بقلم: الدكتور/محمد غلاب(*)
عندما تحدق بالبلاد ظروف عسيرة، وتنزل بها محن قاسية تؤلم الكبير والصغير إيلامًا شديدًا وليس إيلامًا من النوع المادي الذي يرهق الضعفاء، أو يزعج الجبناء، أو ينال من أفئدة المترددين والانهزاميين؛ بل هو إلام معنوي ناشئ من خدش عزة الأمة المتأصلة في الرفعة، والمتعودة على الشموخ، حين تجد أن تلك المحنة قد نزلت بها على يد ذنب قذر من أذناب دولة مستعمرة غادرة، لا تاريخ لها، ولا ماضيَ يشرفها، ولا وراثة شهمة ترفع من قدرها.
عندما تلقى إحدى الأمم العريقة كأمتنا مثلا نفسها في هذه الحالة، تشعر بألم قاس يحز في قلبها، وتحس إحساسا باطنيا فعالا بأن عاملا قويا يدفعها إلى ضرورة التفكير الجدي، والتأمل العميق في معاني الأحداث المحيطة بها، والأخطار التي تتعرض لها الأمة العربية كلها. وسرعان ما تجد أن مقدمة الخطوة الأولى هي العمل السريع الحاسم الحازم على التخلص من هذه المحنة بطريقة عزيزة كريمة، تحتفظ للأمة جمعاء بهيبتها كاملة غير منقوصة، وأن مؤخرة هذه الخطوة هي النظر العاجل في إعادة تكوين الشباب، وتقويم تربيته، وتقييم جميع حركاته وسكناته، وتعويده على الصدق في القول والإخلاص في العمل. وهذا لا يتيسر إلا إذا ربي الشباب تربية دينية تعتمد قبل كل شيء على العقيدة والإيمان.
ونحن في هذا لا نلقي الكلام على عواهنه، فقد أثبتت الوقائع المادية صحة هذه الدعوى مرارا، ونشرت في تقارير رسمية. فحين روعت الهزيمتان المادية والمعنوية جيش الحلفاء في إحدى مواقع الحرب العالمية الثانية، استدعى المسؤولون أطباء نفسيين ليدرسوا حالات المنهزمين أو دعاة الانهزام، فلما فعلوا تبين لهم أن أولئك وهؤلاء جميعا ممن فقدوا العقيدة الدينية وصاروا لا يؤمنون بشيء البتة، وبالتالي فقدوا الإيمان بالغاية فانهارت معنوياتهم، وأصبحوا لا يجدون في نفوسهم الهدف الذي يستحق التضحية بالحياة.
ومن ثم فإنه حين نزلت الآية الكريمة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ﴾ كان لها – كما أجمع الرواة – أثر بعيد الغور في النفوس.
من هذا كله يتبين ذلك الأثر الرائع الذي تطبع به العقيدة نفوس المؤمنين، وتهون عليهم التضحية بالمال والحياة في سبيل الشرف والكرامة والعزة.
وإذا أغضينا مؤقتا عن مواقف الحرب والتضحية واسترجاع الهيبة وتضميد ذلك الخدش العارض الذي أصابها، ونظرنا إلى سير الحياة العامة وشؤونها العادية التي لا تستقيم إلا بالفضائل والأخلاق، ألفينا أن عشرين في المئة يمتنعون عن الجرائم خوفًا من القانون، وأن عشرة في المئة منهم فقط يمتنعون بدافع الأخلاق الاجتماعية أو المدنية، وأن سبعين في المئة يمتنعون لا عن الجرائم فحسب؛ بل عن صغائر الآثام والسيئات بدافع الدين.
فينبغي – إذن – أن يقدر المربون الذين تعنيهم استقامة الشباب، وصلاح المجتمع، أن ترفع المؤمنين الحقيقيين عن الغدر والخيانة والخداع، هو ترفع أصيل، صادر من القلب، ثابت مدى الحياة، بينما أن امتناع الخائفين من القانون هو امتناع الروغان، وأن الفرق بين الامتناعين كالفرق بين المرأة التي تصون عرضها من كل قلبها وعقلها، والأخرى التي تصونه خوفا من بطش زوجها أو أسرتها أو من كشفها أمام المجتمع؟ وشتان ما بين حالة الثقة والطمأنينة، وحالة المراوغة الظاهرية.
على أنه قد يغلب على أوهام فريق من شبابنا السطحيين أن التمسك بالدين أو السير على نهجه القويم، وصراطه المستقيم ضرب من التأخر أو الجمود، وذلك خطأ شنيع فادح الكوارث والنكبات.
وربما كان هذا الشباب الساذج في النصف الأول من هذا القرن معذورا في انزلاقه في هذه الهوة، إذ إن المستعمرين الذين كان لهم في البلاد العربية سماسرة، وأعوان ذوو قوة وسلطان، كانوا قد أعدوا ميزانية خاصة وضعوها تحت أيدي أولئك السماسرة الخونة، قصد إنفاقها في إفساد تربية الشبان وعقولهم وعقائدهم. وقد نجحوا في الوصول إلى هذه الغاية، فنقشوا في أذهان أنصاف المثقفين، أن أداء الفروض الدينية من: صوم وصلاة وزكاة وما إلى ذلك من التكاليف، من شأنه أن يجلب إلى أصحابه الإهانة والاستهزاء.
ولقد خلقت هذه المحاولات الاستعمارية الخطرة في نفوس الكثيرين من المسلمين عقدة نفسية، كان من نتائجها أن دفعيتهم إلى التهاون في إقامة الشعائر الدينية، التي هي مناط التماسك والترابط. وتلك هي الغاية الجهنمية التي رمى إليها المستعمرون؛ لأنهم يعلمون تمام العلم أنه متى عم الاستهتار بالعقيدة، ساد الانحلال، ومتى ساد الانحلال انهار الكيان من أساسه، ومتى أنهار الكيان تثبتت أقدام الاستعمار. وسر ذلك أن المستعمرين قد حنقوا على أهل هذه التعاليم القوية المتينة، فودوا أن يعملوا على ضعضعة قواهم، ومحو هيبتهم ومقاومتهم، وقد استعملوا لهذه الغاية سلاح إزلاق الشباب في هذا الاستهتار بالشعائر الدينية، وإبعاده عن فهم مغزى الأوامر السماوية، وأغلقوا دون عقوله أبواب الحضارة الإسلامية الأصيلة، وفتحوا أمامه لمعان المدنية الغربية المادية.
ولكن لو أن المسلمين المسؤولين عن تربية الشباب وقيادته نحو الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية السليمة، قد فهموا دينهم حق الفهم، ولقنوا الشباب مبادئه وتعاليمه على أصولها، وراقبوا تطبيقها مراقبة دقيقة، لو أنهم فعلوا ذلك لاحتقر الشباب سخرية الساخرين منهم، ولتباهوا بقوة الإيمان، وثبات العقيدة، والمحافظة على تأدية الواجبات الدينية والدنيوية، ولنظروا إلى المثل العليا المرسومة في دينهم، وتطلعوا إلى السمو الممثل في مبادئهم وشعائرهم، ولأيقنوا أن هذه المبادئ، وتلك الشعائر من شأنها أن تقودهم إلى الحرية والسعادة؛ بل إلى الرفعة والسيادة، لا عن طريق الاستبداد والطغيان، والاستعلاء والتحكم في شؤون الغير؛ بل بوساطة المبادىء العالية المسعدة وذلك لأنه إذا انتصرت في قلوب المؤمنين روح الخير، تعهدت العلائق بين الإنسان وربه بالتقوية والتنمية، ومتى تقوت هذه العلائق، جعلت النفس المؤمنة، تتلقى أوامر السماء بهيئة نقية صافية، ثم تمليها أولا على حياتها العملية الخاصة، لكي يطبق العلم على العمل، فتتحقق الحكمة ﴿وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ .
وإذا تم له ذلك، أفاض تلك الأوامر الإلهية على بيئته ومجمعه، وقد تتسع الدعوة حتى تعم الإنسانية جمعاء، فتصلح حالة الدنيا، ويسودها الوئام والسلام، وتعمها العدالة والنصفة، ويحل الرضى محل النزاع، وتشغل المحبة من النفوس موضع البغض والحفيظة. ومن آيات ذلك أن الأوامر الإلهية، كانت منذ غابر العصور، وستظل، تقتاد بني الإنسان إلى الفلاح والكمال، إذا وضعوها موضع الاحترام والعناية والتطبيق، ولكنها – ولا قدر الله – تشهد دمارهم وفناءهم، إذا هم سحبوا عليها أذيال الإهمال والنسيان.
فإذا كانت كل الظروف والأحوال شاهدة بأننا كنا في أشد الحاجة إلى إرشاد الأوامر السماوية، وقيادة الكتاب الكريم، والسنة الغراء، لجميع أقوالنا وأفعالنا وخطواتنا وتصرفاتنا، وأن ذلك كله كان قبل أن نختلط بالأجانب، ونتعرض لما هب علينا من ربوعهم من عواصف الفتن والغوايات، فكيف بنا بعد أن انهمرت علينا من أصقاعهم سيول المادية، والميوعة والتحلل، والزندقة، والإلحاد؟
نعم إن الذين ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية عائمة، تفتنهم روعة المدنية الغربية البراقة، التي يؤلف إنتاجها العلمي والأدبي والفني والثقافي ألوانا لماعة، لشبح مدنية زائفة، تعلن أنها راقية مصقولة. وتزعم أنها بعيدة عن كل عنف وقسوة. ولكن النظرة الفاحصة تكشف للأدقاء المتعمقين حقيقة هذه المدنية، وتبين في وضوح أن الأزمات الخلقية الراهنة النابعة من الغرب، تنم عن غلظة وفظاظة، لا نظير لهما إلا بين الوحوش الحضارية، وأن الحربين العالميتين الأخيرتين، قد كشفتا لنا عن حقيقة هذه المخلوقات التي يعتبرها القشوريون عندنا ينابيع المدنية، وإن الحالة الراهنة تظهر لنا أن كل ما بينهم، هو عبارة عن كفاح وحشي حاد دائم، مخبوء تحت ستار الحقد والغل والجشع المغطى بالنفاق الكثيف حينا، والخفيف أحيانا، وأنهم غارقون في معارك طاحنة لا نظير لها في عهود البشرية الأولى التي يطلق عليها أولئك المتبجحون الماجنون اسمي العصر الحجرى، والعصر الحديدي.
وذلك لأنهم استخدموا في ضروراتهم البغيضة مقدرتهم العقلية. ووسائلهم التكنولوجية، ومخترعاتهم الميكانيكية، التي تزلزل تنوعاتها وتجديداتها المتوالية، جميع النظريات العلمية السابقة بمباغتاتها المفاجئة، فتقضي على مظاهر الاعتدال والاتزان، ولا تلبث أن تحقق رجحان إحدى الكفتين حينا من الزمن، سرعان ما يزول، ويتخلى للكفة الأخرى عن ذلك الامتياز. وهكذا دواليك صعودًا وهبوطا تتابعهما الأبصار والعقول والقلوب بلا ثبات ولا استقرار.
وتلك بالإجمال هي حرب الفروض والتكهنات والرهبة والفزع والتسابق على الأسلحة المدمرة والجاسوسية والتنافس في مضاعفة الميزانيات لتقوية مصانع التخريب والتقويض. ومن المجون أيضا أنهم يسمونها حروب المذاهب والمبادئ، وكان الأولى بهم أن يطلقوا عليها اسم «حروب القهر على التمذهب» أو الإجبار على اعتناق المبادئ، ولو لم تسترح لها العقول ولا القلوب.
غير أن هناك من بني الإنسان أفرادا وجماعات، يعرفون واجباتهم، ويدركون أن الضرورة تحتم عليهم مجاراة أولئك الذين ليس لهم من الإنسانية إلا اسمها. ولكن إخلاصهم لبلادهم، وأملهم في إنقاذ مبادئهم من مخالب هذه الوحوش الضارية، يتطلبان منهم أن يسايروهم في الاستعداد استجابة لأمر كتابهم: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ لا سيما أنهم يعلمون تمام العلم زجاجية ذلك السلام الظاهري الزائف، الذي ينادي به أولئك المنافقون، ويوقنون بامتلاء قلوبهم بالحفائظ والتحفزات، للهجوم في كل لحظة من لحظات النهار والليل.
ولا ريب أن هؤلاء الأناس الجديرين باسم الإنسانية يعلمون أنه حين يجد الجد تتحدد مسؤوليتهم وتبدو هائلة. ومن ثم يستعدون لتلك الساعة، ويعدون مشروعاتهم التي ستتلاقى مع أمثالها، والتي هم يتنبؤون بها، ويحسبون حسابها، كأنهم يتغلغلون في أعماقها منذ الآن، لكي يستطيعوا – بفضل إتقان دراستها – أن يردوا على كوامن مشروعات أعدائهم وألا تأخذهم ابتكارات أولئك الأعداء على غرة.
لذلك كله نحن ندعو الأمة العربية خاصة والأمم الإسلامية عامة أن تتكتل لمواجهة هذه الأخطار الوحشية، وأن تعتصم بحبل الله القوي المتين، وأن تنقب في دينها عن تلك المبادئ العالية، التي هي وحدها القديرة على تعميم السلام، وإنقاذ البشرية من هذه الوهدة، التي هي سائرة على حافتها، والتي لو لم تغشها تلك المبادئ السماوية، لتردت فيها، وقضي عليها القضاء الأخير. ونهيب بالمسلمين ألا يقفوا سلبيين أمام هذه السيول العارمة، والعواصف العاتية، والأحداث المجتاحة، فليس أبغض إلى الإسلام، ولا أبعد عن تعاليمه من السلبية والجمود.
كما ندعوهم إلى أن يصونوا أبناءهم وبناتهم عن التحلل والميوعة بإحكام تربيتهم على النماذج الإسلامية، إذ أن التربية هي الوسيلة المثلى التي يؤسس بها كل مجتمع في قلوب أبنائه الدعائم الجوهرية لوجوده الخاص، وهي الأثر الخالد الذي تتركه الأجيال الناضجة في نفوس الأجيال التي لم تنضج بعد، ولم تهيأ لحسن مزاولة الحياة الاجتماعية. وهدفها الرئيسي هو أن تنشئ وتنمي في تلك الأجيال الشابة مزيجا من الشعور بالحاجة إلى العوامل الدينية والأخلاقية والعقلية، إلى جانب القوة البدنية التي هي ضرورية لقوام المجتمع بوجه عام، وللأوساط التي تحيا فيها بنوع خاص.
ومنشأ ضرورة التربية والحاجة الماسة إليها هو أن الطفل لا يحمل معه إلى الحياة إلا طبيعته الفردية بالأنانية الغريزية، ولكنه يحمل أيضا الاستعداد لتعلية تلك الأنانية وترقيتها. ومعنى هذا أن المجتمع – بازاء كل جيل جديد – يكون أمام صحيفة بيضاء ينبغي أن يبذل جهوده لينقش عليها ما يجعلها صالحة للحياة والسعادة المسعدة للغير أي أن المهيمنين على أموره يجب عليهم – عن طريق أصلح المناهج – أن يمزجوا بذلك الكائن الأناني كائنا آخر عادلا معتدلا، قادرا على قيادة حياة خلقية واجتماعية، لا تستطيع الوراثة أن تحققها له.
ولما كانت هذه الجهود في أشد الحاجة إلى مدنية دائمة السير إلى الأمام، لتكلل مساعيها بالنجاح، وتضمن لباذليها الفوز بنتائج جهودهم.
ولما كان كل متأمل في المدنية الغربية المادية، يتضح له تمام الاتضاح أنها سائرة إلى التدهور والاندحار بخطوات واسعة نرجو ألا تهوي بسببها الإنسانية كلها إلى الحضيض.
ولما كانت الحضارة الإسلامية هي وحدها المستقيمة المعتدلة المتزنة السائرة إلى التقدم والرفعة، ولم تكب عبر التاريخ في أية نكسة إلا بسبب تقصير أبنائها أو انحرافهم عن مبادئ دينهم القويم.
لما كان كل ذلك من الحقائق الواقعية الناصعة، فإن أقل ما يحقق الإنسانية من مسكة العقل، يحتم على المهيمنين على شؤون الأطفال والمراهقين ألا ينشؤوهم إلا على مبادئ التربية الإسلامية ليضمنوا لهم الاستقامة والقوة والشهامة والعدالة والسهر على إسعاد المجتمع الذي يعيشون فيه؛ بل على إسعاد الإنسانية جمعاء «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا».
وأكثر من ذلك أن مبادئ الإسلام لا تقف عند تسوية الغير بالنفس إلا بإزاء المسلم العادي، أما المسلم الذي يتطلع إلى مزيد من السمو، ويمد عيني قلبه إلى وفرة من رضاء ربه، وإلى رفعة منزلته الخلقية، ولا يكتفي بمستوى الأخيار؛ بل يرنو إلى مكانة الأبرار، فهو يفضل الغير على نفسه، ويقف في الدرجة الثانية أو الثالثة: ﴿وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾. * * *
(*) أستاذ الفلسفة بجامعة الأزهر.
مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47