إلي رحمة الله
بعد مرض عاناه سنوات انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم السعودي المتضلّع الشيخ عبد الله بن حسن بن محمد بن حسن بن عبد الله القعود ، المعروف بـ«الشيخ ابن قعود» عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء الأسبق . وذلك بالرياض في صباح يوم الثلاثاء 8/رمضان بالقياس إلى التقويم السعودي و 6/رمضان بالقياس إلى التقويم الهندي 1426هـ ، الموافق 11/ أكتوبر 2005م . فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وصُلِّيَ عليه في اليوم نفسه بعد صلاة العصر بجامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض . أمّ الناس بالصلاة عليه المفتي العام بالمملكة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، وتقدَّمَ المصلين سموُّ أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز ، وعدد وجيه من الأمراء والعلماء والمشايخ وعامّة المسلمين إلى جانب عدد كبير من طلبة العلم الذين كانوا يحبون الفقيد لعلمه وفضله وصلاحه . و وُرِّيَ جثمانه في «مقبرة العود» بمدينة الرياض .
قضى ابن قعود – رحمه الله – حياة حافلة بالدعوة إلى الله والإفتاء والأعمال العلمية والاهتمامات الدينية حتى أقعده المرض منذ نحو ثلاث سنوات قبل الوفاة ، وكان خطيبًا قديرًا، وعالمًا متضلعًا ، وداعيًا بصيرًا، وناصحًا شفيقًا ، يَتَّكِئُ على الإخلاص ، ويَتَوسَّدُ التواضعَ في كل ما يأتي ويذر؛ فكان حبيبًا لدى العامة والخاصّة . وقد كان حقًّا من جيل العلماء المنصبغين بصبغة السلف في السيرة والسلوك والتعامل العامّ مع جميع أمور الحياة . وقد بدأ هذا الجيل ينقرض ، ولا يكاد يخلفه من الجيل الناشئ من يحذو حذوه في الجمع بين العلم النافع والعمل الصالح والتواضع وإنكار الذات والإخلاص الذي يصبح كل عمل بدونه هباءً لاقيمة له في ميزان الحسنات يوم القيامة . ورغم أنّه كان رقيقَ القلب ، كثيرَ البكاء من خشية الله ، تعلوه مهابةُ العلمِ ووقارُ العلماءِ الصالحينِ ، كان لطيفَ المعشر، حريصًا على مخالطة الناس ، ويظلّ قريبًا منهم ، مطّلعًا على أحوالهم ، وكانت الابتسامة ترقص دائمًا على شفتيه .
وكان من ديدنه أنه كان يقف للناس بعد صلاة الجمعة بباب الجامع الذي كام إمامًا وخطيبًا فيه ، يجيب عن أسئلتهم ، ويحلّ مشكلاتهم ، ويعاونهم على القضايا التي يتعرّضون لها .
وكان – رحمه الله – يحب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – المتوفى 1420هـ / 1999م كثيرًا ، وكان مُعْجَبًا جدًّا بعلمه وتقواه ، وورعه وزهده فيما عند الناس ، وتَلُمِّسِه للحقّ أينما كان ، وخضوعِه له حيثما وُجِدَ، ومواقِفه في الدعوة والإرشاد والقضايا العلميّة والإفتائيّة . وكان حزنُه على وفاته كثيرًا جدًّا ، حتى قال الجالسون إليه من الأهل والمعارف أنه عاد منهوك القوى و مُحَطَّمًا من داخله منذ أن وَدَّعَ ابن باز رحمه الله تعالى .
وقد التقيتُه – رحمه الله – مرّات عديدة عندما كنت نزيلاً بالرياض لمدة ثلاثة شهور من عام 1403هـ / 1983م حضورًا في الدورة القصيرة لمُعَلِّمِي اللغة العربية لغير الناطقين بها التي ظلّت تقيمها جامعة الملك سعود . وكان المكتب الرئيس (مقرّ) الرئاسة العامّة لإدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدعوة والإرشاد يومئذ بالشميسي بجوار المستشفى . وكان على غلوة منه مكتب مجلّة «الدعوة» الأسبوعيّة ، وكان رئيس تحريرها الشيخ الصالح سعد بن محمد آل فريّان ، وقد تعرّفتُ عليه في إحدى الزيارات ، فتوطّدت الصلة الأخويّة بيني وبينه لصلاحه وتديّنه وخلقه الحسن وحرصه الزائد على إيناس الغريب واهتمامه بالأخوة الإسلاميّة ، ولكونه مشاركاً لي في كثير من الآلام والأحلام التي تهمّ الأمة الإسلاميّة، فكنتُ أزوره من وقت لآخر، فأتردّد إلى مكتب الرئاسة لكونه بجواره ، وكنت أزور فيه المشايخ والعلماء والدعاة ولاسيّما سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله رحمة واسعة – والشيخ الصالح عبد الرحمن مهيزع المهيزع مدير إدارة الدعوة في الخارج سابقًا ، والشيخ الصالح ابن قعود – رحمه الله – وقد وجدتُه عالمًا متقيّدًا جدًّا بأحكام الشرع ، ومحبًّا للعلم وأهله ، ولاسيّما الصالحين منهم، وقد كان يدني مجلسي إليه ، ويتحادث معي في أحوال مسلمي الهند ومؤسسات التعليم والدعوة في الهند. وتَعَرَّف عن طريقي على جامعتنا دارالعلوم/ ديوبند ، حيث عَرَّفْتُه بها في لقاءات عديدة بشكل يكاد يكون مُشْبِعًا ، فعاد يحترمها أكثرَ من كثير غيره من العلماء المنتمين إلى الرئاسة . كما كان – ولايزال – يحترمها كثيرًا جدًّا الشيخُ عبد الرحمن مهيزع المهيزع الذي أَحَبَّنى وأحببتُه في الله ، وأعتبر هذا الحبَّ ذريعةً لي إلى النجاة يومَ لا ينفع مال ولابنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم .
موجز من ترجمته رحمه الله
وُلِدَ الشيخ ابن قعود – رحمه الله – ليلة 17/ رمضان 1343هـ (13/ مارس 1925م) ببلدة «الحريق» بوادي «نعام» أحد أودية اليمامة جنوب مدينة الرياض .كان والده أحد أثرياء البلدة ، فنشأ الشيخ في بيت فضل وثراء ، وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة على يد الشيخ محمد بن سعد آل سليمان ، وكان آنذاك في آخر العقد الأول من عمره وأول العقد الثاني ، وحفظ القرآن كاملاً وهو صغير، وقرأ بعض مختصرات شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب على قاضي بلدة «الحريق» آنذاك الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم آل عبد اللطيف رحمه الله .
وفي 27/ صفر 1367هـ (13/ديسمبر 1947م) رحل إلى «الدلم» بمنطقة «الخرج» حيث كان سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – قاضيًا فيها، فظلّ يتعلّم منه ويلازمه أربع سنوات ، وقرأ عليه مجموعةً من الكتب التي تُعَدُّ أمّهات في الفقه والحديث وعلوم الشريعة ، وحفظ خلال ذلك عددًا من المختصرات ، منها «بلوغ المرام» . في مطلع عام 1371هـ (سبتمبر 1951م) أُسِّسَ بالرياض «المعهد العلميّ» الذي كان نواةً لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة بالرياض ، فالتحق به – رحمه الله – وتَخَرَّجَ من كليّة الشريعة عام 1377هـ (1957م) . وكان من أساتذته ومشايخه الكبار في الدراسة النظاميّة : الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ عبد الرزاق عفيفي ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطيّ ، والشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمهم الله جميعًا .
وتقلّب – رحمه الله – في وظائف رسمية عديدة، ففي عام 1375هـ (1955م) عُيِّنَ مدرسًا بالمعاهد ، وفي عام 1379هـ (1959م) انتقل إلى وزارة المعارف وعمل مُفَتِّشًا للموادّ الدينية بالمرحلة الثانوية ، وفي عام 1385هـ (1965م) انتقل إلى ديوان المظالم وعمل به عضوًا قضائيًّا شرعيًّا ، وفي 1/4/1397هـ (فبراير 1977م) انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وعمل بها عضوًا في اللجنة الدائمة للبحوث العلميّة والإفتاء بجانب عضويته في هيئة كبار العلماء ، إلى أن طلب التقاعد غرة محرم 1406هـ .
ولكنّه لم ينقطع عن النشاطات العلمية والدعويّة ؛ بل استمرّ يشارك في النشاطات العلميّة واللقاءات الدعوية إلى جانب إلقائه محاضرات في جامعة الملك سعود بالرياض لطلاب الدراسات العليا بقسم الثقافة الإسلامية ، كما استمرّ يفتي الناسَ ويرشدهم إلى أحكام الشرع فيما يعرضون عليه من المسائل ، وظلّ يلقي دروسه العلمية الأسبوعيّة في المسجد ، التي كان يقصدها كثير من طلاب العلم .
وكان – رحمه الله – إمامًا وخطيبًا بجامع المشيقيق بالرياض منذ شعبان 1378هـ (فبراير 1959م) وفي المحرم 1391هـ (فبراير 1971م) عُيِّنَ خطيبًا لجامع الملك فيصل بحي «المربع» بالرياض وظل يقوم بهذه الخدمة المشرفة طوال 18 عامًا ، حتى إعادة بناء منطقة مركز الملك عبد العزيز التاريخي وترميم الجامع عام 1418هـ (1997م) .
وإلى جانب هذه المشاغل الكريمة ، صدرت له عدد من المُؤَلَّفَات ، منها «أحاديث الجمعة» الذي صدر في أربعة أجزاء ، وهو يتضمّن مجموعة خطبه، ومنها رسالة «أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة» و رسالة «وصايا للدعاة» إلى جانب تعليقات له على بعض مقررات الحديث والفقه في المرحلة الثانوية والمتوسطة خلال عمله مُفَتِّشًا بوزارة المعارف ، وإلى جانب مئات من الفتاوى التي شارك في الإجابة عنها زملاءَه : أعضاءَ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
ومن كبار تلاميذه معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية حاليًّا ، والدكتور حبيب بن زين العابدين وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان سابقًا ، والدكتور عبد الله عبد المحسن التويجري الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض .
وقد أبدى كبيرُ علماء السعوديّة معالي الدكتور الشيخ عبد الله عبد المحسن التركي – حفظه الله – أمين عام رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة انطباعه عنه قائلاً :
«تربطني بالفقيد علاقاتُ صداقة متينة ؛ فهو من المخلصين لدينهم وأمتهم . ومن خلال زمالتي له في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعدد من المناسبات التي تجمع طلبةَ العلم ، عرفتُ عنه حرصَه على الحق والإدلاء به . كما أنّه تَمَيَّز – رحمه الله – بحسن الخطابة في جامع الملك عبد العزيز بحي «المربع» حيث كان الملك فيصل يحرص على الصلاة خلفه في صلاة الجمعة ؛ فرحمه الله وأسكنه فسيحَ جنّاته» .
وأعرب أمين عام الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض الدكتور صالح بن سليمان الوهيبي غاية حزنه وأسفه على وفاته رحمه الله فقال:
«فُجِعْنَا بوفاة عَلَم من أعلام الدعوة في المملكة، تَمَيَّزَ في مسيرته العلمية والدعوية بالجراءة الفطريّة في الصدع بالحق ، مع أدب جمّ ورعاية لأحوال الناس وجمع الشمل . وكان له – رحمه الله – اليد الطولى في التقريب بين وجهات النظر بين الدعاة . كما أنه تَمَيَّزَ بالتضحية بوقته وماله وجهده؛ فكان يفتح بابه لطلبة العلم ، ويقيم الحلقات ، وينتقل من بلد إلى آخر في سبيل العلم . وكان له – رحمه الله – اليد الطولى لكثير من صغار طلبة العلم للوصول إلى هيئة كبار العلماء ؛ فكان يستعمل جاهَه في خدمة الدعوة ؛ فرحمه الله رحمةً واسعة ، وأسكنه فسيح جنّاته .
وللفقيد – رحمه الله – ستة من الأبناء ، هم: محمد، سعيد ، عمر ، حسن ، عبد المجيد ، عبد العزيز .
رحمه الله وأدخله فسيح جنّاته ، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1426هـ = ديسمبر 2005م ، العـدد : 11 ، السنـة : 29.