بقلم: الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود(*)
-1-
الحضارة السليمة: هي الحضارة التي استكملت جميع مقوماتها، ولا خلاف بين ذوي الآراء المستنيرة في أن مقومات الحضارة الأساسية إنما ترجع إلى أربع: العلم، ومما لا شك فيه، أنه لا يتأتى أن تقوم حضارة بدون علم، والعلم إذن: هو الأساس الأول الذي تبنى عليه الحضارات؛ بل إنه قد تقوم حضارة ما على العلم وحده، فيكون العلم: هو المقوم الوحيد لهذه الحضارة، ولكنها تكون حضارة ناقصة؛ بل تكون حضارة بتراء.
والمقوم الثاني للحضارة الذي لا تقل أهميته عن أهمية العلم، والذي إذا وزنا الأمور بمقاييس الروح وقسناها بموازين إسعاد الإنسانية، يفضل العلم المادي، هو الجانب العقدي.
والعقيدة إذن هي: المقوم الثاني للحضارة، فإذا ما انتفت العقيدة، وزالت فقامت الحضارة على العلم وحده، فإن الإنسانية تشقى بها شقاء لا يعوضه ما تجد من ترف مادي يكفله لها العلم المادي.
بيد أن العقيدة إذا ما أصبحت شكلا ورسما، أو صورة وهيكلا، فإنها لا تفيد كثيرا في أن تسم الحضارة بسمة الروح الحقة، أو تطبعها بطابع الإنسانية الكريمة…
ولا بد إذن من الجانب الثالث وهو الأخلاق، وما من شك في أن الاخلاق بدون عقيدة، لا تقوم لها قائمة، وإنما تكون سفسطة، لا غناء فيها، أو فلسفة جدلية، لا تنبع من القلب، ولا تثبت أمام تيارات الأهواء.
إن الرحمة والإخاء، وإن المودة والتعاون وإن الشجاعة والكرم، وإن الفضيلة على وجه العموم، وإن الخير في صوره المتعددة، إن كل ذلك لا يكون وليد دراسات فلسفية ولا نتاج جدل كلامي.
والأخلاق التي تكون مقومة للحضارة إذن، مؤثرة على القلب، غامرة للكيان الإنساني: إنما هي الأخلاق الدينية، فإذا ما انفصلت الأخلاق عن الدين، فإنها لا تساوي، في موازين الرحمة والأخوة، أو بتعبير أدق في عالم القلوب والأرواح قلامة ظفر.
إن الإنسان لا يخضع في سلوكه الأخلاق للفلسفة، وهي متعارضة مختلفة، وهي تذهب في الشرح والتعليل والتوجيه كل مذهب، وهي تنقض اليوم ما أبرمته بالأمس، وتنقض غدا ما أبرمته اليوم.
إن الفلسفة – هكذا وجدت، ونمت وتطورت، واستمرت – متأرجحة، لا دوام لها على رأي، ولا استقرار لها على حال.
وإذا كانت العقيدة التي نعنيها ويعنيها المصلحون، كمقوم للحضارة: إنما هي عقيدة من وحي السماء، فإن الأخلاق التي نعنيها والتي يعنيها المصلحون المخلصون إنما هي من وحي السماء.
أما المقوم الرابع، فإنه التشريع العادل: والتشريع العادل، هو التشريع الذي يلم واضعه بظروف الإنسان وطبيعته وفطرته إلماما كاملا، فيصدر التشريع على علم تام، ولا يتأتى ذلك لبني البشر، وتشريع بني البشر – حسبما شاهد المشاهدون – لا يقود الناس للخضوع له عن طواعية واختيار، بل يقودها للطاعة رهبة القانون، وهي كلما أنست من نفسها استطاعة الفرار من طائلة القانون أخلت به، وكلما أنست من نفسها المقدرة على هدم أسوار القانون هدمته….
ولا بد إذن من تشريع تنقاد له الإنسانية طواعية واختيارا وهو التشريع الإلهي:
العلم، والعقيدة، والأخلاق، والتشريع: تلك هي مقومات الحضارة السليمة، وكل حضارة لا تتوفر فيها هذه المقومات، فإنما هي حضارة ناقصة بمقدار نقص مقوماتها.
-2-
فلننظر الآن في الإسلام في ذاته، وفي الإسلام من خلال التاريخ حتى نتبين مدى تضمنه لهذه المقومات، ومدى تحقيقه لها على مر الزمن مقارنين كل ذلك بالحضارة الحديثة.
ونبدأ بالعلم. ولا ريب في أن الحضارة الحديثة، بدأت في قوة جارفة بمنهجين في العلم يختلفان ويتعارضان ويتنازعان أحدهما: المنهج الحسي التجريبي، أو المنهج البيكوني.
والثاني: المنهج العقلي البدهي، أو المنهج الديكارتي أو المنهج الحدسي حينما نفسر الحدس، كما فسره المناطقة بأنه انتقال الذهن إلى المطلوب بسرعة.
وكل من المنهجين نشأ معارضا، لمنهج القياس الأرسطي:
وكل منهما يرى أن القياس الأرسطي: إنما يعني بالصورة والشكل، ولا شأن له بالحقيقة والجوهر؛ بل ولا شأن له بالواقع والتطبيق. ومن أجل ذلك سمي بالمنطق الصوري: أي منطق الصورة لا الجوهر.
والمنهج البيكوني: هو منهج علمي.
أما المنهج الديكارتي: فإنه منهج فلسفي.
وسنتحدث عن منهج ديكارت إن شاء الله، حينما نتحدث في مقال تال عن العقيدة. أما الآن فسنقصر الحديث على المنهج التجريبي:
إنه منهج الاستقراء أي تتبع الجزئيات – عن طريق التجربة فيما يمكن أن يخضع للتجربة، وعن طريق الملاحظة فيما لا يتأتى أن يخضع للتجربة – للوصول إلى الحكم عليها في صورة من صورها حكما كليًّا أو – بعبارة أخرى – للوصول إلى اكتشاف القوانين العامة، أو للوصول إلى معرفة نواميس الكون.
ومجال الاستقراء: إنما هو الطبيعة، لأنه ملاحظة جزئيات في عالم الطبيعة.
وأداته الحس، فهو ملاحظة محسوسات.
-3-
وعلى أساس من هذا المنهج قامت الحضارة الأوروبية الحديثة بكل ما فيها من صناعة في الطبيعة ومن اكتشافات في الكيمياء، ومن قوانين فلكية، من اختراعات في جميع المجالات المادية والحسية.
وعلى أساس من هذا المنهج أيضا ستتطور هذه الحضارة وترقى وتتسع كما وكيفا إلى ما شاء الله.
وهذا المنهج في المشهور المتعارف يدين في وجوده إلى «فرنسيس بيكون» ولكنه عند الدارسين لتاريخ الفكر الأوروبي يدين «لروجر بيكون»، أكثر مما يدين لغيره، والملاحظون الدارسون للعلوم يرون أن روجر بيكون كان أدق وأعمق في بيان المنهج وفي تطبيقه.
بيد أن روجر بيكون – على خلاف مواطنيه – يعترف في صراحة لا لبس فيها، وفي وضوح لا شائبة فيه أنه مدين في منهجه للعرب وللحضارة العربية.
هذه الحقيقة التي حاول الغربيون جاهدين أن ينكروها، ويخفوها فيما مضى، يعلنها الآن بعض المنصفين منهم، فها هو ذا الأستاذ «بريفولت» يتحدث في كتابه: «بناء الإنسانية» عن أصول الحضارة الغربية فيقول:
إن روجر بيكون درس اللغة العربية، والعلم العربي، والعلوم العربية، في مدرسة أكسفورد، على خلفاء معلميه: العرب في الأندلس.
وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون: إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يَمَلَّ قط من التصريح: بأن تعلم معاصريه للغة العربية، وعلوم العرب: هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة.
والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي. هي طرف من التحريف الهائل، لأصول الحضارة الأوروبية.
وقد كان منهج العرب التجريبي، في عصر بيكون: قد انتشر انتشارا واسعا، وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوروبا.
ويقول بريفولت أيضا:
«لقد كان العلم، أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث: ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.
إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا. لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام.
ولم يكن العلم وحده: هو الذي أعاد إلى أوروبا الحياة؛ بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية: بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوروبية(1).
أخذت أوروبا المنهج العلمي المادي عن الإسلام باعتراف واضع هذا المنهج نفسه، وباعتراف المنصفين من المؤرخين وليس بعد اعتراف واضع المنهج نفسه مقال لقائل.
ومع ذلك فإن المنهج الإسلامي، أكمل وأتم، وأشمل، وقد أخذته أوروبا ناقصا.
=========== (1) انظر كتاب التجديد الديني في الإسلام للدكتور إقبال ترجمة الأستاذ عباس محمود.
(*) عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر.
مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47