بقلم:  الأستاذ علي محمد جريشه

         ثبات شريعة الله ميزة ضخمة عجزت عنها كل التشريعات.. وإلا فأين قانون الرومان الذي عاشت عليه أوروبا مئات السنين؟

         إن البشر اليوم يعاني فيما يعاني من قلق كثرة التشريعات واختلاطها وتغيرها السريع ومفاجأتها غير السارة مما يهز كثيرا من طمأنينتهم سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا أيا كانت دعوى التطور والمدنية، إن الناس بحاجة إلى الأمن والسكينة والطمأنينة.. لا يغني عنها شعارات ترتفع هنا أو هناك، وأمن الناس وسكينتهم وطمأنينتهم لا يتحقق بغير ثبات، ولا ثبات في غير شرع الله.

         ومع الثبات مرونة.. تلحظها من النصوص التي تضع المبادئ دون الخوض في التفاصيل تاركة هذه التفاصيل لاجتهاد البشر حسب اختلاف الزمان والمكان… وتلحظها كذلك من النصوص الظنية الدلالة التي تحتمل أكثر من تأويل يجتهد فيها المجتهد تبعا للظروف والملابسات قاصدًا وجه الحق محققًا مصلحة المسلمين.

         ورعاية مصالح العباد من مقاصد الشارع الحكيم، فإن المشقة والعسر ليست هدفا للشارع الحكيم ﴿لَا ‌يُكَلِّفُ ‌ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾ [سورة البقرة] وإن اليسر ودفع الحرج بعض أهداف الشارع الحكيم ﴿يُرِيدُ ‌ٱللَّهُ ‌بِكُمُ ‌ٱلۡيُسۡرَ﴾ [سورة البقرة]، ﴿وَمَا ‌جَعَلَ ‌عَلَيۡكُمۡ ‌فِي ‌ٱلدِّينِ ‌مِنۡ ‌حَرَجٖۚ﴾ [سورة الحج]، «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي. وقد كان دفع الحرج هدفا للشارع الحكيم لسببين:

         أولهما: ما يؤدي إليه إعنات النفس والضغط عليها من انقطاع من الطريق، أو تفلت وارتداد إلى النقيض! ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ ‌أَنَّ ‌فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ﴾.

وثانيهما: ما يؤدي إليه إغراق النفس في جانب من انشغالها عن بقية الجوانب.. ومن هنا كان الانحراف ذات اليمين أو ذات الشمال إفراطا وتفريطا.. والله لا يحب المسرفين كما لا يحب الفاسقين.

         ثالث هذه الأسباب أن شريعة الله هي شريعة العدل.

         فهي صدق فيما أخبرت، عدل فيما حكمت ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ‌صِدۡقٗا ‌وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ﴾. وكما قامت شريعة الله على العدل، فلقد أمر منزلها بإقامتها بين الناس بالعدل ﴿وَإِذَا ‌حَكَمۡتُم ‌بَيۡنَ ‌ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ سورة النساء.

         والعدل في شريعة الله لا تحيف به عداوة، ولا تميل به قرابة..

         الأولى ﴿وَلَا ‌يَجۡرِمَنَّكُمۡ ‌شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ﴾ [سورة المائدة]، والثانية ﴿كُونُواْ ‌قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ﴾ [سورة النساء].

         وإذ أوجب العدل فقد حرم الظلم، وبلغ في حربه للظلم مبلغا لم يصله من قبل ولا من بعد نظام. قال الله تعالى في الحديث القدسي: «إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» رواه مسلم.

وأول الظلم في شرع الله الشرك، ومن أشرك شرع ما لم يأذن به الله.

         وإذ نزلت شريعة الله بالعدل، وقامت بين الناس على العدل.. فإنه لا يتصور عدل في غيبة شريعة الله، كما قال بعض الكذابين: شريعة العدل شريعة الله وهم يحكمون بما شرعوا من باطل وطغيان.

         ورابع هذه الأسباب شمول شريعة الله شمولا يتخطى المكان لتكون خطابا للعالمين كل العالمين، للناس كل الناس ﴿وَمَآ ‌أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء]، ﴿وَمَآ ‌أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سورة سبأ 28]. ولقد عاشت دولة الإسلام تحقق «العالمية» حقا وواقعا من قبل أن ينادي بها المفكرون نظرية وخيالا.

         كذلك تخطت بالشمول قيود الزمان لتكون خطابا أبديا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأين من يجرؤ أن يقول: إن قانونا يمكن أن يعيش حتى تقوم الساعة؟ وبرغم كل شيء فلا يزال خطابها قائما ملزما رغم تنحيتها عن التطبيق في أكثر الميادين وأكبر الميادين.

         وخامس الأسباب وسطيتها بين إسراف وتقصير، بين إفراط وتفريط.

         فإنه بين هذه يكون الوسط الأمثل صراط الله المستقيم، كما كان من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ﴿وَأَنَّ ‌هَٰذَا ‌صِرَٰطِي ‌مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ﴾ [سورة الأنعام]، ﴿وَكَذَٰلِكَ ‌جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ﴾ [سورة البقرة].

         وآخرها جزاء أوفى وأروع في الدنيا وفي الآخرة.

         لا نمني الناس بالآخرة ونتركهم في دنياهم يهلكون ويشقون، ولا نتركهم لدنياهم دون آخرتهم فيهلكون فعلا ويشقون.

         وإن الجزاء بوجهيه ثوابًا وعقابًا يقوم في شرع الله.

         يبدأ من داخل النفس إلى المجتمع ثم إلى من لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا.

         تلك بعض خصائص شريعة الله.. بان منها لم استحقت أن تكون .. هي العليا وهي من قبل لها هذا الحق.. لأنها من عند ربي الأعلى.

من منطق الفطرة:

         لو أن جزءًا من جسم إنسان نزع.. أتبقى فيه حياة.. أتبقى له خصائصه الأصيلة؟ لو أن فرعا قطع من شجرة .. وبقي بعيدا عن أصله.. أتبقى فيه حياة.. أتبقى له نضرته وخضرته .. أم يذوي ويذبل ويجف؟

من منطق التاريخ:

         ماذا حدث لشريعة الله..؟ هل نحيت دفعة واحدة..؟ أم قطعت إربا..؟

         ماذا حدث لأمة الإسلام..؟ هل حوربت كتلته واحدة..؟ أم قطعت في الأرض أمما..؟

         ماذا حدث عند أول محنة لشريعة الله.. حين أراد التتار تجزئتها..؟ وخلط جزء منها بجزء من شرائعهم التي وضعها ملكهم جنكيز خان… وسموها «الياسق»..

         اجتمع علماء المسلمين، وهم يومئذ غير علماء اليوم، وأجمعوا على رفض «الميثاق» الذي تقدم به جنكيزخان.. وأفتوا بكفر من أطاعه..

         ماذا كان من التتار بعد ذلك حين استمسك المسلمون بالحق الذي هم عليه..؟

         آمن التتار ودخلوا في الإسلام..

من منطق الوحي:

         – سمى الوحي تجزئة شريعة الله فتنة وكفرا.

         ﴿وَٱحۡذَرۡهُمۡ ‌أَن ‌يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ﴾ [سورة المائدة].

         ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ ‌حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُ﴾ [سورة الأنفال].

         ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ ‌بِبَعۡضِ ‌ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ..؟﴾ [سورة آل عمران].

         ولقد نعلم أن رفض الدين كله فتنة ﴿وَصَدٌّ ‌عَن ‌سَبِيلِ ‌ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ﴾ [سورة البقرة].

         لكن وصف الكل يتنزل على البعض…

         بل قد يكون في رفض البعض فتنة أشد من رفض الكل..

         إن رفض الكل ينبه الغافلين ويوقظ النائمين.. أما رفض البعض أو سلخ البعض فقد يتم في غفلة الغافلين ونوم النائمين.. يغطون في الأحلام السعيدة، وعرى الإسلام تنقض عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة.. تمامًا كما يسرق بيت قطعة قطعة، وأهله نائمون أو يهدم طوبة طوبة وأصحابه غافلون..

         – وسماها الوحي جاهلية.

         ﴿أَفَحُكۡمَ ‌ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ﴾ [سورة المائدة].

         والجاهلية تبدأ من المخالفة الصغيرة وتنتهي عند الكفر والشرك، ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأحد أصحابه: إنك امرؤ فيك جاهلية، ووصف بها القرآن قوما خرجوا على شرع الله بسلوكهم أو بعقائدهم.. فكل ماخرج على شرع الله فهو جاهلية ضاق الخروج أو اتسع.

         – وسماها الوحي مضادة لله في حكمه.

         فقد ورد في الحديث: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه.. رواه أبوداود وعلق عليها ابن تيمية بقوله: فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده؟ ونجيب أيضا من كتاب الله وعيدًا رهيبًا ﴿‌يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌ٱتَّقُواْ ‌ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ﴾ [سورة البقرة]. ومن يطيق حرب الله ورسوله؟

         ومن أجل ماذا؟

         لأنهم لم يتركوا ما بقي من الربا.

         فكيف بمن لم يتركوا مع الربا.. الزنا.. والخمر.. والميسر..

         والصد عن سبيل الله والاستهزاء بالله ورسوله وآياته، وإخراج المؤمنين، وتعذيبهم ثم إفساد المجتمع ومنع إقامة الحدود، والحيلولة دون قيام شريعة الله في مجال العقيدة، والأخلاق، والمعاملات، والعبادات.

         كيف بمن فعلوا ذلك.. وأكثر من ذلك..

         وأي حرب من الله لهم تكون..؟

         وأنى لهم أن يطيقوا حربا من الله كتلك التي شنها من قبل على أصحاب الفيل.. أو على عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط..

         ﴿جَعَلۡنَا ‌عَٰلِيَهَا ‌سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ ٨٢ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ﴾ [سورة هود].

         ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ‌ٱلَّذِينَ ‌يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة النور].

         ﴿إِنَّ ‌ٱلَّذِينَ ‌يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ﴾ [سورة المجادلة]. وبعد،،،

         فلعلنا أجبنا على السؤال الذي طرحناه في بداية هذه المقالات.. حين تساءلنا عن القيمة الشرعية على أن الشريعة أو مبادئها أو فقهها مصدر رئيسي… أجبنا حين قلنا.. إن لله الشرع ابتداء، وإن شريعته هي العليا، وإنها لا تقبل التجزئة.

         ومقتضى ذلك ألا يكون معها شريعة أخرى.. وإلا جعلنا مع الله آلهة أخرى أو أربابا متفرقين..

         ومقتضى ذلك أن تكون هي المصدر الرئيسي.. لا مجرد مصدر رئيسي، وأن يكون ذلك في التوجيه والتشريع.. في مجال العقيدة، والأخلاق، والشعائر، والمعاملات فهي شاملة لكل ذلك، غير قابلة للتجزئة على ركن دون ركن…          والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

مجلة الداعي، جمادى الأولى 1444هـ = ديسمبر 2022م، العدد: 5، السنة: 47

Related Posts