دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-
(المتوفى 1399هـ / 1979م)
ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
حضور دارالعلوم مجلس المستشرقين:
انعقد مؤتمر المستشرقين العالمي السادس والثلاثون في أوائل شهر يناير من عام 1964م، حضره ألف ومئة من المختصين في العلوم الشرقية، خمس مئة منهم ممثلون للدول الأخرى، وست مئة من أهل العلم والفضل المنتمين إلى مختلف الجامعات والمؤسسات التعليمية. وهذه هي المرة الأولى يعقد هذا المؤتمر في آسيا خارج أوربا، وأول البلاد الآسيوية التي حظيت بهذه السعادة هي مدينة دهلي عاصمة الهند. وكان هذا المؤتمر يقتصر على الأوربيين المختصين في العلوم الشرقية، وانضم إليه الدولة الآسيوية أيضا.
عقدت جلسات هذا المؤتمر في «وكيان بهون» – بيت المعرفة العملاق- في دهلي. وينقسم هذا المؤتمر على عشرة شعب، منها شعبة مختصة بالنوادر والمخطوطات. وبطلب من مؤسسة الدراسات الإسلامية بدهلي الجديدة تم عرض نخبة من مخطوطات دارالعلوم في هذا المؤتمر، مما لقي إعجاب المستشرقين بصفة خاصة، و سجلوا ملحوظات عن مختلف المخطوطات، فكان مؤتمر المستشرقين هذا معوانًا على تعريف دارالعلوم على مستوى الدولة وعلى نطاق أوسع، وقام كاتب هذه السطور بتعريف المستشرقين على مخطوطات دارالعلوم.
عام 84،1385هـ، وإنشاء مجلة «دعوة الحق»:
بهدف إطلاع أنصار دارالعلوم بأحوالها و أوضاعها وتوسيع ونشـر مذهبها ظلت تصدر مجلتا «القاسم» ومجلة «الرشيد» وغيرهما من المجلات، وفي أعقـاب توقف مجلـة «القاسم» أنشئت مجلــة «دارالعلــوم» عـام1360هـ، وكل هذه المجلات كانت تصــدر باللغــة الأردية، ورغبة في توسعــة نطاق دارالعلـــوم أكثر أنشئت في العام الحالي جـريـدة دوريـة عربية تصدركل ثلاثـــة أشهـــر اسمها «دعــوة الحق». وتلاقت مجلة «دعــوة الحق» العربية إقبالًا و شعبية في الدول العربية بالإضافة إلى المدراس العربية في شبه القارة الهندية. وعملت هذه الجريدة على نشر مذهب دارالعلوم في الدول العربية إضافة إلى أنها أكبر عامل في توثيق صلاتها مع العالم العربي(1).
تعاون حكومة أترابراديش في توفيرالحبوب لدارالعلوم:
تعرضت دارالعلوم في الشهور الأخيرة من عام 1384هـ لأزمة شديدة من الحبوب، فلفت رئيس دارالعلوم عناية حكومة أترابراديش إلى ذلك، وأرسلت دارالعلوم كلا من الحكيم محمد إلياس الكتهوري وكاتب هذه السطور إلى لكناؤ، ونبه الوفد مسؤولي الحكومة وخاصة كبيرة الوزراء و وزير التموين على المشكلات التي تواجهها دارالعلوم في تغطية الحاجات التموينية. ولو أن دارالعلوم عجزت -لاقدر الله- عن قبول الطلاب في بداية العام الدراسي الجديد نظرا إلى هذه المشكلات، فإنه ينعكس سلبًا على المكانة العالمية التي تتمتع بها دارالعلوم، وكذلك على مكانة الحكومة ووقارها. وأكدت المسز/سوجيتا كربلاني – كبيرة الوزراء آنذاك- على التعاون الكامل مع «دارالعلوم» حينئذ، وذللت لدارالعلوم السبل لتوفيرالحبوب المطلوبة، ولايزال قائما ليومنا هذا.
مقدم حاكم ولاية أترابراديش إلى دارالعلوم:
ممن يجـدر بالذكر من الشخصيات العديدة التي زارت دارالعلوم في هذا العام «المستر/وشوا ناث داس»- حاكم ولاية أترابراديش، حيث قدم داس «دارالعلوم» في 23/مارس عام1965م، وشاهد دارالعلوم وأعرب عن انطباعات عميقة غالية في حفلة الترحيب به، لانرى من الإطالة في غير وجهها سردها – الانطباعات- فقد قال المستر/داس:
«إن العلم يورث الإنسان التواضع وهضم الذات، وأرى دارالعلوم خير مثال على ذلك، لقد أثر في نفسي كثيرا ما تبذلون من الجهد وتلاقون من العناء في التعليم، وأبارككم عليه، لقد ذكَّرني أسلوب التعليم في دارالعلوم الأسلوب القديم المتبع في الهند، والذي كان يتحمل فيه الأستاذ نفقات تلميذه من الطعام والشراب والعيش، ولكن تلاشى ذلك الأسلوب القديم منذ أن تأصل في المجتمع الهندوسي الطمع الدنيوي. وعاد الناس اليوم يشعرون بأهميته، لقد سررت جدًا برؤية حسن نظام «دارالعلوم»، وأتمنى أن تقطع «دارالعلوم» أشواط التقدم والرقي بصورة مستمرة».
وقال – هو يعلق على أسلوب التعليم المعاصر-: «إن أسلوب التعليم المتبع اليوم قد قطع ما بين الأستاذ وتلميذ من الصلة الروحية، وعمل على توسيع الفجوة بينهما. ولا يمريوم من الأيام إلا نشاهد فيه ضجاتٍ وفتنًا من الطلاب. وإن العلم والجهل يتضادان. العلم يرفع الإنسان والجهل يخفضه. إنكم ترفعون طلبتكم من حضيض الجهل إلى سمو العلم، وتقومون بذلك بوظيفة استكمال الإنسانية. وإن مثل الأستاذ مثل الفخاري يصنع مــايشـاء مــن الأواني بالطين، وكذلك تنصهر حياة الطالب في قالب تعليم الأستاذ. ولقد أعجبني أن تعليمكم لايجعل مال الدنيا ومتاعها نصب عينيه».
وقال «داس» وهويخاطب الطلاب: «آمل أنكم ستحاولون تجسيدكل ما تأخذونه من أساتذتكم في حياتكم. وأدعو لكم بالرقي والتطور، وألتمس من دارالعلوم بصفة خاصة أن توفر تسهيلات تعليمية للطلاب الوافدين؛ فإنهم أضياف الدولة. وإن هؤلاء الطلاب يشكلون سفراء حين يعودون إلى بلادهم بعد التخرج من دارالعلوم.
وركز المستر داس على التضامن في البلاد وقال: «تعيش في معظم البلاد في العالم أمم عديدة مختلفة اللغات والألسن، مختلف الأديان والملل، رغم ذلك كله يتعايشون في إخاء وانسجام، ويجب أن نعيش في هذه البلاد على هذا المنوال…. وأشكر من أعماق قلبي لرئيس دارالعلوم وأساتذتها وطلابها والعاملين فيها على حفاوتهم البالغة، وإن حكومتي مستعدة لتقديم أي خدمة تريدها هذه المؤسسة العملاقة إليها في كل وقت وحين».
وسلّط رئيس دارالعلوم في كلمته التي ألقاها بهذ المناسبة- الضوء بالتفصيل على موقف دارالعلوم القائم على التوكل على الله تعالى، وقال و هو يشرح الأصول الثمانية التي وضعها مؤسسها-: «إن دار العلوم أسست على الرجوع إلى مسبب الأسباب أكثر من الأسس الظاهرة، وعليــه ركز على الإكثار من جمع التبرعات بصفة أساسيـة، وحذر من الاعتماد على المـوارد الماليــة المستقلة أمثال المصانع والتجارة أو الوعد بالمساعدات الضخمة ونحوها مخافة أن يصاب العاملون فيها بالإهمال، ويقعـدوا معتمدين على هذه الموارد المالية، فإنــه يؤدي إلى الرفاهية ويورث النزاع وفساد ذات البين. وأراد مؤسسها أن يسود دارالعلوم شيء من العــوز والإفـلاس والتفكير فيما يخص الموارد المالية؛ فإن هذا الهم والتفكير هو الذي يدعو إلى الرجوع إلى الله تعالى، وهو يورث التوكل و روعــة الحياة الحقيقية. كما لفت المؤسس -رحمه الله- في هذه الأصول الثمانية إلى تبرعات الفقراء بصفة عامة، و وضع بذلك حجر الزاوية في العلاقة مع العامة، حتى تستمر هذه المؤسسة مؤسسة الفقراء، ويطلق عليها «المؤسسة الشعبية»، لا المؤسسة الحكومية أو الإقطاعية. ومن ثم تشاهد هذه الآثار والبصمات في خريجيها والحمد لله على ذلك. وقد نشأت في كل من أساتذتها والقائمين عليها معاني السذاجة والاقتصاد والقناعة والرضى بالقليل، فلاتجتمع فيهم دوافع الجشع والحرص والهوى. وإن أعظم ما يميز هذه المؤسسة وأساسها وعمادها هو العلم والأخلاق، مما أنشئت هذه المؤسسة لاستكمالها. ونرى أن أسس التفوق والرقي لأمة من الأمم ورأس مالها ليس هو الثروة ولا التنظيم الرسمي، وإنما هي المثل والأخلاق والعلم الصحيح. وعليه تركزت عناية عظمائها كلها على تمكين الطلاب من العلم وصلاح الأخلاق والسذاجة في العيش، وسمو المواقف، والإيمان بالآخرة».
دارالعلوم في عين الحكومة المركزية:
نشرت الحكومة الهندية المركزية كتيبا باسم «مؤسسات المسلمين الهنود التعليمية». وهذا الكتيب يعرف دارالعلوم بمايلي:
«تحتضن الهند جامعة فريدة لامثال لها بالنظر إلى خصائصها، مقرهذه المؤسسة التعليمية المميزة ديويند – البلدة الجميلة- على بعد نحو مئة ميل من دهلي عاصمة الهند، تأسست في نهاية القرن الماضي، وتذكِّر هذه المؤسسةُ الجامعاتِ القديمةَ التي شهدتها بغداد في العهد العباسي؛ فإنها على منوالها من أسلوب بنائها إلى عاداتها وتقاليدها.
دارالعلوم/ديوبند واحدة من المؤسسات الإسلامية الشهيرة في العالم، أسسها الشيخ محمد قاسم – رحمه الله- قبل تسعين عاما(2) لدراسة الثقافة الإسلامية. ابتدأت هذه المؤسسة على صورة كتَّاب صغير، ثم ترعرت فيما بعد بمساعي بذلها الشيخ محمود حسن -رحمه الله- الذي عرف فيما بشيخ الهند، واحتل مكانة عالية جدًا، كان رجلا عالي الهمة، عدوًا لدودا للحكومة الأجنبية، قام بتأييد المؤتمر الهندي، فاضطر إلى قضاء باقي حياته في السجن أو المنفى.
ومن العلوم التي تقوم هذه الدار بتعليمها: التفسير والحديث والقانون الإسلامي وفلسفة القانون وأصول الفقه وعلم الكلام، والفلسفة والأدب وعلم النجوم والرياضي والتاريخ ومواد أخرى عديدة غير أن علم الحديث والتفسير يحتل أهمية خاصة فيها، وعليه تحظى بصيت في الشرق كله.
هذه المؤسسة لاتتقاضى الرسوم من الطلاب، بل تتكفل دارالعلوم نفقات الكتب الدراسية والسكن والغذاء، وهي مؤسسة عالمية،ويتوجه إليها كل عام طلاب الدول المختلفة للالتحاق بها.
وتحتضن مكتبتها نحو عشرة آلاف كتاب عربي و أردي وفارسي(3)، منها نوادر المخطوطات والوثائق التاريخية(4).
* * *
الهوامش:
(1) ومنذ السنوات الأخيرة تصدر جريدة نصف شهرية عربية باسم «الداعي» بدلا من جريدة «دعوةالحق» (الرضوي). قال المترجم: والآن تصدر الداعي على رأس كل شهر.
(2) أنشئت دارالعلوم في المحرم عام 1283هـ الموافق مايو عام 1866م، فمضى عليها مئة وأربعة عشر عامًا في العام الجاري 1396هـ بالنظر إلى التاريخ القمري، وأما بالنسبة إلى التاريخ الشمسي فتقدر هذه المدة بمئة وإحدى عشرة سنة.
(3) يتجاوز مجموع عدد الكتب في مكتبة دارالعلوم مئة ألف كتاب.
(4) مقتبس من (Islami institution in India) (سيد محبوب الرضوي)
(*) أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، شعبان 1438 هـ = مايو 2017م ، العدد : 8 ، السنة : 41