السبب في معاداة قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهجرته -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة

دراسات إسلامية

بقلم:     الأستاذ أسامة  نور/ القاسمي (*)

       بماأنّ الرُّسُلَ الكرام يجيئون بدعوات ورسالات تُغَيِّر النُّظُمَ القائمة المألوفة، وتقلب رأسًا على عقب الأوضاعَ التي يعتادها الناس، يكون من الطبيعيّ أن يعارضوهم – الرُّسُلَ – ويقفوا في سبيلهم؛ بل ويحاربوهـم؛ لأنّ دعـواتهم تكون ثورات على المناهج الجاهلية، والتقاليد الوثنيّة، والعادات الشيطانيّة بأوسع معانيها، فلا يكون مُسْتَغْرَبًا أن يلقى الرسلُ معارضةً قوية عنيفة شاملة من قِبَل أنصارها وأبنائها الذين يكونون قد أُشْرِبُوها في قلوبهم.

       ولذلك لم يكن غريبًا ما لاقاه الرسولُ –صلى الله عليه وسلم- من قبل قومه قريش وغيرهم من تكذيب وتعذيب إلى محاربة وملاحقة؛ ولذلك طَمْأَنَ اللهُ تَعَالَىٰ نبيَّه الأعظم محمدًا –صلى الله عليه وسلم- أنه ليس وحده الذي يلاقي ما يلاقي من لدن محاربي الدعوة الإسلامية، وإنما ظل ذلك طريق أبناء الباطل مع دعاة الحق في كل زمان ومكان. وقد قُوبِلَ الرُّسُلُ والأنبياءُ بذلك قبلك أيها النبيُّ، فقال تعالى:

       ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ (فاطر:4).

       وقال:

       ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام:34).

       وقال في شأن قريش مقارنًا بهم الكَفَرَةَ والمشركين من قبلهم الذين صنعوا مع أنبياء الله صنيعَ قريش، فاستحقّوا وعيدَ الله ومؤاخذته الشديدة التي فاقت التصورَ:

       ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ . وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ . وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ (ق:12-14).

       وقال له –صلى الله عليه وسلم- حكيمُ قريشٍ الثاقبُ النظرِ والخبير البعيد التفكير «وَرَقَةُ بنُ نَوْفِلٍ»: ما جاء أحد قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِيَ (صحيح البخاري:6982). فتَنَبَّأَ بما لقيه النبي –صلى الله عليه وسلم- من المعاداة وصنوف الأذى من مشركي مكة في حياته النبوية المكية والمدنية.

       وكان –صلى الله عليه وسلم- يثــق بنصر لله الثقةَ كلَّها، ويؤمن بأنــه تعالى سيُظْهِره على أعـداء دينه؛ لكنه عزّ وتبارك وجده في حاجة إلى أن يُلَقِّنه الصبرَ والتحملَ حتى يسهل عليه الصبر والتحمل وحتى يقوى إيمان المؤمنين به –صلى الله عليه وسلم- ويشتدّ أزرهم ويتأهلوا للاستهانة بالأذى والآلام في سبيل الله، فقال تعالى:

       ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ (الأحقاف:35).

       وتسهيلًا عليه الصبرَ والاحتمالَ قصّ اللهُ عزّ وجلّ في كتابه بعض مواقف الرسل والأنبياء قبله الذين ضربوا المثلَ الأعلى في الصبر والاحتمال تجاه ما لا قوه من أقوامهم الجاحدين المحاربين لدين الله والـمُتَصَدِّين لدعوتهم إلى الله؛ ليكون ذلك أيضًا درسًا يُنير السبيلَ أمام جميع من يَنْصِبُون أنفسَهم دعاةً إلى الله ليوم القيامة. إن حياة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وجميع إخوانه الأنبياء والمرسلين تزخر بمواقف الصبر على المكاره والاحتمال للأذى، فهم يُشَكِّلُون أسوة لجميع الدعاة إلى الخير والقائمين بالإصلاح وتغيير الأحوال الفاسدة. إنّ حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- وحياتهم جميعًا تنطق بأن أصحاب الرسالات لابد أنهم يُقَابَلُون دائمًا بما قُوبِلَ به هو –صلى الله عليه وسلم- والأنبياء والمرسلون الذين جاؤوا قبله من المحن والتجارب القاسية.

       ومن أشدّ ما عاناه –صلى الله عليه وسلم- من قومه من المصاعب والمحن هو محنة الهجرة، أي أنهم أرغموه على مفارقة الوطن الذين وُلِدَ وشبّ فيه وأحب كل شيء فيه، رغمَ أنه لاَيَنَهم طويلاً، و صَابَرَهم سنوات طويلة، وبذل كلَّ ما كان بوسعه من جهد و وقت وحكمة وإمكانيات ليُخَلِّصَهم من الضلال والشرك الذي كانوا مُصِرِّين عليه وعاضّين عليه بالنواجذ.

       لكنهم لم يَرْضَوْا أن يُبْصِروا الحقَّ، ويُذْعِنُوا له، وإنما عاندوه وحاربوه بكل ما كان عندهم من سلاح وحيلة وتدبير، ولم يُوَفَّقُوا أن يَتَحَاكَمُوا إلى نداء العقل والمنطق والضمير. أما النبي –صلى الله عليه وسلم- فظلّ يُلاَطِفُهـم ويُلاَيِنهُـم ومع ذلك يجاهـدهم ويُحَاوِل أن يُقْنِعهم بالخضوع للحـق؛ ولكنهم اشتـدتْ معاداتهم لدعوته ومحاربتهم لها ولشخصه –صلى الله عليه وسلم- حتى انقضّوا عليـه ليقتلـوه قتلـة رجل واحد فأَذِنَ له ربُّـه بالهجـرة من مكـة إلى «يثـرب» ففـارقها وهو محبٌّ لها، كارهٌ لفراقها، ولاأَدَلُّ على ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «والله لأنتِ أحب بقاع الأرض إِليّ، ولولا أن قومكِ أخرجوني، ماخرجتُ» (شرف المصطفى: 4/324).

       هاجر –صلى الله عليه وسلم- من مكة بصحبة أبي بكر – رضي الله عنه – فلاحقته قريشٌ ليعودوا به إلى مكة حيًّا أو ميتًا، ويمنعوه من الوصول إلى مأمنه بالمدينة، ورصدوا جوائز غالية لمن يُعِيدُه –صلى الله عليه وسلم- إليهم، و وجد بالمدينة إخوانًا مخلصين، وأنصارًا وأعوانًا يفدونه بأنفسهم وأموالهم، ويُقَدِّمون كل تضحية في سبيل نشر دعوته وترويج رسالته.

       والهجرة ذكراها تتجدد كل عام لتوحي إلى المسلمين كافة بأنه يجب عليهم أن يستهينوا بالأذى والآلام والمصاعب والشدائد في سبيل العقيدة والمبدإ؛ وأنه يجب عليهم أن يؤثروا الحقَّ على الأهل والوطن والمال وجميع ملذات الحياة ومغريات المادة والمعدة؛ فمن المعلوم أن قريشًا عرضت عليه –صلى الله عليه وسلم- كلَّ ما ترغب فيه نفس المرء من مال وجاه ورياسة وتزويج أحسن الحسناوات في مكة ليترك الدعوة إلى الله الواحد الأحد الصمد؛ ولكنه –صلى الله عليه وسلم- أبى إباءً لا إباءَ بعده أن يقبل أيًّا من معروضات قريش المرغوب فيها لدى النفس البشرية قائلاً:

       «والله لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمرَ، ماتركتُه حتى يُظْهِره اللهُ أو أقضي دونه» (سيرة ابن هشام:1/266).

       وأنه يجب عليهم أن يظلّوا مستعدَّين للتضحية بالنفس والمال وكل ما يعزّ عليهم في سبيل مناصرة الحق والمبدإ، فها هو ذا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يُعَرِّض نفسَه للقتل مناصرةً للحق ودفاعًا عن صاحبه –صلى الله عليه وسلم- حيث ينام مكان الرسول –صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة وهو يعلم أنه قد يُقْتَل؛ لأنه ينام مكان المطلوب قتلُه، المحاصر بيتُه بشبان جُلَدَاء ممسكين بالسيوف البتارة الماضية ليضربوه بها ضربةَ رجل واحد.

       وأنه يجب عليهم أن يلاحظوا أنّ التعاون على البر والتقوى والحق هو سبيل المؤمنين المخلصين، فها هم أولاء أنصار المدينة يعاونون إخوانَهم المهاجرين، ويُؤَاخونهم أخوةً لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، ويقاسمونهم كلَّ ما لديهم من المال والممتلكات والعقارات حتى الأزواج اللَّاتي طلقوا بَعْضَهن ليتسنى للمهاجرين أن يتزوّجوا معهن، وقد صدق اللهُ إذ قال:

       ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (الأنفال: 72).

       وقال:

       ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ (الأنفال: 74).

       وأنه يجب عليهم أن يضعوا في الاعتبار دائمًا أن تَسَابُقَهم إلى الإيمان ومناصرتهم لدين الله وداعيه الأوّل الأعظم محمد –صلى الله عليه وسلم- كان بفضل الله ورحمته بهم ومنّته عليهم؛ فقد حرم اللهُ قريشًا هذا الخيرَ من أجل عنادهم للحق ومكابرتهم فيه فلم يسعدوا بهداية الله، واستحقوا سخطَ الله.

*  *  *


(*)     المتخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر  1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41

Related Posts