دراسات إسلامية

بقلم:  د. طه عبد السلام خضير(*)

          لا تجد إمامًا أحقّ بالإمامة، وأولى أن تبذل له الجماعة كل الطاعة، ولا قاضيًا أقضى بالفضل، وأحكم بالعدل، ولا معلمًا أبرّ في مأربه، وأخلص في توجيهاته، ولا علمًا أصدق في تجاربه وأصحّ في قضاياه، بل لا تجد قولًا أحكم، ولا حكمة أتمّ ولا تجد سببًا أقوى وأقرب إلى كمال السعادة من دين سماوي يربط الأرض بالسماء ويصل المخلوق بالخالق، لا سيما الإسلام الذي هو دين الخلق والفضيلة، دين العلم والأخلاق، دين الأمن والسلام، الدين الذي نظم قوانين الأخلاق ووضع ضوابط السلوك الإنساني.

       هذه القوانين هي جميع الأوامر والنواهي، التي شرعها الله لعباده، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لأنها تنزيل من حكيم حميد، وإنما شرعها العليم بطبائع النفوس وأحوالها، الخبير بعللها وأدوائها، لتكون منهاجًا لنا في سلوكنا، نسير على ضوئها في معاملتنا، بل في كل شؤوننا وسائر أحوالنا، ذلك أن الالتزام بها كفيل بسعادة الدارين، سعادة الدنيا بالهداية والتوفيق والأمن والاستقرار. وسعادة الآخرة بالفوز بجنة عرضها السماوات والأرض ورضوان من الله أكبر ﴿مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ﴾ (النحل:97).

       إن هذه الشرائع السماوية التي تُوِّجت بشريعة الإسلام تمتاز في مبادئها وأصولها بأنها ثابتة لا تتغير، وأنها عامة مطلقة، صالحة لكل زمان ومكان، لاسيما الإسلام، ولجميع الناس على السواء. وهي بهذه الصلاحية أقوم مقياس للأخلاق، وأعدل معيار للسلوك، لا سيما إذا استطعنا أن نتفهم ما تنطوى عليه هذه التشريعات من حكم وأسرار.

       لقد وضع الفلاسفة والحكماء منذ عصر سقراط، وفي مختلف العصور مقاييس للأخلاق، ومعايير لتحديد الخير والتزامه، ولتحديد الشر واجتنابه، وكان لهم في ذلك الميدان بحوث وآراء، ومذاهب اختلفت باختلاف ثقافتهم واستعداداتهم.

       والسؤال الذي يمكن أن يدور بخلد الباحث أو المفكر: أيّ هذه القوانين يصلح مقياسًا لبني الإنسان، يسيرون عليه قاطبة في كل زمان ومكان، وبعبارة أوضح هل تصلح القوانين الأخلاقية إذا كانت من وضع العقل البشري أو الضمير مقياسًا عامًا ثابتًا، فيه الغَنآء عماسواه؟!

       والجواب إجمالًا: أن هذا يتوقف على مدى عصمة المشرِّع والمقنِّن من الخطأ. وبشيء من التفصيل نقول: هذا العقل البشري الذي يقعد ويقنّن، ويحلّل ويحرّم، ويبيح ويمنع، أيمكن أن يكون معصومًا دائمًا، لا يزلّ ولا يخطئ، ولا يتطرق إليه ضعف، ولا ينتابه خلل؟ إن العقل – وإن كان يستطيع الحكم على الأشياء بأن هذا خير وأن ذاك شر، ويكشف عما فيها من الحسن والقبح، ومع طول باعه وعظيم قدره في ميدان العلم والمعرفة، إلا أنه مع ذلك كله – قاصر عن أن يكون مقياسًا ثابتًا للأخلاق. وذلك لأنه محدود بما غذي به من ثقافات مختلفة في كمّها ونوعها، محكوم بالاستعدادات الذاتية، والمعتقدات الموروثة، ومن هنا كان كثيرًا ما يضلّ وينحرف.

       إن العقل البشري مخلوق، ومحكوم بعوامل مختلفة، ولذلك كان نتاجه متفاوتًا بتفاوت البشر، تربيةً وإعدادًا، وثقافةً ومعرفةً، ثم ماذا جنت البشرية من وراء عقول الفلاسفة سوى الأفكار المتضادّة، والمذاهب المتباينة.

       يقول الشيخ محمود شلتوت (رحمه الله): «إن العقول محدودة الإدراك، ليس في استطاعتها أن تحيط بكل مقتضيات الغد، وحوادث المستقبل، والعقول إن اتفقت على ما وضعت، وآمنت به حقًا، وكان لمحض خير الإنسانية، فإنه لا يمسّ إلا قلوب أصحابها. أما الأمّة فإنه لا ينبع من قلبها احترامه، ولا تخشاه إلا حينما تخشى الوقوع تحت طائلته».

       العقل إذًا ليس ملزمًا للآخرين إلا بالقوة، أما الشرع فيتمتع بإلزام سماوي. يربّي في النفس ضميرًا دينيًّا حيًّا، يستتبع الإذعان له من داخل النفس ذاتها. هذا الإلزام السماوي أقوى من إلزام العقل وإلزام الضمير، وإلزام كل قانون وضعي؛ لأنه يجعل من الإنسان رقيبًا على تصرفاته، مستحضرًا علم ربه بكل حركاته وسكناته، ومن هنا كان الشرع مصباح العقول ومنارة الضمائر.

       إن الإسلام في أخلاقياته يُقعِّد للإنسان المفاهيم الفاضلة، ويكشف له عن البواعث النبيلة، والغايات السامية، والأهداف الكريمة. والقرآن إنما نزل ليقود البشرية إلى كمالها الروحي، وليرقى بها إلى سموّها الخلقي. وليبيّن للإنسان أنه إنسان بقدر ما فيه من جانبه الروحي. فكلما سما هذا الجانب وارتقى في الإنسان، كلما كان نصيبه من الإنسانية أوفر، وحظّه أعظم. والوسيلة إلى هذا الرقي لا سبيل إلى تحديدها من الإنسان نفسه. وإنما تحديدها موكول إلى الله عزّ وجلّ، خالق الإنسان والعليم بدائه ودوائه.

       الشرع إذًا ليس غيره هو المقياس الخلقي المعصوم، وهو المنهج السلوكي القويم. وصدق الله العظيم: ﴿يٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّـمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس: 57-58).

الأخلاق أحد أسس الإسلام المتينة

       ومن الحقائق الثابتة التي لا جدال فيها أن الإسلام جعل الأخلاق أساسًا من أسسه المتينة التي لا يتحقق إلا بها، ولا يقوم إلا عليها وإذا كانت العادات الصالحة لا تغرس إلا في أرض الإيمان، فإنهالا يمكن أن تنبت إلا بماء الأخلاق؛ بل لا نتعدى الواقع إذا قلنا: إن الأخلاق الفاضلة من مقوّمات كل دين، ومن دعامات كل شريعة وإنما جاء الإسلام متمِّمًا ومكمِّلًا، وهذا ما يفيده قول الرسول – صلوات الله وسلامه عليه -: «إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق».

       فالإسلام دين الصدق والوفاء، دين الكرم والسخاء دين العفّة والورع، والأمانة والمروءة، دين الحلم والصفح، والعزّة والإباء، دين المودّة والإخاء.

       وبالجملة فهو جماع مكارم الأخلاق، وما من خلق جميل إلا دعا إليه ورغب فيه، وما من خلق سيئ قبيح إلا حذر منه وبيّن سوء عاقبته.

       إنه دين السلوك السويّ والنهج القويم والعظيم اعتنى بالأخلاق وجعلها معيارًا لإسلام المسلم ولإيمان المؤمن. يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أعراضهم وأموالهم والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه».

       والعبادات ليست في جوهرها إلا تربية خلقية عالية، تهدف إلى صقل النفوس وتزكيتها وإلى تطهير القلوب وتصفية الأرواح وتهذيب الوجدان. ففي الصلاة تربية على النظافة والنظام، والطاعة والتواضع، وفي الزكاة تدريب على البذل والإنفاق لتسخو النفس وتجود من الموجود.

       أما الصيام فخير معلم للصبر والأمانة، ومراقبة من يعلم السرّ وأخفى، وفي الحج تدريب على البذل والسخاء واحتمال المشاقّ وتذليل الصعاب، وغرس روح التعاون والتآلف والتضامن حتى تنضج أخوّة الإسلام في أرض الطهر والنقاء في رحاب حرم الله الأمين مشرق شمس الإسلام.

العلم لا ينفع إلا بالخلق

       إننا إذا ما صببنا العلم في الرؤوس صبّا، وشحنَّا العقول بالمعارف شحنًا من غير أن يكون مع ذلك عناية بتهذيب النفوس وتقويم الأخلاق فإننا لا ندري أيّ شر أريد بمن في الأرض؛ بل لا ندري خيرًا كان الذي شحنّا به هذه العقول أم شرًا، لاسيما في عصرنا هذا عصر السباق العلمي، عصر السباق في استخدام العلم وتسخيره.

       كثير من العلماء يسخرون العلم لا للنماء والازدهار، ولا للرقي وإسعاد الحياة، ولكن مع شديد الأسف للتلبيس، ولإخفاء الحقائق؛ بل للهلاك والتدمير والتخريب.

       أيها العالم بخواص المادة! أيها الباحث في تكنولوجيا خصائصها!

سخر نشاط العلم في الحقل الرخاء

يجود بالذهب النضــار ثراك

وادفع به شر الحياة وسوءها

وامسح بنعما نــوره بؤساك

العلم إحياء وإنشاء وليس

العلم تـدميــرًا ولا إهلاكا

فإذا أردت العلم منحرفًافما

أشقى الحياة بـه وما أشقاك

       إن العلم لابد أن يحاط بسياج متين من الأخلاق الفاضلة وإلا كان أداة شرّ وشقاء، ومعول هدم وفناء. إن بعض الخلق قد يغنى عن كثير من العلم، وكثير العلم لا يغنى عن الخلق شيئا. والويل كل الويل لأمة ارتفع رصيدها من العلم والمعارف، وانخفض هذا الرصيد من الدين والأخلاق.

       ولله در القائل:-

والعلم إن لم تكتنفـه شمائل

تعليه كان مطيـة الإخفـاق

لاتحسبنّ العلم ينفع وحده

ما لم يتوج ربـــه بأخــلاق

العمل بالدين خــير معين

على اكتساب الخلق القويم

       والذي يعين على تحصيل الفضائل واكتسابها إنما هو الدين فهو مصدرها الحق وينبوعها الأصيل. ويقول رسول الإسلام – صلوات الله وسلامه عليه-: «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». ويقول في الحديث الآخر: «إن هذا دين ارتضاه الله لنفسه، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق. فأكرموه بهما».

       وإذا كان هناك ما يؤثر في الأخلاق فيحول الشرير خيّرًا، والمفسد صالحًا، كما يكون ذلك بأثر التربية أو المخالطة، فإن هذا التاثير لا يساوي شيئًا بالإضافة إلى تأثير الدين، الذي إذا حلّ بقلب وتمكّن فيه أراك من الجبان الرعديد مقدامًا شجاعًا، يهون عليه الموت، ومن الشره النهم الذي لا يشبع ولا يقنع زاهدًا عفيفًا ورعًا.

       بل أراك من المتكبر الشامخ بنفسه متواضعًا خفيض الجناح، ومن البخيل قاسي القلب سخيّا رحيمًا، وكم من الناس كان شيطانًا رجيمًا فأضحى بفضل الإسلام وتعاليمه ملكًا كريمًا.

       والحق الذي شهد به العدو والصديق على السواء أن الإسلام يربّي الرجال ويصنع الأبطال وكما أن للدين أثرًا في تقويم الفرد فإن للدين هذا الأثر في تكوين المجتمع المسلم. يربط بين أفراده جميعًا بروح المودّة والإخاء التي تؤلّف بين قلوبهم وتوحّد كلمتهم، وتجعل منهم على كثرتهم جسدًا واحدًا إذا شكا أحدهم ضررًا تألّم له الآخرون. مصداق ذلك قول الرسول – صلوات الله وسلامه عليه -: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

       وتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده خير شاهد على مدى قوة تأثير الدين في النفوس؛ فقد كان المجتمع العربي قبل الإسلام تسوده الأثرة والأنانية وتروعه الغارات والثارات ويعمّه الظلم والاستبداد وما أن أشرق نور الإسلام في القلوب حتى ساد التعاطف والتراحم، وعمّ الأمن والوئام، فأصبح الأعداء المتحاربون إخوة متحابين متآلفين. وصارت بلادهم المقفرة جنةً فيحاءَ ومملكةً زاهرةً متراميةَ الأطراف، ودولة قويّة ذات سيادة وقيادة تخشى بأسها الفرس، ويتقى غضبها الرومان:

يا من رأى عمر تكسوه بردته

والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتزّ كسرى على كرسيّه فرقًا

من بأسه وملوك الروم تخشاه

       والقرآن الكريم يشير إلى هذه النعمة والمنّة، وإلى أثر الإسلام في هذه الجماعة المؤمنة. فيقول تبارك وتعالى:

       ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:103).

       بل يذكرهم بماضيهم ليعرفوا فضله عليهم فيقول عزّ من قائل:

       ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال:26).

الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه بالمنهج الأخلاقي الإسلامي

       إن الإسلام إنما عُني في تشريعاته بالأخلاق لإعداد المسلم الذي يستطيع أن يتحمل أعباء الدعوة وتكاليفها بصدق وأمانة وإخلاص ووفاء.

       وهذه الأعباء والتكاليف تتصل بالفرد في نفسه كما تتصل به كلبنة من لبنات مجتمع متماسك البنيان يريد له الإسلام القوّة والمنعة والترابط عن طريق المبادلة الوجدانية ووحدة الشعور النفسي، إذ المسلمون بنصّ حديث رسولهم – عليه الصلاة والسلام -: «كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّٰى».

       وترسيخًا لهذه الروابط وتأكيدًا عليها. يقول – صلوات الله وسلامه عليه -: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». لقد وضع الرسول الكريم لجماعة المسلمين قانونًا يرتقي بالإنسان إلى أسمى درجات الإنسانية الراقية يجمع القلوب ويؤلّفها، ويوحّد الصفوف، ويربط الخلق بالإيمان. يقول – صلوات الله وسلامه عليه -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه».

       أيُّ قاعدة أخلاقية تحقِّق سلامة المجتمع وتقدّمه، وأمنه واستقراره كهذه القاعدة المحمدية الكريمة. فإنما جبلت النفوس على حبّ من أحسن إليها، وعلى بغض من أساء إليها، ولقد كمّل الله رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- بكل كمال بشري ولكنّه مدحه بأكرم هذه الكمالات بكمال الخلق فقال له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ (القلم:4).

       كذلك ربّى الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – أصحابه على هذا النهج القويم، والسلوك السويّ فاستحقوا أن يكونوا ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران:110)، ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كَان بِهِمْ خَصَاصَةً﴾ (الحشر:9).

       فلا تراهم إلا حامدين شاكرين عند الرخاء، راضين صابرين عند البلاء وبهذه الأخلاق الإسلامية الكريمة كانت لهم القوة والمنعة، والعزة والغلبة، فخضعت لهم عروش الأكاسرة والقياصرة ودانت لهم الممالك والشعوب وصاروا سادة وقادة.

       وما أن هجر المسلمون هذه الأخلاق حتى أصيبوا بداء التمزق والتفرق والتفسخ وصاروا لقمةً سائغةً للأعداء يبثّون سموم الفتنة بين ظهرانيهم.

ويح العروبة كان الكون مسرحها

فأصبحت تتوارى فـي زوايـــاه

       وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:١١).

       وفي الحق سيظلّ المسلمون يتخبطون في دياجير الظلام يكتوون بنار التباعد والتفرق، حتى يعودوا إلى آداب دينهم، ويرجعوا إلى أخلاق رسولهم، فإن سلامة الأمّة رهن ببقاء أخلاقها الفاضلة.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

       ولقد سئل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن البرّ والإثم فقال – عليه الصلاة والسلام – : «البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه الناس».

       لهذا كان الخلق الكريم أجلّ نعمة، وأعظم مزيّة في هذه الحياة. ومن عظيم فضل الله على عباده أن الأخلاق ليست ضربة لازب؛ بل قابلة للتغيير من سيِّئٍ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن فإنما الخلق بالتخلق. ولقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: «استقم وليحسن خلقك».

       فعلى المسلم أن يعالج نفسه بالتدريب والعادات على اكتساب الفضائل، وكريم الأخلاق وجميل الخصال حتى تستقيم نفسه على النهج السليم.

       إن ضعف الخلق دليل على ضعف الإيمان. يقول – صلوات الله وسلامه عليه –: «أكمل المؤمنين إيمانًا أكملهم خلقًا».

       فإذا ما استقامت نفسك أيها المسلم وحسنت أخلاقك وقوي إيمانك فقد أعطيت خير الدنيا والآخرة. ولله درّ القائل:

الناس هذا حظه مال وذا

علم وذا مكارم الأخلاق

فإذا رزقت خليقة محمودة

فقد اصطفاك مقسم الأرزاق

       وفي معرض الحديث عن الأخلاق الحسنة والسلوك الطيب فإنه لا ينبغي أن يفوتنا التنبيه إلى أن النبي محمدًا -ﷺ- كان المثل الأعلى في الخلق، وكان الأسوة الحسنة في الامتثال للدين، وكان خير عامل به وأعظم معلّم له، حتى إن الله – عز وجل- لما أراد مدحه مدحه بأفضل ما فيه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ (القلم:4)، ولله درّ القائل فيه صلى الله عليه وسلم:

ومكارم الأخلاق أنت ملاكها

وأتمّها أخـــلاقك الحسنــاء

خلق أرق من النسيم ورحمــة

عمّت يشيد بذكرها الرحمــاء

وعليك من شرف الأمانة حلّة

ومن السكينـــة والوقـار رداء

من لي بوصف شمائل قدسيــة

سقراط فيها عاجــــــز خطاء

كملت فضائلك التي في وصفها

يحلو الحديث ويعذب الإصغاء

أحببت خـير النبيين فحبـــــه

دين وقمّة مدحــــه العلياء

أرجو به عزّ الشفاعة يوم لا

يغني الفتى مال ولا أبنــاء


(*)        أستاذ بجامعة الأزهر.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، شعبان  1438 هـ = مايو 2017م ، العدد : 8 ، السنة : 41

Related Posts