دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/ محمد بن إبراهيم الحمد

الوعظ عمل جليل والناس بحـاجـة ماسّة إليــه، والقائمون بالوعظ بحاجة إلى ما يذكّرهم بنبل غايتهم، والسبل المعينة لهم على القيام برسالتهم.

       وقد مضى في المقدمة إجمال لآداب الموعظة، وفيما يلي تفصيلها.

       1- التحلي بالتقوى وإخلاص النية: وذلك أمر يستمدّه الواعظ من قوّة الإيمان بأن الله يعلم ما يسرّ الناس وما يعلنون، ومن علمه بأن الإخلاص عليه مدار العمل، ومن تيقنه بأن دعوته إلى فعل شيء هو تاركه أو إلى ترك شيء هو يفعله لاتتجاوز الآذان إلى القلوب، بل قد تذهب كما يذهب الزبد جفاءً.

       وقد أشار القرآن المجيد إلى أن داعي الناس إلى معروف لا يفعله جدير بالتوبيخ، قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتٰبَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:44] .

       وقال عز وجل: ﴿يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2] .

       والتقوى هي التي تجعل الواعظ مخلصًا فيما يأمر به، أو ينهى عنه. وللإخلاص أثر كبير في نجاح الموعظة، وانشراح الصدور للانتفاع بها على أيّ حال. والتقوى الصادرة عن التفقه في الدين بحق هي التي تكسو الواعظ وقارًا، وحسن سمت غير مصطنع، فتمتلىء القلوب بمهابته؛ فإذا ألقى موعظةً ذهبت توًّا إلى القلوب، وأثمرت كلمًا طيّبًا، وعملاً صالحًا، وخلقًا فاضلاً. ولهذا يحسن بالواعظ أن يتعاهد إيمانه، ويعزّ نفسه، ويصون علمه، وأن يترفّع عن السفاسف، وأن يجانب مواطن الريب، ومواضع المهانة، وأن لا يسير إلا على ما يمليه الدين، وتقتضيه الحكمة والمروءة.

       وجدير به أن يكون ذا نفس زكيّة، وساحة طاهرة نقيّة؛ هو بشر، وما كان لبشر أن يدّعي العصمة، أو الصواب فيما يقول ويفعل؛ إلا الأنبياء فيما يبلغون به عن ربهم جلّ وعلا. ولا يفهم من ذلك- أيضًا- أن يدع الإنسان الوعظ إذا كان مقصّرًا في بعض الطاعات، أو ملمًّا ببعض المخالفات؛ بل عليه أن يأمر وينهى ولو كان كذلك؛ فترك أحدالواجبين ليس مسوغًا لترك الآخر. إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد. قال الحسن للمطرف بن عبد الله- رحمهما الله-: «عِظ أصحابك، فقال المطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. قال الحسن: يرحمك الله، وأينّا يفعل ما يقول؟ يودّ الشيطان لو ظفر منّا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر»(1).

       وقال سعيد بن جبير- رحمه الله-: «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لايكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر»(2).

       قال الإمام مالك- رحمه الله- معلقًا على مقولة سعيد بن جبير: «وصدق سعيد؛ ومن ذا الذي ليس فيه شيء»(3).

       وقال الطبري- رحمه الله-: «وأما من قال: «لايأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة» فإن أراد الأولى فجيد، وإلا فيستلزم سدّ باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره»(4).

       وقال ابن حزم- رحمه الله-: «ولو لم ينه عن الشرّ إلا من ليس فيه شيء منه، ولا أمر بالمعروف إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شرّ، ولا أمر أحد بخير بعد النبي صلى الله عليه وسلم»(5).

       وقال النووي- رحمه الله-: «قال العلماء: لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنبًا ما ينهى عنه؛ بل عليه الأمر وإن كان مخلّاً بما يأمر به، وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها، وأن يأمر غيره وينهاه؛ فإذا أخلّ بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟»(6).

       وقال شيخ محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله- بعد أن ساق بعض الآثار الواردة في ذمّ من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويرتكبه: «واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض من النار ليس على الأمر بالمعروف، وإنما هو على ارتكاب المنكر عالماً بذلك، ينصح الناس عليه؛ فالحق أن الأمر غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف؛ لأنه في حدّ ذاته ليس فيه إلا الخير»(7).

       ولا يفهم مما سبق أنه لا بأس على الواعظ في ترك المعروف، وفعل المنكر، بل يجب عليه فعل المعروف، وترك المنكر، بل يجب عليه أن يكون أول ممتثل لما يأمر به، وأول منتهٍ عما ينهى عنه.

       2- العلم: فعلم الواعظ بما يقول هو الذي يجعل الموعظة نقيّة من إيراد الأحاديث الموضوعة، أو القصص المنبوذة، أو تحسين البدع، أو إضلال الناس.

       قال الله عز وجل: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحٰنَ الله وَمَا أَنَا مِنْ الْـمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108] .

       فلا بدّ للواعظ أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه من فعل أو ترك. وأن يكون عالماً بحال المدعوّ، ولهذا لما بعث الرسول-صلى الله عليه وسلم- معاذًا -رضي الله عنه- إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب» الحديث(8).

       وما ذلك إلا ليعرف حالهم؛ ليستعدّ لهم.

       ومن البصيرة- أيضًا- أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وأساليبها. ولا يفهم من ذلك أنه لابدّ للواعظ أن يكون عالماً متبحرًا، وإنما المقصود ألّا يدعو إلا بما يعلم، وألّا يتكلم بما لا يعلم(9).

       قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلّغوا عني ولو آية»(10).

       ومما يتعين على الواعظ معرفته والوقوف عليه النظر في المصالح والمفاسد. وسيأتي بيان وتفصيل لذلك في الصفحات التالية.

       3- لين الجانب، وبسط الوجه، والإحسان إلى الناس: فالناس يحبون ليّن الجانب.

       ومن الوسائل التي لها أثر في تألّف الجاهلين أو المفسدين، وتهيئتهم إلى قبول الإصلاح بسط المعروف في وجوههم، والإحسان إليهم بأيّ نوع من أنواع الإحسان، وإرضاؤهم بشيء من متاع هذه الحياة الدنيا؛ فإن مواجهتهم بالجميل، ومصافحتهم براحة كريمة قد يعطف قلوبهم نحو الداعي، ويمهّد السبيل لقبول ما يعرضه من النصيحة. والنفوس مطبوعة على مصافاة من يلبسها نعمة، ويفيض عليها خيرًا. و لمثل هذه الحكمة ذكر الله في القرآن من مصارف الزكاة صنف المؤلفة قلوبهم. وكان النبي-صلى الله عليه وسلم- يؤثر بعض حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال؛ للاحتفاظ ببقائهم على الهداية، يفعل ذلك حيث يظهر له أن إيمانهم لم يرسخ في قلوبهم رسوخ ما لا تزلزله الفتن.

       وإلى أمثال هؤلاء أشار- عليه الصلاة والسلام- بقوله: «إني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إلي منه؛ خشية أن يكبّه الله في النار»(11).

       قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كما كان إعطاؤه-صلى الله عليه وسلم- المؤلفة قلوبهم مأمورًا به في حقّه وجوبًا أو استحبابًا، وإن لم يكن مأمورًا به لأحد.

       كما كان مزاحه مع من يمزح معه من الأعراب والنساء والصبيان؛ تطييبًا لقلوبهم، وتفريحًا لهم- مستحبًا في حقه يثاب عليه وإن لم يكن أولئك مأمورين بالمزاح معه، ولا منهيين عنه.

       فالنبي-صلى الله عليه وسلم- يبذل للنفوس من الأموال والمنافع ما يتألفها به على الحق المأمور به، ويكون المبذول مـمـا يلتذّ بـه الآخـذ ويحبّـه؛ لأن ذلك وسيلة إلى غيره»(12).

       ولهذا يحسن بالواعظ أن يكون ليّن العريكة، وممن يألف ويؤلف، وألّا يكون جافي الطبع، قاسي القلب، متعاليًا على السامعين. ويجدر به أن يترفع عن العبارات المشعرة بتعظيم النفس، كحال من يكثر من إدارج ضمير المتكلم «أنا» أو ما يقوم مقامه كأن يقول «في رأيي»، أو «حسب خبرتي»، أو «هذا ترجيحنا»، أو «هذا ما توصّلنا إليه».

       ومن ذلك أن يكرر كلمة: «نقول» و «قلنا»، ونحو ذلك من العبارات الفجة التي تنمّ عن نقص وغرور، خصوصًا إذا صدرت ممن ليس له مكانة.

       فهذا كله مجلبة لتباعد الأنفس، وتناكر الأرواح، وقلّة التأثير. ولذلك يحسن به أن يستعمل الصيغ التي توحي بالتواضع، وعزو العلم لأصحابه، كأن يقول: «ويبدو للمتأمل كذا وكذا»، أو يقول: «ولعلّ الصواب أن يقال: كذا وكذا» ونحو ذلك من العبارات المشعرة بالتواضع، واهتضام النفس.

       قال ابن المقفع: «تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفسًا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي مدارة؛ لئلا يظنّ أصحابك أن دأبك التطاول عليهم»(13).

       وقال شيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله-: «واحذر غاية الحذر من احتقار من تجالسه من جميع الطبقات، وازدرائه، أو الاستهزاء به قولًا، أو فعلًا، أو إشارةً، أو تصريحًا، أو تعريضًا؛ فإن فيه ثلاثة محاذير:

       أحدهما: التحريم والإثم على فاعله.

       الثاني: دلالته على حمق صاحبه، وسفاهة عقله، وجهله.

       الثالث: أنه باب من أبواب الشرّ، وضرر على نفسه»(14).

       4- الصبر والحلم: فالواعظ محتاج لذلك أشدّ الحاجة؛ إذ هو معرض لما يثيره، ويحرّك دواعي الغضب فيه.

       ومن مواعظ لقمان- عليه السلام- لابنه وهو يعظه ­﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17] .

       فلا يحسن بالواعظ أن يكون ضيّق الصدر، قليل الصبر؛ ذلك أن الجماعات التي استشرى فيها الفساد كالمريض، والواعظ لها كالطبيب.

       وكما أن المريض قد يدفعه جهله، أو سوء تصرفه إلى أن ينال الطبيب ببعض السوء فكذلك الجماعات التي أنهكها الشرّ، واستحوذ عليها الشيطان؛ فقد يدفعها ذلك أن تنال طبيب الأرواح ببعض الأذى.

       فإذا ضاق صدره، وقلّ احتماله تنغّصت حياته، ولم يصدر عنه خير كثير، أو عمل كبير؛ فخير للواعظ – إذًا – أن يتلقى الأذى بصدر رحب، وأفق واسع، ونفس مطمئنة. وليعلم أن مهمّته شاقّة؛ فليستعد لها بالاستعانة بالله، وليداو كلوم النفوس بالهدوء، وسعة الصدر، ولين الجانب، ومقابلة الإساءة بالإحسان؛ فإن تلك الصفات رقية النفوس الشرسة، وبلسم الجراح الغائرة.

       ولْيستحضرْ أنه ما وقف أمام الناس ليخاصمهم؛ فيخصمهم، ولكن ليدفع فسادهم، ويردّ شاردهم؛ فليحرص على أن يؤلّف القلوب والنفوس بتلك الصفات.

       قال الله تعـالى في وصف نبينـا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159] .

       وقال الله عز وجل له: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجٰهِلِينَ﴾ [الأعراف:199].

       وهكذا كان- عليه الصلاة والسلام- فكان يعرض دعوته في لين من القول، وكان يأخذ بالحلم، والصبر، ويقابل الجاهل بالإعراض، والمسيء بالعفو أو الإحسان.

       وإن أذى كثيرًا كان يلحقه من مشركي قريش وسفهائهم؛ فيلقاه بالصبر؛ ولا ينال من عزمه واسترساله في الدعوة ولو شيئًا قليلًا. وكم من كلمة يرميه بها بعض المنافقين، أو بعض الجفاة من الأعراب، فيكون جزاؤها الصفح، أو التبسم، أو الإنعام(15).

*  *  *

الهوامش:

(1)        تفسير القرطبي 1/367.

(2)        نفس المصدر.

(3)        تفسير القرطبي 1/367.

(4)        فتح الباري لابن حجر 13/53.

(5)        الأخلاق والسير لابن حزم ص 92.

(6)        شرح صحيح مسلم للنووي 2/23.

(7)        أضواء البيان2/173.

(8)        رواه البخاري [1458] و [1496] و [7331] ، ومسلم [19]

(9)        3 – انظر الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات للشيخ محمد بن عثيمين ص26- 31

(10)      رواه البخاري [27 و 1478] ، ومسلم [150] .

(11)      البخاري [3461].

(12)      الاستقامة لا بن تيمية 2/155.

(13)      الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع ص 134.

(14)      الرياض الناضرة لابن سعدي ص 419.

(15)      انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص 113، والخطابة لأبي زهرة ص 161- 162.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، شعبان  1438 هـ = مايو 2017م ، العدد : 8 ، السنة : 41

Related Posts