دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ: محمد أبو صعيليك
قد يلبس بعض الناس الذم والتعيير لغيرهم لبوس النصيحة، فيخدع بذلك من لا يعرفه، وربما أفضى به ذلك إلى الوقوع في أعراض الناس ونهشها، ولذا فقد عقدت هذا المبحث للتفريق بين النصح والتعيير مقتبسًا ذلك من كتب ثقات علمائنا رحمهم الله، ولقد تبدى لنا أن الفرق بين النصح والتعيير يكون كما يلي:
1- النصيحة تكون في السرّ، والتعيير يكون في العلن: وفي هذا يقول ابن رجب: «فهذا الذي ذكره «الفضيل» (مقولتنا التي نقلناها في موضع النصح في السرّ) من علامات النصح، فالنصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان»(34).
2- يقوم بالنصح المؤمن، ويقوم بالتعيير الفاجر: ونعيد هنا مقولة الفضيل بن عياض رحمه الله: «المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير»(35).
وحول تحديد غرض كل من الناصح والفاضح، يحدثنا الحافظ ابن رجب فيقول: «فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير، وهما من خصال الفجار؛ لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد، ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهتك عرضه، فهو يعيد ذلك ويبيده، ومقصوده تنقصـة أخيـه المؤمـن في إظهار عيوبه ومساويه للناس، ليدخل عليه الضرر في الدنيا. وأما الناصح، فغرضه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن باجتنابه له»(36).
3- غرض الناصح الإصلاح وغرض المعير الإفساد: وقد مرّ في النقطة السابقة أن مقصود الناصح من نصحه الإصلاح وتسديد المسارّ، وتكميل النقص، وهذا بلا شك قصد شريف يشكر صاحبه عليه عند الناس، ويؤجر عليه عند الله.
وعلى العكس من ذلك، فإن مقصد المعير هتك الأعراض، وإشاعة الفساد والإفساد، وإيغار الصدور وتتبّع العورات، ولاشك أن هذا من أقبح الذنوب والأعمال عند الله وعند الناس.
4- الناصح يؤدّي حقًا واجبًا عليه لأخيه المؤمن: فهو مأجور على نصحه لأخيه. وأما المعير، فهو مهتك لحقوق عباد الله مفرّق لجماعتهم، مفسد لدينهم، وبالتالي فهو آثم عند الله جزاءً؛ إيذاء عباد الله بإشاعة الأذى والفاحشة بينهم، والله سبحانه يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ اٰمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾(النور: 19).
5- الناصح يخلو من حظّ النفس في الغالب، وأما المعير فغير خالٍ من حظّ نفسه ومرض قلبه: ذلك لأن الناصح يحبّ لمنصوحه ما يحبّه لنفسه من أفعال الخير، وبالتالي يحرص على ازدياده منها، ولو كان فيها حظّ نفس لما أقدم على النصيحة. وأما المعير فلا يحبّ من يريد تعييره، ولا يحب له الخير، بل يرجو له الشرّ، ولا تخلو مقولته من حظّ نفس يدفعه إلى الأذى والإفساد.
هذه في تصوري أهم الفروق بين النصح والتعيير، وقد استفدتها من رسالة لابن رجب في هذا، كما استفدت من كلام غيره، والله أعلم، ومن الله أرجو العون والسداد.
العوامل المؤثرة في قبول النصيحة
هناك عوامل مؤثرة في قبول النصيحة، وقد تؤخّرها أحيانًا، وقد تصدّ المنصوح عن الأخذ بالنصح أحيانًا، وهذه العوامل أذكرها كما يلي:
1- التزام آداب النصيحة:
من راعى في نصحه آداب النصيحة التي سبق بيانها، رجونا قبول نصحه، ومن لم يلتزم بها، ففي الغالب لا تعطي نصيحته ثمرتها، ولا يتحقق لها القبول عند الناس.
ولذا فكم رُدّت نصيحة لكون صاحبها لم يراع فيها ما يليق بالنصح وأهله.
وكم من ناصح ألقى نصحه لغيره بغير أدب ولا ملاطفة، فانقلب أمره من صورة الناصح إلى صورة الشامت المبغض المعادي، الذي لا يرغب الناس في سماع كلامه، ولا مجالسته، ولا الوقوف عند نصحه، وكم أثمر التزام آداب النصيحة، أخوةً صادقةً، وودًا متبادلًا، وقربًا دائمًا، ودلالةً من الخير لا تنكر.
2- الكبر:
فمن وجد فيه الكبر منعه من قبول النصح والأخذ به، ومن خلا قلبه من الكبر رجي منه قبول النصيحة، ذلك لأن الكبر هو «بطر الحق وغمط الناس»(37) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
والنصح من الحق، والناصح من الناس، والمتكبر قد بطر الحق وغمط الخلق، فهو غير مبال لا بالنصيحة ولا بالناصح، ولذا فقد صدّه ذلك عن قبول النصح، وعلى العكس من ذلك فلو كان متواضعًا لقبل نصح غيره بصدر رحب، ولما استهان بنصح من نصحه، كائنًا هذا الناصح من كان؛ لأنه يرى فيه تأدية الواجب، والعمل بحقوق المؤمنين بعضهم على بعض.
3- الإعجاب بالنفس:
فمن كان معجبًا بنفسه، لا يرجى منه قبول النصح، لأنه لا يرى رأيًا ولا فضلًا لغيره عليه، فما دام قد انتفخ وأعجب بنفسه فأنى له قبول نصح غيره.
وفي هذا المقام يحدثنا الإمام أبو حاتم محمد بن حبان البستي – رحمه الله- فيقول: «وأكثر ما يوجد ترك قبول النصيحة من المعجب برأيه»(38) واستشهد -رحمه الله- على هذا المعنى بقول الأبرش:
إذا نصحت لذي عجب لترشده
فلم يطعك، فلا تنصح لــه أبدا
فإن ذا العجب لا يعطيك طاعته
ولا يجيب إلى إرشـــاده أحـدا
ومـا عليك، وإن غــوى حقبا
إن لم يكن لك قربى أو يكن ولدا
4- صفاء النفس:
فإن المرء إذا رزقه الله صفاء نفس أورثه ذلك الإنصاف للناس من نفسه، وأحوج الناس إلى الإنصاف المنصوح؛ لأنه إذا لم ينصف ناصحه لا يقبل نصحه، ولا يسمع لإرشاده، ولا يعمل على ترك ما طلبه منه تركه، والحق أن صافي النفس محكم لقياد نفسه، منتصر على شهواتها وأهوائها، فإذا جاءه من يعينه، على هذا استبشر به، أو عمل بمراده.
ولكن وجود هذا الوصف في الناس قليل، فأين هم الصافون في نفوسهم الذين يسمعون لقول الناصحين؟
لكأنك عندما تتحدث عن صفاء النفس تصف قومًا آخرين بينك وبينهم بعد المشرقين، أو أنهم في عالم آخر لسنا من أهله.
وبعد، فهذه في حدود اطلاعي أهم الأمور المؤثر في قبول النصيحة سلبًا وإيجابًا، والله المستعان.
ثمار النصيحة
النصيحة بذرة طيبة يبذرها الناصح، ولابدّ للبذرة السليمة التي روعي فيها ما يصلح الزرع من ثمرة، وكذا النصيحة، فإذا روعيت آدابها وشروطها رجونا أن تتحصل منها الثمار الطيبة، والآثار الخيرة، ويمكن إجمال ثمار النصيحة في الأمور التالية:
1- تنقية المنصوح من الشوائب:
فإن الناصح عندما يرى من منصوحه غفلة عن خير، أو وقوعًا في شرّ، فيعمد إلى تقوية وتنقية نفسه من الشوائب سيرًا بها إلى التقليل من القصور في حق الله أولًا، ثم في حق عباده ثانيًا، وهذا مكسب كبير للإنسان لو تمعّن فيه، وهذا تكميل لنقص وقع فيه المرء من حيث لا يدري، فإذا بمتطوع يذبّ عنه النقص، ويخلصه من الذنب، وأيّ شائبة أشدّ من التقصير في حق ذي الحق؟ وأيّ نقاء أكرم وأبرك من حرص أخيك عليك؟
2- دوام المحبة والألفة:
فإن المنصوح إذا نصحه الناصح بما يسدد خطاه، ويكمل نقصه، كان ذلك طريقًا لدوام الألفة بين الاثنين، ذلك لأن الناصح محبّ لمنصوحه، ويحبّ لأخيه ما يحب لنفسه، ولابد أن يقابله صاحبه بمثل ذلك إن كان عاقلًا، وعليه فكم من نصيحة صادقة أدامت بين الأحبة ودًا، وسدّت في شخصية أحدهم نقصًا، وأبعدت عن النفس غوائل الشيطان، وألحقت من تأخر وتلكّأ بالركب!!
ومن الجميل أن نسمع كلامًا دقيقًا لابن حزم في حدّ النصيحة، لنرى من خلاله هذه الثمرة من ثمار النصيحة. يقول الإمام علي بن حزم – رحمه الله تعالى-: «وحدّ النصيحة أن يسوء المرء ما ضرّ الآخر، ساء ذلك الآخر أم لم يسؤه، وأن يسرّه ما نفعه، سرّ الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة»(39).
3- أداء حق الأخوة:
إن الناصح حين ينصح غيره إنما يؤدي ما لأخيه من حق عليه، وهذا الحق يتعلق بحب المرء لغيره مثل ما يحبه لنفسه، وهذا الأمر يؤدّي بطرق منها النصيحة.
ذلك لأنك لا تحب لنفسك النقص ولا ترضاه، بل تعمل على إزالته وتلافيه، وواجب الأخوّة يفرض عليك أن تعامل أخاك المنصوح بمثل ما تعامل به نفسك، وطالما أنك لا ترضى لنفسك النقص، فأنت لا ترضى لأخيك النقص، لذا تقوم بنصحه وإرشاده وإعانته على الخير، وإبعاده عن الشر.
وهذه أمور لابد لمن تآخيا من تحقيقها، وعنوان تحقيق ذلك بذل النصح لمن احتاج إليه ليكون علامةً للأخوّة، وطريقًا لقرب القلوب، وسدًّا أمام الضغائن والمحن.
وفي هذا الباب يحدثنا أبو حاتم محمد بن حبان البستي فيقول: «النصيحة إذا كانت على نعت ما وصفنا تقيم الألفة وتؤدي حق الأخوة»(40). وفي هذا يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز: «من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه…»(41).
ولعل سائلًا يسأل هناك كيف تكون النصيحة من حقوق الأخوّة مع أن فيها ذكر العيوب وهذا يوحش القلب؟
ويجيب عن هذا السؤال الإمام الغزالي فيقول: «فاعلم أن الإيحاش إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه، فأما تنبيهه على ما لا يعلمه، فهو عين الشفقة، وهو استمالة القلوب، أعني قلوب العقلاء، وأما الحمقىٰ فلا يلتفت إليهم، فإن من ينبّهك على فعل مذموم تعاطيته، أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكّي نفسك عنها، كان كمن ينبّهك عن حيّة أو عقرب تحت ذيلك، وقد همّت بإهلاكك، فإن كنت تكره ذلك فما أشدّ حمقك، والصفات الذميمة عقارب وحيّات، وهي في الآخر مهلكات»(42).
4- حصول الأجر:
الناصح إذا أسدى لغيره نصحًا استحق عليه الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، على حرصه على إخوانه، وحبه لهم.
هذه في تصوري الثمرات التي تستفاد من النصحية.
شرح حديث النصيحة
بعد هذه الجولة في كتب علمائنا – رحمة الله عليهم- نعود إلى حديث تميم الداري في النصيحة من أجل توضيح معانيه بما يقرب فهمه لطالبه، ومن الله نرجو العون والقبول.
1- نص الحديث:
عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» ثلاثًا قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله -عز وجل-، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم».
2- تخريجه:
روى هذا الحديث كل من:
1- الإمام مسلم في صحيحه: 2/37.
2- والإمام أحمد في مسنده: 4/102، 103.
3- والإمام أبو داود في سننه: كتاب الأدب، باب النصيحة. برقم: 4944.
4- والإمام النسائي في السنن الصغرى: كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام: 7/156.
5- والإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده، برقم: 837.
6- ومحمد بن نصر المروزي في كتاب: تعظيم قدر الصلاة.
7- وابن خزيمة في كتاب السياسة. انظر عمدة القارئ: 1/321.
8- والإمام أبو عوانة الأسفرائيني في مسنده: 1/36، 37.
9- والإمام الطبراني في المعجم الكبير: رقم 1260 – 1268.
10- وابن حبان البستي في كتاب روضة العقلاء: ص 149.
11- والبيهقي في كتاب الآداب. رقم: 226.
12- وعلقه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الدين النصيحة: 1/137.
13- وأبو الشيخ في التوبيخ رقم: 3.
وبعد، فهذا ما وقفت عليه من تخريج لحديث تميم الداري في النصيحة مما تيسّر لنا الاطلاع عليه من مصنّفات أئمة الحديث المسندة، والله المستعان.
لماذا علّق البخاري الحديث؟
قدمنا أن الإمام البخاري – رحمه الله- قد علّق هذا الحديث، بمعنى أنه رواه في كتابه بغير سند(43)، فما سرّ ذلك الصنيع؟
أجاب أهل العلم بالحديث عن ذلك بأجوبة نذكر منها:
1- هذا الحديث ليس على شرط البخاري، بمعنى أن البخاري لم يخرج لأيّ من رجال هذا الحديث، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى-: «ولم يخرّجه مسندًا في الكتاب لكونه على غير شرطه»(44).
2- الاختلاف على سهيل بن أبي صالح فيه، فقد روي عنه عن أبيه عن أبي هريرة، وقد روي عنه عن عطاء عن تميم، ولهذا فإن البخاري لم يخرّجه في صحيحه، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر: «ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرّجه في صحيحه؛ بل لم يحتج به أبدًا»(45).
3- شواهد الحديث:
لا يفوتنا أن نشير إلى أن حديث النصيحة بتمامه قد ورد من طريق عدّة من الصحابة سوى تميم، وهذا ما سنعمد إلى إثباته هنا من طريق الصحابة الذين رووه مع تخريج هذه الطرق:
أ- طريق ابن عمر:
1- رواه الإمام الدارمي في سننه، كتاب الرقاق، باب الدين النصيحة(46).
وقال الألباني عن سند الدارمي: «وهذا سند حسن، وهو على شرط مسلم»(47).
2- الطبراني في كتاب مكارم الأخلاق(48).
3- والبزار في مسنده كما في مختصر زوائده لابن جحدر(49)، وقال البزار: «وهذا لا نعلم يروي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا جمع بين يزيد ونافع إلا جعفر بن عون عن هشام»(50). وقال الهيثمي عن رواية البزار هذه: «ورجاله رجال الصحيح»(51).
4- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ(52).
ب- طريق ابن عباس: وقد رواها:
1- الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(53).
2- والطبراني في المعجم الكبير(54).
3- والبزار في مسنده كما في المجمع(55).
4- وأبو يعلى الموصلي في مسنده.
5- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ: رقم 12.
وقال الهيثمي عن رواية أحمد: فمقتضى رواية أحمد الانقطاع بين عمرو وابن عباس، ومع ذلك فيه عبد الرحمان بن ثابت بن ثوبان، وقد ضعّفه أحمد، وقال: أحاديثه مناكير(1/87). وقال أيضًا عن رواية أبي يعلى: ورجاله رجال الصحيح (المجمع:1/87).
6- والبخاري في التاريخ الكبير (المجتمع: 6/461).
7- وابن أبي حاتم الرازي في العلل(2/176).
8- والضياء المقدسي في المختار (77/100/1..) كما في الإرواء: (1/63).
9- والديلمي في مسند الفردوس رقم: 6584.
ج- طريق أبي هريرة، وقد رواها:
1- الإمام أحمد في مسنده: 2/297.
2- والترمذي في سننه، كتاب البرّ والصلة، باب ما جاء في النصيحة رقم: 1926.
3- والإمام النسائي في السنن الصغرى، كتاب البيعة، باب النصيحة الإمام: 7/157.
4- وابن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة.
5- وأبو نعيم في كتاب الحلية(56).
6- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ(57).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح(58).
د- طريق ثوبان: وقد رواها:
1- الطبراني في المعجم الأوسط، كما في المجمع(59). وقال الهيثمي: وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف لا يحتج به(60).
2- والبخاري في التاريخ الكبير(61).
وبعد، فهذا ما وقعت عليه من طرق لحديث النصيحة بتمامه، ولم أعرج هنا على كل حديث في موضع النصيحة خشية الإطالة، ولكونه ليس مقصودنا، والله تعالى أعلم.
تواتر حديث النصيحة
هذا ولا يفوتنا أن نذكر أن حديث النصيحة قد بلغ مبلغ التواتر، وفي هذا المقام يقول العلامة محمد بن جعفر الكتاني -رحمه الله تعالى-: أحاديث بذل النصيحة للأئمة وغيرهم من المسلمين متواترة(62)، ويقول الشيخ صديق حسن خان – رحمه الله-: والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الأئمة(63).
ورد حديث «الدين النصيحة» بتمامه من طرق خمسة من الصحابة: هم تميم، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وثوبان.
ووردت أحاديث أخرى في النصيحة عن عدّة من الصحابة هم:
1- جرير.
2- حذيفة.
3- أنس بن مالك.
4- أبو أمامة.
5- أبو أيوب.
6- أبو زيد. وغيرهم.
وبهذا تعلم أن حديث النصيحة متواتر، والله أعلم.
كيف كانت النصيحة هي الدين؟
سمى النبي-صلى الله عليه وسلم- النصيحة دينًا، وعبّر بها عن الدين، مع أن تكاليف الدين كثيرة، وليست محصورة في النصح وحده، ولذا فما مراد النبي –صلى الله عليه وسلم- من ذلك؟ أجاب أهل العلم عن ذلك بأجوبة، منها:
1- قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي معظم الدين النصيحة كما قيل في حديث: «الحج عرفة»(64).
2- قال أيضًا: «ويحتمل أن يحمل على ظاهره؛ لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين»(65).
3- يقول الحافظ ابن رجب: «فهذا يدلّ على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل – عليه السلام-، وسمّي ذلك كله دينًا»(66).
كيف تكون النصيحة لله؟
قدمنا فيما سبق أن النصيحة إما وصف بكمال، أو إتمام النقص، والنصيحة لله هي وصف بالكمال، ويندرج تحتها ما يلي:
1- «القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها، وهو مقام الإحسان»(67).
2- «الإيمان به، ونفي الشك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بجميع صفات الكمال والجلال، وتنزيهه عن جميع النقائص، وما لا كمال فيه من الأوصاف»(68).
3- «القيام بطاعته، وتجنُّب معصيته»(69).
4- «الحبّ والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والرغبة في محابّه، والبعد عن مساخطه»(70).
5- «الاعتراف بنعمته، وشكره عليها»(71).
6- «الدعاء إلى جميع ذلك «أي ما سبق» وتعليمه، والإخلاص فيه لله»(72).
كيف تكون النصيحة لكتاب الله؟
والنصيحة لكتاب الله هي أيضًا وصف بالكمال، ويندرج تحتها ما يلي:
1- «الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق»(73).
2- تعظيمه(74).
3- تعلّمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهّم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذبّ تحشير المبطلين عنه(75).
كيف تكون النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والنصيحة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصف بالكمال؛ لأنه معصوم بعصمة الله عن الوقوع في المعصية، ويمكن أن يندرج تحت نصح المؤمن للنبي –صلى الله عليه وسلم- ما يلي:
1- تصديقه على الرسالة.
2- الإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه.
3- نصرته حيًّا وميتًا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه.
4- إعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته.
5- بثّ دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها(76).
6- إحياء سنّته بنشرها وتصحيحها، ونفي التُّهَمِ عنها، وانتشار علومها، والتفقّه في معانيها، والإمساك عن الخوض فيها بغير علم، والدعاء إليها، والتلطّف في تعاليمها، وإظهار تعظيمها، وإجلالها، وإجلال أهلها من حيث انتسابهم إليها، والتأدب بآدابه عند قراءتها(77).
محبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرّض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك(78).
كيف تكون النصيحة لأئمة المسلمين؟
والنصح واجب لأئمة المسلمين، وهو تكميل نقص؛ لأنه يجري عليهم القصور، فليسوا بمعصومين من الزلل، والخطأ، ولكن ما المقصود بأئمة المسلمين؟
لعلمائنا في هذا مذهبان، هما:
1- أنهم الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمر المسلمين من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور(79).
2- أنهم علماء الدين وأئمة الاجتهاد(80).
أما النصيحة لولاة الأمور من الحكام، فيندرج تحتها ما يلي:
1- معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه.
2- تنبيههم عند الغفلة.
3- سدّ خلّتهم عند الهفوة.
4- جمع الكلمة عليهم.
5- ردّ القلوب النافرة إليهم.
6- دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن(81).
وأما النصيحة لأهل العلم، فيندرج تحتها الأمور التالية:
1- بثّ علومهم.
2- نشر مناقبهم.
3- تحسين الظنّ بهم(82).
4- قبول ما رووه(83).
5- إجلالهم، وتوقيرهم، والوفاء بما يجب لهم على الكافّة من الحقوق التي لا تخفى على الموفّقين(84).
كيف تكون النصيحة لعامّة المسلمين؟
وأما نصح عامّة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر(85)، فهي أيضًا تكميل نقص، ويمكن أن يندرج تحت هذا الأمور التالية:
1- إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم.
2- كفّ الأذى عنهم(86).
3- تعليمهم ما ينفعهم.
4- أن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه(87).
5- دفع المضارّ عنهم، وجلب المنافع لهم.
6- أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص.
7- الشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم.
8- تخوّلهم بالموعظة الحسنة.
9- ترك غشّهم وحسدهم.
10- الذبّ عن أموالهم وأعراضهم(88).
هذا ما أردت أن يقف عليه القارئ هنا من شرح حديث النصيحة، عَلَّ في ذلك ما يدفع كاتبه وقارئه وسامعه إلى تمام النصح لمن طلب الله منا نصحهم، ولكن هذا الذي ذكرناه كلام نظري يعوزه التطبيق والامتثال، ذلك لأن الكلام النظري لابدّ له من أمثلة تطبيقية في الواقع حتى يمكن للسامع وغيره أن يمتثلوا، وهذا يحوجنا إلى ذكر نماذج لنصائح السلف، وهذا ما تقف عليه في المبحث القادم بعون الله تعالى.
* * *
الهوامش:
(34) الفرق بين النصيحة والتعيير: (ص36).
(35) المصدر نفسه: (ص36).
(36) المصدر نفسه: (ص37).
(37) رواه مسلم بشرح النووي: (2/89).
(38) روضة العقلاء: (ص196).
(39) الأخلاق والسير: (41).
(40) روضة العقلاء: (ص197).
(41) تاريخ الطبري: (6/572).
(42) الإحياء: (2/182).
(43) هذا ليس تعريفًا صحيحًا للتعليق إذ إن المعلق اصطلاحًا هو ما حذف أول سنده، سواء أكان المحذوف واحدًا أو أكثر على التوالي، ولو إلى أخر السند. [المجلة].
(44) فتح الباري: (1/137).
(45) فتح الباري: (1/138).
(46) (2/311).
(47) الإرواء (1/63).
(48) رقم: (66).
(49) رقم: (38).
(50) مختصر زوائد البزار رقم: (38).
(51) مجمع الزوائد: (1/87).
(52) رقم: (8).
(53) (1/351).
(54) رقم: (11198).
(55) (1/87).
(56) الحلية: (6/242، 7/142).
(57) التوبيخ برقم: (7).
(58) سنن الترمذي: (4/374).
(59) مجمع الزوائد: (1/87).
(60) المجمع: (1/87).
(61) التاريخ: (6/461).
(62) نظم المتناثر: (ص160).
(63) العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة.
(64) فتح الباري: (1/138)، وحديث ((الحج عرفة)) رواه أبو داود، رقم: (1949)، والنسائي: (2/45 – 46)، والحديث صحيح [المجلة].
(65) فتح الباري: (1/138).
(66) جامع العلوم: (ص110).
(67) جامع العلوم: (ص100).
(68) فتح المبين: (ص124).
(69) فتح المبين: (ص124).
(70) فتح المبين: (ص124).
(71) نفسه.
(72) نفسه.
(73) شرح صحيح مسلم: (2/38).
(74) نفسه.
(75) فتح الباري: (1/138).
(76) شرح صحيح مسلم: (2/38).
(77) فتح المبين: (124).
(78) شرح صحيح مسلم: (2/38).
(79) شرح صحيح مسلم/ (2/38- 39).
(80) نفسه.
(81) فتح الباري: (1/138).
(82) الفتح: (1/138).
(83) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(84) فتح المبين: (ص125).
(85) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(86) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(87) الفتح: (1/138).
(88) شرح صحيح مسلم: (2/39).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1438 هـ = فبراير2017م ، العدد : 5 ، السنة : 41