إلى رحمة الله
بقلم: رئيس التحرير
nooralamamini@gmail.com
انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ محمد أسلم القاسمي الديوبندي ابن العالم الهندي الكبير الشهير فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله (1315-1403هـ = 1897-1983م) الرئيس السابق للجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند ابن الشيخ محمد أحمد رحمه الله (1279-1347هـ = 1862-1928م) الرئيس الأسبق للجامعة ابن الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله (1248-1297هـ = 1832-1880م) مؤسس الجامعة. وذلك في الساعة الثانية عشرة والربع من ضحى يوم الاثنين: 23/صفر 1439هـ الموافق 13/نوفمبر 2017م، بعد معاناة للمرض طويلة. وكان – رحمه الله – لدى وفاته في 83 من عمره بالنسبة إلى السنوات الهجرية، وفي 80 منه بالقياس إلى الأعوام الميلادية، فقد كان من مواليد 24/ربيع الآخر 1356هـ الموافق 3/يونيو 1937م، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
وقد صُلِّيَ عليه إثر صلاة العشاء في «محيط مولسري» بالجامعة الإسلامية: دارالعوم/ديوبند من الليلة المتخللة بين الاثنين والثلاثاء: 23-24/صفر 1439هـ الموافق 13-14نوفمبر 2017م، وأَمَّ الصلاةَ عليه نجل شقيقه الأكبر الشيخ محمد سفيان القاسمي ابن فضيلة الشيخ محمد سالم القاسمي، وحضرها جمع حاشد من العلماء وطلبة العلم وأهالي مدينة ديوبند، وتم تورية جثمانه في المقبرة القاسمية المعروفة التي تضم قبور مُعْظَم مشايخ الجامعة.
إن وفاة الشيخ محمد أسلم القاسمي أحزن جميع الأوساط الدينية والعلمية إلى جانب أهالي مدينة «ديوبند» لأنه كان عالمًا وحيد الصفات، وكان يرجع نسبه إلى الإمام حجة الإسلام محمد قاسم النانوتوي، وكان خطيبًا كبيرًا باللغة الأردية حول السيرة النبوية، كما كان مؤلفًا بها في هذا الموضوع، على أنه كان إنسانًا ذا مروءة، يخزن لسانه إلّا عند الحاجة، متواضعًا، حليمًا وقورًا، متزن الفكر، جديًّا عند الكلام والسكوت، وكان مظهرًا للشرف الذي يمتاز به بيته الذي جمع بين علو النسب الديني والنسب الطيني.
كان قد انتسب لتحصيل العلم إلى الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند في الثالث عشر من عمره في 10/شوال 1369هـ الموافق 28/يونيو 1950م، وتخرج منها عام 1377هـ /1957م، وقد قرأ صحيح البخاري على شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني رحمه الله تعالى (1295-1377هـ = 1879-1957م) ولكنه توفي يوم 12/جمادى الأولى 1377هـ الموافق 5/ديمسبر 1957م فأنهى قراءته على الشيخ المحدث السيد فخر الدين أحمد رحمه الله تعالى (1307-1392هـ = 1889-1972م) وقرأ صحيح مسلم وجامع الترمذي على الشيخ العلامة محمد إبراهيم البلياوي رحمه الله تعالى (1304-1387هـ = 1886-1967م) وقرأ معاني الآثار للطحاوي على الشيخ سيد حسن الديوبندي رحمه الله تعالى (المتوفى 21/جمادى الأولى 1381هـ الموافق 1/نوفمبر 1961م) وقرأ سنن أبي داود على الشيخ السيد فخرالحسن المراد آبادي رحمه الله تعالى (1323-1400هـ = 1905-1980م) وسنن النسائي على الشيخ بشير أحمد خان البلند شهري رحمه الله تعالى (المتوفى 8/جمادى الآخرة 1386هـ الموافق 24/سبتمبر 1966م) وموطأ الإمام محمد على الشيخ جليل أحمد الكيرانوي رحمه الله تعالى (المتوفى 1388هـ/ 1968م) وموطأ الإمام مالك وسنن ابن ماجه على الشيخ ظهور أحمد الديوبندي رحمه الله تعالى (1318-1383هـ = 1900-1963م) وشمائل الترمذي على الشيخ عبد الأحد الديوبندي رحمه الله تعالى (1329-1399هـ = 1911-1979م).
وكان السقف النهائي للعلامات في الامتحان في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند في عهد تعلمه بالجامعة، بل إلى ما قبل سنوات، أي إلى العام الدراسي 1430-1431هـ الموافق 2009-2010م، خمسين علامة لكل مادة أو كتاب، فالعلامات التي فاز بها في الامتحان النهائي لنيل شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية في الجامعة، تدلّ على أنه كان طالبًا مجتهدًا، ولم يكن طالبًا مهملًا مثل معظم أبناء المشايخ الكبار الذين لايجتهدون في الدراسة كما ينبغي ظنًّا منهم أنهم أولاد المشايخ الكبار، وأنهم يَحْظَون بفضل النسب بجميع الفضائل التي يَتَوَخَّاها الإنسانُ عن طريق التحصيل العلميّ والأهليّة الدراسيّة.
فنال من العلامات في صحيح البخاري 46، وفي جامع الترمذي 43، وفي صحيح مسلم 42،وفي سنن أبي داود 50، وسنن النسائي 50، وفي سنن ابن ماجه 48، وفي معاني الآثار 50، وفي الشمائل المحمدية للترمذي 48، وفي موطإ الإمام مالك 50، وفي موطإ الإمام محمد 49.
وإثر تخرجه التحق بجامعة «عليجراه» الإسلامية ونال منها شهادة الدراسة العصرية واللغة الإنجليزية. ثم بدأ يعمل بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند مديرًا لقسم الكهرباء، وخلال توليه مسؤولية القسم أُسْنِدتْ إليه مهامُّ إدارة اللجنة التحضيرية لعقد الاحتفال المئوي الشهير الذي عقدته الجامعة في مارس 1980م (جمادى الآخرة 1400هـ) فاعترف الجميع بأهليته الإدارية.
أذكر أنني في عهد تعلمي بالجامعة كنتُ أرى شابًّا خلال ترددنا إلى البوابة الرئيسه للجامعة جالسًا في مكتب الشؤون الكهربائية الكائن في محيط المكاتب الجامعية على الجانب الأيمن للمتوجه إلى البوّابة، كانت تُزَيِّن وجهه الوضيئ الأبيض لحية مكثفة مقصوصة الأطراف، وكانت عليه عندها براءةُ حداثة السن ممزوجة بنوع من اللامبالاة الشبابية، وكان لايشف وقتئذ أيٌّ من سلوكه عن كونه مُؤَهَّلًا لأداء مسؤولية ذات أهمية، فضلًا عن أن يشف عن أنه سيُعْرَفُ يومًا ما بكونه مؤلفًا في موضوع السيرة النبوية، وخطيبًا فيها مشارًا إليه بالبنان، وعالـمًا وقورًا محترمًا في الأوساط الدينية وشيخًا للحديث، ويرحل عن دنيانا محتلًا للمكانة المرموقة التي تجعل خلقًا لا يُحْصَىٰ يسعد بمجرد مسّ جنازته خلال تشييعها إلى مثواها الأخير بالمقبرة القاسمية التي تضم رفات جده الأعلى الإمام محمد قاسم النانوتوي.
إن العظمة النسبية، وسمو الحسب، وصلاح الأجداد، وعِصَامِيَّة الآباء، ستؤتي ثمارها لا مَحَالَةَ يومًا ما، ولذلك يعتقد كاتب السطور أن أولاد الكبار وأبناء المشايخ الصالحين، ستتفتح فضائلهم يومًا ما؛ ولكن الوقت المناسب المحدد، والمناسبة المقدرة للتفتح لا يعلمهما إلا الله عزوجل.
قرر المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند عام 1397هـ/1977م عقد الاحتفال المئوي في مارس 1980م (جمادى الآخرة 1400هـ) على المستوى العالمي، وأقام للتحضير واتخاذ الاستعدادات للاحتفال مكتبًا موسعًا، وأسند إدارة الشؤون الإدارية له إلى الشيخ حامد الأنصاري غازي رحمه الله تعالى (1327-1413هـ = 1909-1992م) ولكنه من أجل ضعفه الذي كان يعانيه من أجل كبر سنّه لم يتمكن من القيام بمسؤوليته على ما يرام مما جعل المسؤولين عن الجامعة يشعرون بمخاوف من أن الاحتفال قد لا يمكن عقده في وقته المحدد، فقرر المجلس الاستشاري بعد مداولة الرأي إسناد مسؤولية القيام بالشؤون التحضيرية إلى الشيخ محمد أسلم القاسمي، فتولى المسؤولية في 1399هـ/ 1979م، وبدأ يؤدي الأعمال المتعلقة بالتحضير على المستوى الكبير الذي شمل توفير جميع التسهيلات اللازمة لمثل هذا الاحتفال العالمي الذي حضره مئات آلاف من الحضور من شتى أنحاء الهند وأنحاء العالم الإسلامي. وقد جعلت الترتيبات الأنيقة اللائقة التي قام بها الشيخ محمد أسلم جميع الضيوف الذين شهدوا المدينة المتكاملة التي كانت قد قامت للاحتفال مُزَوَّدَة بجميع التسهيلات التي يحتاج إليها البشر في حياتهم اليومية، يدهشون لها ويقولون: أَنَّىٰ أتيح للجامعة أن تقوم بهذه الترتيبات الواسعة التي تقتضي كثيرًا من الوقت وتُكَلِّف كثيرًا من المال والرجال العاملين ليل نهار المتحركين طوال الشهور والأيام. والذين كانوا يعرفون العامل الأساسي وراء توفر هذه الوسائل وقيام هذه الترتيبات، المتمثل في الشيخ محمد أسلم القاسمي، كانوا يُثْنُون عليه ويكيلون له المدح ويدعون له.
ما إن انفضّ الاحتفال، حتى سادت الجامعةَ الاضطرابات الداخلية لسوء الحالة الإدارية، فسيطرت على الجامعة إدارة أخرى تحت رعاية المجلس الاستشاري مكان الإدارة التي كانت تعمل تحت رئاسة رئيس الجامعة سماحة الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله تعالى، الذي انفصل منها هو و عدد من الأساتذة والموظفين، الذين أقاموا في 1402هـ/1982م مدرسة باسم «دارالعلوم وقف» في جامع مدينة ديوبند، انتقلت منه بعد سنوات إلى مبنى مستقل في الأراضي الواسعة التي حصلوا عليها في الجانب الجنوبي الغربي من مصلى العيد بالمدينة.
وكان الشيخ محمد أسلم أحد العلماء الذين أُسْنِدَت إليهم مسؤوليةُ التدريس بـ«دارالعلوم وقف» فكان أستاذًا مُؤَهَّلًا نافعًا استفـاد منه الطلاب كثـيرًا، وكان عاملًا قـويًّا من عوامل السمعة الطيبة التي كسبتها «دارالعلوم وقف» وتولى منذ اليوم الأول تدريس «مشكاة المصابيح» و«سنن أبي داود»و«جامع الترمذي» على حين إنه أمضى أكثر من ربع عمره العملي في مشاغل غير دراسية لاتمت بصلة إلى التدريس والدراسة والكتابة، وخلال تدريسه اتجه إلى الكتابة والتأليف فألف عددًا من الكتب باللغة الأردية ولاسيّما في موضوع السيرة النبوية، فكان أسلوبه الكتابي سهلًا سائغًا عذبًا يسيغه حتى العامة وصغار السن من طلاب علوم الدين، كما اشتهر كثيرًا خطيبًا بارعًا في موضوع السيرة والمواضيع الإسلامية العامة، ويتبع في كل من التدريس والوعظ أسلوب والده العظيم سماحة الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله، الذي كان يجمع بين الجزالة والسهولة والعذوبة والجذابية، مما يُكْثِر عددَ الحضور في الفصول الدراسية والحفلات الدينية.
على كل فإن الشيخ محمد أسلم القاسمي رحل عن دنيانا ولم يكن عنده لحبّه والإعجاب به من الفضائل ما يتمثل فقط في السموّ الأسري، والفضل النسبي، والسمعة الحسبيّة، والتراث العلمي الجدّي، وإنما كان عنده كذلك من فضائل العلم والعمل الذاتية وسمو السيرة الشخصية السامية ما لن ينفد أبدًا بل يتسبب في ارتفاع درجاته إن شاء الله في جنات النعيم، ورجحان كفة حسناته وطيش كفة سيئاته بإذن الله عز وجلّ.
إنه عاش حياة التوازن والاعتدال والجِدِّيَّة والوقار ونوع من العزلة المحمودة، زاهدًا في حياة الشجار والخصام، والحرص على طلب الشهرة والمنافسة في كسب «العظمة الصناعية» وأوصى أولاده قبل أن يلقى الله عز وجل بأن يظلّوا قائمين على الاعتدال واللاعنف والتطرف، وعلى أداء الأمانة إلى أهلها، والعفو والصفح عن الناس.
وكان يشابه والده العظيم سماحة الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله تعالى في الصورة والسيرة، فقد كان أسلوبه في الخطابة والتدريس والنطق العام يُذَكِّر بالشيخ محمد طيب، وكان نسخة منه في الحلم والكرم، وكانت مِشْيَتُه تحاكي مِشْيَتَه الفريدة الطيبة، التي تُمَيِّز شخصيته وتُعْجِب كلَّ راءٍ، وكان مثلَه في المحافظة على الأوراد والأذكار التي كان يشتغل بها إثر صلاة الفجر، وكان يتلو القرآن الكريم إثر صلاة المغرب، أما بعد صلاة العشاء فكان إلى قبل الإصابة بالأمراض، يشتغل طَوَالَ نحو ساعتين بالكتابة والدراسة، وكان يتحدث مع الناس بكلمات موزونة محدودة، ويأتي حديثه حلوًا هادئًا، وكان الجالسون إليه يشعرون بحبّ وألفة، وكان يلاقي كل أحد كعضو عادي في المجتمع، وكان لايشف أيٌّ من سلوكه عن أنه يريد التظاهر بأي من فضله الديني أو العلمي أو النسبي، ولم يتعالَ على أحد بأي مما فيه من الصفات السامية.
وكان صهر (زوج ابنة) أستاذنا المؤرخ الإسلامي وأمين عام جمعية علماء الهند الأسبق الشيخ الفقيه المحدث السيد محمد ميان الديوبندي ثم الدهلوي رحمه الله تعالى (1321-1395هـ = 1903-1975م) حيث كان قد تزوّج ابنته «عائشة سلطانة» وقد ولدت له ابنين، وهما: الحافظ هشام القاسمي – الذي يدير شركة تجارية – والأستاذ محمد فاروق القاسمي – أستاذ بـ«دارالعلوم وقف» – وبنتين وهما: السيدة «فوزية» التي توفيت في 35 من عمرها بـ«أمريكا» التي كانت تقيم بها مع زوجها السيد صفير الله القدسي، وقد خلفت وراءها ابنين وبنتًا، والابنة الثانية: السيدة «فرح» التي هي متزوجة مع السيد بدر الإسلام في بلدة «كاندهله».
وكان الشيخ محمد أسلم القاسمي قد رافق كترجمان باللغة الإنجليزية والده سماحة الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله تعالى في رحلته التأريخية إلى أفريقيا الجنوبية، كما رافقه في عدد من رحلاته إلى أقطار الهند، وقد مكنته هذه الرحلات من أن يستقي الشيء الكثير من فضائل والده العلمية والعملية، وأنضجت خبراته بالحياة والناس، وجعلته يتشرب أسلوبه اللطيف في الخطابة والوعظ، مما وظّفه في حياته العملية، وأنار به دروب الحياة.
وشغل القاسمي رحمه الله أعوامًا منصب العضوية في المجلس الإداري لجامعة المسلمين بـ«عليجراه» كما أكرم بجائزة المصرف الإسلامي العالمي بمدينة «دهارا دون» وكان قد بايع والده في التزكية والإحسان، وبعد وفاته رجع إلى الشيخ المربي مولانا مسيح الله خان الجلال آبادي (1329-1413هـ = 1911-1992م) الذي كان متخرجًا في التزكية والإحسان على الشيخ الكبير والعلامة الجليل أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى (1280-1362هـ = 1863-1943م).
تغمده الله تعالى بواسع رحمته ورضوانه، وأدخله فسيح جناته، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1439 هـ = فبراير – مارس 2018م ، العدد : 6 ، السنة : 42