دراسات إسلامية

بقلم:  د. طه عبد السلام خضير (*)

       الرحمة خلق من مكارم الأخلاق في القمة، وفضيلة هي من فضائل الإسلام في الذروة، إنها ملاك الخير وجماع الفضل كله.

       والرحمة كمال في الطبيعة، ورقة في القلب، تثمر الرفق والرأفة ولين الجانب. ثم هي خلق رفيع يحرك في الإنسان عاطفة البر والخير. والرحمة متعددة الجوانب متفاوتة الدرجات أعلاها وأعظمها رحمة الله عز وجل بخلقه. ثم رحمة رسوله صلى الله عليه وسلم بأمته، ثم رحمة الناس بعضهم بعضًا وسنلمح هنا إلى أسمى هذه الدرجات.

       إن الرحمة في أفقها الأعلى وامتدادها المطلق صفة من صفات الذات الأقدس تباركت أسماؤه وصفاته، الذي شملت رحمته الوجود وعمت الملكوت فحيثما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شيء تجلى عطاؤه بوابل من فيض رحمته. ولقد وصف – عز وجل – نفسه بالرحمة والرأفة في كثير من آيات كتابه الكريم يقول عز من قائل: ﴿إِنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَءُوْفٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة:143)، ويقول: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوْفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:117).

       ولقد بدأ كتابه الكريم وافتتح سوره المباركة بصفتين من صفات رحمته «بسم الله الرحمن الرحيم» فهو تعالى الرحمن وهو الرحيم. وهو أرحم الراحمين ثم هو خير الراحمين. ولقد أفاض المفسرون في توضيح مدلول كل من الاسمين الجليلين الرحمن، الرحيم. كان من أفضل ما قيل: إن الرحمن هو المفيض للنعم بسعة وتجدد وبلا حدود ودلالة على استمرار هذا العطاء والجود بهذه الرحمة وصف نفسه بوصف يدل على الثبوت والدوام فهو تعالى الرحيم ذو الرحمة الثابتة الدائمة التي لا تنفك عنه لا أزلًا ولا أبدًا. وإذا ما نعمت أرواحنا في رحاب أسمائه الحسنى وصفاته المقدسة، وتأملنا أسرار مدلولاتها وجدنا أن الكثير من هذه الأسماء لله – عز وجل – ينبع من الرحمة ويرجع إليها. فهو تعالى غفار برحمته و وهاب برحمته، رزاق برحمته. وهو باسط وواسع برحمته. كريم لطيف برحمته.

       إن الرحمة الشاملة هي رحمة الله العزيز الرحيم الذي عمَّتْ رحمته الوجود وشملت الكائنات، فما من موجود إلا وبرحمة الله يحيا وفي ظلالها يعيش. يقول تعالى: ﴿وَرَحْمَتِىْ وَسِعَتْ كُلَّ شَئٍ﴾ (الأعراف:156)، ويقول: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيئٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِيْنَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ﴾ (غافر:7).

       وما أعظم فضل الله علينا نحن البشر لقد خلقنا ولم نكن شيئًا مذكورًا، ويسر لنا أسباب الحياة على أرضه وتحت سمائه، وربانا على موائد كرمه وفضله. أجرى لنا البحار والأنهار، وأنبت لنا الزروع والثمار، وسخر لنا الشمس والقمر، والليل والنهار ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوٰتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآىِٕبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَاٰتٰىكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:32-٣٤).

       لقد أنزل تبارك وتعالى قرآنه العظيم وهو آياته الكبرى، ومعجزة الإسلام الخالدة. أنزله هدى ورحمة، وغذاء للأرواح، وشفاءً لما في الصدور ﴿يٰاَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:٥٧).

       لقد بلغ من سعة رحمة الله تبارك وتعالى ما أحاط به المخلوقات منها حتى تحنو الدابة على ولدها وتعطف الطيور على ذراريها، كل ذلك إنما هو جزء من مئة جزء ادخرها لعباده المؤمنين في الآخرة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – يقول سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «جعل الله – عز وجل – الرحمة مئة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه». وصدق الله العظيم: ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْئٍ﴾.

       ولكن من هم المستحقون لهذه الرحمة؟ على هؤلاء المفرطين في طاعته والمستهينين بمعصيته أن يتدبروا قوله تعالى: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِاٰيٰتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف:١٥٦)، إن الآية صريحة في أن المستحقين للرحمة هم المؤمنون الذين يخافون الله فيمتثلون أوامره ويجتنبون كبائر الإثم والفواحش، هؤلاء الذين يذنبون فيتوبون إلى رشدهم ويلجأون إلى ربهم، يستغفرونه ويتوبون إليه. فما أقل حياءً عبد يطمع في رحمة الله بغير طاعة وعمل وفي الحديث القدسي: «كيف أجود بجنتي على من بخل بطاعتي».

       ومن عظيم فضل الله على عباده أنه تعالى أطمعهم في رحمته. ورغبهم في كريم عفوه، يذنبون فيغفر لهم ويسيئون فيتجاوز عن سيئاتهم، ويخطئون فيعفو عنهم ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ وَلٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلٰٓى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ (فاطر:٤٥).

       إنه تعالى يمهلهم ليتوبوا فيقبل توبتهم، ويعفو عنهم؛ بل ويبدل سيئاتهم حسنات. في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفرلكم»، ويقول تعالى: ﴿قُلْ يٰعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوْا عَلىٰٓ اَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوْا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر:٥٣).

       وفي صحيح مسلم عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان يوم القيامة ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار أخرج الله كتابًا من تحت العرش وفيه أن رحمتي تغلب غضبي وأنا أرحم الراحمين فيخرج من النار مثل أهل الجنة».

من مظاهر رحمة الله بعباده إرساله الرسل إليهم

       لقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير من خلقه بنعمة العقل الذي به يميز النفع من الضر والخير من الشر والحسن من القبيح، لكنه أودعه بجانب العقل كثيرًا من الغرائز والقوى التي لابد منها لتمام حياته وكمال وجوده كإنسان مستخلف عن الله في الأرض، ففيه غريزة حب النفس والأنانية والأثرة والاستئثار بالمنافع، وفيه قوة الشهوة وحب التملك، وآلام الإنسان ولذائذه لا تقف عند غاية، ومطالبه غير متناهية، ومع هذا فهو أسير شهواته، وعبد أطماعه ومنقاد إلى غرائزه وقواه المادية الداعية للظلم والنزاع والتنافر والتشاحن؛ بل إلى الفساد والدمار. هذه القوى والغرائز تستطيع أن تقاوم العقل وأن تتغلب عليه؛ بل وتؤثر فيه. من هنا لا تستقيم حياة الإنسان وهو يكل أمره إلى تدبير عقله فقط. وإذا كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا فإنه ليس في وسع البشر الذي طبيعته هذه أن يضع قواعد العدل التي بها ينظم العيش في هذه الحياة؛ بل ولا أن يحدد العلائق والصلات بين الأفراد والجماعات في حدود العدل.

       ثم كيف تشرع العقول وهي قاصرة وإدراكها متفاوت؛ فإن الشيء الواحد يستحسن فعله جماعة ويستقبحه آخرون؛ بل إن الشخص الواحد قد يستحسن الشيء في وقت ويستقبحه نفسه في وقت آخر. هذا العقل الذي عجز عن تنظيم شؤون حياته المشاهدة هو أشد عجزًا عن إدراك أحوال الآخرة المغيبة كالبعث والحساب والجنة ونعيمها والنار وعذابها، وفوق ذلك ليس في مقدور العقل أن يعرف ضالته معرفة تطمئن إليها النفس؛ إذ ليس في وسعه معرفة جميع ما يجب وما يستحيل وما يجوز في حق الله تعالى. لهذا كله ولغيره كان الناس في حاجة إلى قيادة رشيدة حكيمة مأمونة الجانب من الخطأ، يخضع لها العامة والخاصة. وكانوا محتاجين إلى من يرشد عقولهم إلى الخالق (جل وعلا) ويبين جلاله وسلطانه وأمره ونهيه. كانوا في أمس الحاجة إلى من يخبرهم عن الحياة الآخرة وما فيها من ثواب يرغب في الخير، وعقاب يرهب من الشر، ويضع قواعد العلاقات بين الناس على أساس من الحق والعدل؛ بل إن الناس محتاجون إلى من يبين لهم عن الله – عز وجل – ما كلفهم به من العقائد والعبادات والآداب والمعاملات تطهيرًا لنفوسهم وتهذيبًا لأخلاقهم من دنس الشرك وعبادة الوثنية، ونشرًا للعدل والسلام بين كافة الناس. من هنا كانت ضرورة إرسال الرسل إلى الخلق تفوق كل الضرورات؛ بل هي أعظم ضرورةً من حاجة البدن إلى الروح، والعينين إلى النور، والروح إلى الحياة.

       ولقد تفضل الله الرحيم بخلقه فأرسل  إليهم رسلًا من جنسهم، يرشدون الخلق إلى خالقهم ويرشدون العقل كذلك إلى معرفة من أوجده، يجمعون كلمة الناس على إلٰهٍ واحدٍ، ويذكرونهم بعظمته بما يفرضون من ضروب العبادات التي تهذب الطباع وتصقل النفوس بما يشرعون من قوانين العدالة التي يخضع لها الرئيس والمرؤوس والمالك والمملوك على السواء، ويرسخون في النفوس المبادئ والملكات الفاضلة والقيم السامية، والأمانة والعدل، والصفح والعفو، والوفاء بالعهد، آخذين في ذلك كله بطرف من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والإنذار والتبشير.

       وإذا كانت سعادتنا منوطة باتباع نبيٍّ كان جديرًا بالإنسان أن يعرف الكثير من سيرة نبيه، وأن يقتدي به، وأن يكون من حزبه. فإن حزب هذا الرسول هو الحزب الذي أخبر الله – عز وجل – عنه بأنه هو المفلح. والناس في هذا المقام بين مستكثر ومقل، مستكثر أعطاه الله الكثير، ومقل لم يحصل إلا على القليل، ومحروم لم يحصل على شيء البتة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

التيسير في الدين من مظاهر رحمة الله بعباده

       الإسلام هو دين الله تعالى الجامع لأصول شرائع الأنبياء والمرسلين، أقدر النظم التشريعية على تقديم العلاج الإصلاحي لأمراض العالم وأسقام الإنسانية وشفائها من سرطان الحضارات المخبولة، ودعاته مُطالَبون أشد المطالبة بالقيام بعمل جاد قوي لخدمة الإسلام، وذلك بالتعريف به، ونشر مبادئه، وإتاحة الفرصة من جديد أمام العقل الإنساني الحائر لفهم الإسلام، فهما صحيحًا يعم مشارق الأرض ومغاربها بروح سمحة حنيفية تقدر الواقع، ويقف معه وجهًا لوجه، ويعالجه، ولا يتهرب منه وراء جدل أجوف وأسلوب عيى كسيح، لا يأتي بشيء. ولقد شاء الله الرحيم بعباده أن تمتاز شريعة الإسلام عما سبقها من الشرائع بطابع اللين واليسر والسهولة. قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة:185). يقول صاحب تفسير «المنار» في معنى هذه الآية ما ملخصه: إن دينكم يسر تام لا عسر فيه. وفي هذا التعبير القرآني ضرب من الترغيب في إتيان الرخصة. ولاغرو فإن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. ذلك أن الله لا يريد العنت في أحكامه بعباده، وإنما يريد اليسر بهم ومنفعتهم. وهذا أصل الدين الذي يرجع إليه في فهم النصوص وتفسير التشريعات والأحكام.

       ولقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة من أشهرها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» (متفق عليه من حديث أنس). كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا». ويروي أصحاب السنن والمسانيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر» وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَحٍ﴾ (الحج:78).

رسول الله محمد رحمة الله للعالمين

       لما أراد الله أن يختم رسالاته إلى الناس، وأن يكمل دينه لهم، ويتم عليهم نعمته، بعث خاتم النبيين، وإمام المرسلين، هاديًا ومبشرًا ونذيرًا،  وداعيًا إلى الله بإذنه سراجًا منيرًا. فكان رحمة لأمته بل كان رحمة للعالمين. وصدق الله العظيم: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعٰلَمِينَ﴾ (الأنبياء:107)، وصدق رسوله الكريم: «إنما إنا رحمة مهداة». ولقد ميزه ربه بصفتى الرحمة والرأفة فقال: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:١٢٨).

       لقد امتاز صلى الله عليه وسلم بقلب يفيض بالرحمة، وينبض بالحنان وحب الخير للعالمين. فقد كان يعامل بالرحمة الكبير والصغير، والمؤمن والمشرك؛ بل الإنسان والحيوان. وإن سيرته العطرة لتحمل من حسن خلقه وطيب معاملته، ورقة عاطفته، وكريم نبله الشيء الكثير. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يرحم الصغار ويحنو عليهم، ويجلسهم في حجره ويداعبهم – كما أخبر بذلك يوسف بن عبد الله بن سلام – وكان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وهو قرير العين بالصلاة، يحب أن يطيل فيها فإذا سمع بكاء طفل تجوَّز في صلاته رحمة به وبأمه. لقد كان رحيمًا بالناس حتى في وعظه وتوجيهاته. يقول ابن مسعود – رضي الله عنه – : كان صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة خشية السآمة.

       لقد كان صلى الله عليه وسلم رحيمًا بأمته عامة وبالمؤمنين خاصة. يروي عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّيْ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (إبراهيم:٣٦)، وقول عيسى ابن مريم: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة:١١٨)، ثم رفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي»، وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد فاسأله – وربك أعلم – ما يبكيه؟ فجاء جبريل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر له خوفه على أمته وعلى مستقبلها – لا سيما إذا ما ارتكبت ما هلكت به الأمم السابقة – فقال الله عز وجل: يا جبريل. قل لمحمد: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».

رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان

       لقد بلغ من رحمته – عليه الصلاة والسلام – أنها جاوزت الإنسان إلى الحيوان. ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا – يعني بستانا – لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رآه الجمل حنّ وذرفت عيناه. فمسح صلى الله عليه وسلم على ظهره ورقبته فسكن الجمل. ثم قال: «أيكم صاحب هذا الجمل؟» فقال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله. فقال – عليه الصلاة والسلام -: «ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ إن هذا الجمل يشكو لي أنك تجيعه وتدئبه» فتعهد الأنصاري ألا يتعبه بعد ذلك أبدًا.

       وفي الحق: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رحيم بالمؤمنين في الدنيا والآخرة؛ بل هو أرحم بالمؤمن من نفسه التي بين جنبيه. أما في الدنيا فمن ذلك ما رواه البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إن شئتم ﴿النَّبِيُّ أوْلىٰ بِالْـمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنفسهِمْ﴾ الأحزاب:6) فأيما مؤمن مات وله مال فلعصبته من كانوا، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فليأتني فأنا مولاه».

       أما رحمته بالمؤمنين في الآخرة فقد احتفظ لأمته بالرحمة العظمى في وقت هم أشد ما يكونون محتاجين إليها. وهي شفاعته العظمى لأمته يوم القيامة. يقول صلوات الله وسلامه عليه فيما صح عنه: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا» ولله در القائل:

خلق أرق من النسيم ورحمة

عمت يشيد بذكرها الرحماء

وعليك من شرف الأمانة حلة

ومن السكينة والوقار رداء

*  *  *


(*)      أستاذ بجامعة الأزهر.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42

Related Posts