كلمة المحرر

          إثر أفول شمس اليوم الأخير من شهر شعبان يستقبل المسلمون في آفاق الأرض الأربعة شهرَ رمضان، شهر الصوم والقيام و عبادة الله جل وعلا، شهر الكرامة و العز، شهر التوبة والإنابة، شهر الإخلاص والذكر، والطاعة والإيمان، شهر العفو والغفران، شهر نزول القرآن، شهر الإقلال من ملذات الدنيا، والزهد والورع.

       ومن أهم أهداف الصوم وأسراره إضعاف القوى التي تشكل وسائل الشيطان وحبائله في حمل الإنسان على المعاصي و الشرور. ولن يتم ذلك إلا بالإقلال من الطعام والشراب؛ فلايأكل الصائم أكلته التي كان يأكلها كل ليلة كما تعوده المسلمون- إلا مَنْ رَحِمَ رُبُّكَ- في العصر الحاضر. وماذا عسى أن ينتفع بصيامه من جمع ما كان يأكله ضحوةً إلى ما يأكله ليلا؟

       إن الصوم مفتاح الزهد في الدنيا، وفيه أكبرعون على مجاهدة النفس ومنع حظوظها وقطع عادتها، وعلى الانصراف إلى عبادة ربه تعالى؛ فإنه يمنعه شهوته وطعامه وشرابه من أجل الله تعالى، كما منعها الزاهد العابد بدخوله في الزهد وشغله بالعبادة؛ و لذلك جمع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بينهما فقال: إن اللَّه عزّ وجلّ يباهي ملائكته بالشاب العابد فيقول: «أيها الشاب التارك شهوته من أجلي المبتذل شبابه لي أنت عندي كبعض ملائكتي». وقال في الصائم مثل ذلك، يقول عزّ وجلّ: «يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي».

       والقلب يموت بكثرة الطعام والشراب كالزرع يموت إذا كثر الماء عليه. وحذار أن يظن المسلم أن الصوم هو ترك الطعام و الشراب والوقاع فقط، فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش»؛  بل تمام الصوم بكف الجوارح كلها عما يكرهه الله تعالى؛ فيحفظ عينه عن النظر إلى الحرام، ولسانه عن النطق بما لايعينه، وأذنه عن الإصغاء إلى ما حرمه الله تعالى. وضرب الإمام الغزالي للصائم المنهمك في المعاصي مثل من يبني قصرًا ويهدم مصرًا قال: فإن الطعام الحلال يضر بكثرته لا بتنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثارمن الدواء خوفًا من ضرره إذا تعداه إلى تناول السم كان سفيهًا،  والحرام مهلك للدين والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله». قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب و الطعام. وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

       فما أسعد حظًا مَن كان رمضان ربيع قلبه وجلاء أحزانه وحافزًا لتمسكه بحبل الله وشاحذًا لعزيمته، واتخذ منه فرصة للتزود بالتقوى وصالح الأعمال! وما أشد تعاسةً  مَن مرَّ عليه شهر رمضان كما يمرُّ به غيره من الشهور، وعاشه والغًا في معاصي الله تعالى، واقعًا في مهاوي الغفلة والنسيان، دون أن يتعرض لنفحات الله تعالى؛ فإن لله في أيام الدهر نفحات، فمن أصابته منها نفحةٌ لم يَشْقَ بعدها أبدًا. فياباغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.

[التحرير]

(تحريرًا في الساعة العاشرة من يوم الثلاثاء 12/رجب 1437هـ =20/أبريل 2016م)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40

Related Posts