدعوة إلى الإسلام والتعريف به، بقلب متحرق صادق لله عز وجل.

         ولست أعني أن قتال العدو الذي يستحل أرضنا يأتي في الدرجة الثانية من هذا الكفاح، أو أنه ينبغي أن يؤخر إلى ما بعد قيام المسلمين بواجب الدعوة إلى الإسلام، لا .. ليس هكذا. فإن العدو الجاثم في أرضنا صائل ومقاومة الصائل واجب مستقل بذاته، يكلف به المسلمون بقطع النظر عن الكفاح الذي نتحدث عنه. فإذا خرج العدو من ديارنا، فإن ملاحقته بعد ذلك بالدعوة إلى الإسلام والقتال في سبيلها، هوالكفاح.

         إن القاعدة العريضة الكبرى التي يجب أن ينطلق منها المسلمون جميعًا، الكفاح في سبيل الله اليوم، إنما هي الدعوة إلى الإسلام على شتى المستويات وبكل الطرق والأساليب ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة.

         ولو نهض المسلمون اليوم، أو أكثرهم أو كثرة عظيمة فيهم، بهذا، لا يبتغون إلا وجه ربهم، لا يسوقون أمامهم عصبية أو غرضا أو ضغينة لفتح الله على أيديهم وبألسنتهم آلاف القلوب الموصدة، ولرأيت للمسلمين مجتمعًا إسلاميًّا سليمًا غير هذا الذي تراه اليوم.

         ولكن آفة المسلمين أحد بلاءين، بل كلاهما معا!..

         آفة المسلمين أنهم أحد رجلين: رجل يتقلب في نعيم دنياه منصرفا عن الإسلام وشأنه، لا يبالي بالمصير الذي ينتهي إليه. وآخر يدعو إلى الله والإسلام بزعمه، ولكن بسلاح من عصبيته وكبريائه، وبسائق من حقد متمكن وراء صدره!.. وقليل جدا في المسلمين من ينهض بواجب الدعوة إلى الله دون أن يخلط بذلك حظ نفسه ودافع عصبيته.

         وما السر في أن أكثر المنصرفين عن الإسلام لا يلتفتون إلى دعوة الداعين إليه ولا يتأثرون بكلامهم؟..

         السر أن أكثر هؤلاء الدعاة قد أصبح مظهر الدين جزءا من شخصياتهم وأصبحت مظاهر الإسلام من مقومات ذاتيتهم، فتراهم يدافعون عن هذه المظاهر من حيث يدافعون عن شخصيتهم ومن حيث يذودون عن ذاتيتهم وكرامتهم. ويحس الآخرون بهذا، فتستيقظ عوامل العصبية في نفوسهم، ويقوم من ذلك حاجز يحول دون وصول كلمة الحق صافية إلى أفكارهم.

         وإنه لمنزلق خطير ما ينبغي أن يقع فيه المسلم إذ يدعو إلى الإسلام، وإنما يترفع عن الانزلاق فيه بالتنبه الدائم إلى حقيقتين عظيمتين:

         الأولى: كراهية معصية العاصي لا كراهية شخصه، فإن كراهية الشخص من حيث ذاته حقد يأباه الإسلام وينهى عنه. وما ينهى الإنسان عن فسوق أو عصيان أو كفر إلا شفقة على المتلبس به.

         الثانية: أن لا يخلط الإنسان بين دافع الانتصار لربه والانتصار لذاته، وما أدق الفرق بينهما لمن لا يكون دائم الرقابة على نفسه.

         رب رجل ذي مظهر ديني يقابله بعض الفاسقين بتصرف ساخر من الدين، فيأخذه الهياج ويتملكه الغضب، وربما بطش به وضربه.. وهو لو تأمل فيما قد دفعه إلى ذلك لرأى أنه حب الانتصار لشخصه، إذ كان في تلك السخرية جرح لشخصيته الدينية.

         وآية ذلك أنه لو كان متجردا عن هذا المظهر، لمر بذلك الفاسق غير مكترث به ولا ملتفت إليه، ولما حرك العصيان أو السخرية لديه أي غيرة أو هياج.

         وإنما يحبس الفاسق في فسقه على الأغلب – أنانية أو عصبية تستفحل بين جوانحه، فلا يتأثر بتذكير ناصح ولا بتنبيه واعظ. والشيء الوحيد الذي يملك إذابة هذه العصبية والأنانية فيه، أن يشعر شعورًا واضحًا بتجرد الإنسان الذي ينصحه ويذكره، وأن يقتنع بأنه لا يستهدف من نصيحته استعلاء عليه، أو تغلبًا، أو تقوية لعصبته أو عصبيته. وإنه إنما يكلمه من مستوى الحب له والشفقة عليه.

         فإن زاد الداعي إلى ذلك أن راح يقابل الإيذاء بالصفح، والسخرية بالرضى، واستدبر حظ نفسه والانتصار لذاته، فإن ذلك من شأنه أن يوقظ كوامن الإنسانية عند الطرف الآخر، ويحيي في فكره موضوعية البحث والنظر.

         وجل القائل في محكم كتابه لنبيه محمد ﷺ عن المنافقين الذين كانوا يستقبلون دعوة الإسلام بأهواء نفوسهم بدلا من أفكار عقولهم -: ﴿فَبِمَا ‌رَحۡمَةٖ ‌مِّنَ ‌ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾.

         وانظر كيف طبق الرسول وصية ربه جلا جلاله، يوم بلغه قول رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة المريسيع عن الرسول والمهاجرين: قد نافرونا وكاثرونا في دارنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش «يقصد المسلمين» إلا كما قالوا: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!..

         وحسب بعض الصحابة أن النبي ﷺ قاتله.. وقال له عمر ◙: ألا أضرب عنقه يا رسول الله؟.. وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يقول لرسول الله ﷺ: بلغني يا رسول الله أنك تريد قتل أبي، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني أنا أحمل إليك رأسه!..

         ولكن رسول الله ﷺ أبى أن يمسه بأذى وقال لابنه: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

         لقد كان من آثار هذا الموقف من النبي عليه الصلاة والسلام، أن انفض عن ابن سلول كثير من قومه وجماعته، فكان إذا حدثهم بحديث عن المسلمين بادروه بالمعارضة والتعنيف، ولقد قال عليه الصلاة والسلام لعمر ◙ بعد ذلك:

         كيف ترى يا عمر؟.. أما والله لو قتلته يوم قلت: أقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته..

*  *  *

         يا مسلمون.. لقد آن لنا أن نستيقظ إلى حقيقة الدنيا التي من حولنا، وأن يتعرف كل منا على هويته:

         إننا عبيد أذلاء، مهرت أعناقنا بختم العبودية لله عز وجل.

         إننا جميعا موظفون.. ولكن في ديوان الله عز وجل.

         فلننهض جميعا بالوظيفة التي كلفنا بها سيدنا.. ولا يهمنكم رزق ولا مال فإن سيدكم قد ضمن لكم ذلك كله، إن أنتم قمتم بمسؤولياتكم الوظيفية تجاهه: ﴿لَا ‌نَسۡـَٔلُكَ ‌رِزۡقٗاۖ ‌نَّحۡنُ ‌نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ﴾.

         ووظيفتنا نحن معشر العبيد لله، النهوض بالدعوة إلى دينه في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومعاملنا ووظائفنا وأسواقنا، وبين زملائنا وأصدقائنا، لا نقيم محبة أو صداقة مع إنسان إلا على أساس الدعوة إلى الله، ولا نكره أو نبغض إنسانا إلا في سبيل الله.

         لا نحقد.. لأن الحقد دخان لنيران الانتقام الشخصي، وشخصياتنا ذائبة لا وجود لها في طريق الدعوة إلى الله.

         لا ننحاز لعصبية.. لأن العصبية مظهر لأنانية الجماعة، ولا أنانية فردية أو جماعية في بوتقة العبودية المطلقة لله.

         لا نطمع في دنيا أو مصلحة.. فقد كفانا مالك الملك كله، كل طمع فيمن دونه..

         قطب سعينا كله في الدنيا هو البحث عن الحقيقة.. الحقيقة الكبرى التي تندرج في تضاعيفها حقائق الدنيا أجمع. فإذا اهتدينا إليها فإن من حق الأسرة الإنسانية كلها علينا أن نعرض لها سبيل هذه الحقيقة. وخيانة كبرى أن يهتدي أحد الأخوين إلى الطريق السليم، فينحط فيه معرضا عن أخيه الذي أسلم نفسه لمتاهة توصله إلى الهلاك.

         هذه وظيفتنا جميعا.

         فإن نحن قمنا بها، كان ذلك خير إحياء لذكرى رسول الله ﷺ، وكان ذلك أقصر سبيل لنصر متكامل قريب، ومجد صادق لا ينال منه عدو، وقوة تخيف منكم الدنيا كلها.

         يأتيكم ذلك كله وأكثر.. من حيث لا تحتسبون.

مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47

Related Posts