إشراقة
في شوال من عام 1380هـ الموافق مارس 1961م انتسبتُ إلى «المدرسة الإمدادية» بمدينة «لَهِيْرْيَا سَرَائِيْ – دَرْبَنْجَهْ» – التي أَسَّسَها عام 1311هـ / 1893م أحدُ كبار أصحابِ الشيخ الكبير الحاجّ إمداد الله المهاجر المكي (1233-1317هـ = 1817-1899م) وهو الحاج الشيخ مُنَوَّرْ عَلِيّ النِّسْتَوِيّ الدَّرْبَنْجَوِيّ (المتوفى 1318هـ / 1900م) – لأقرأ الفارسيةَ والأرديةَ ومبادئ الحساب ، بعد ما أنهيتُ بكُتَّابِ قريتي «رائبور» – إحدى قرى مديرية «سيتامرهي» التي كانت أيّامَ طفولتي وشبابي تابعةً لمديرية «مظفربور» بولاية «بيهار» بالهند – قراءةَ القرآن الكريم ومبادئ الأردية على فقيه الكُتَّاب الذي كان عبدًا صالحًا قانعًا بالقليل راضيًا جدًّا من الطعام بما جَشُبَ ومن اللباس بما خَشُنَ . اسمُه «المولوي إبراهيم» المعروف بـ«الموي تهغن» رحمه الله رحمة واسعة.
وكان الحافزُ إلى الالتحاق بالمدرسة وجودَ أحد أبناء أعمامي بها ؛ حيثُ كان يعمل بها مدرسًا أخونا الفاضل العالم المتضلّع الشيخ محمد أويس القاسمي رحمه الله (المتوفى 1419هـ/ 1998م) وهو الذي أشار على جدّتي من الأب أن ترضى بابتعادي عنها وإلحاقي بالمدرسة؛ لآخذ طريقي إلى تحصيل العلم بطريقة منتظمة .
فكان الشيخ القاسمي مشرفًا عليَّ – وعلى جميع أترابي من قريتي الذين التحقوا معي أو قبلي أو بعدي بالمدرسة – يَتَوَلَّىٰ عن شعور بالمسؤولية صادق مراقبةَ جميع تصرفاتنا، ومتابعةَ مدى حضورنا فصولَنا، وغيابنا عنها، وتَقَيُّدِنا بالمواعيد الحصصية، ومحافظِتنا على الصلوات، وتَجَنُّبـِنا صحبةَ كلِّ طالب مُهْمِل ولاسيّما كلّ طالب راغب في مشاهدة الأفلام وارتياد دور السينما، وفي حضور ملاعب مباريات كرة القدم – التي كانت تُعْقَدُ تلك الأيامَ في المدية كثيرًا بين فِرَقٍ منها بارعةٍ وفِرَقٍ من مدينة «كالكوتا» («كولكاتا» حاليًّا) نالت شهرةً عالميّة – ويقوم بتربيتنا على كلّ ما يُنْشِئُنا على الصلاح والقيم النبيلة والمعاني الشريفة ، ويُخَرِّجُنا في المستقبل إنسانًا سويًّا منشودًا لدى الإسلام يُعْنَى بإصلاح نفسه، فإصلاح غيره، فإسعاد المجتمع البشري؛ فيكون جديرًا بجزاء ربّه وشكر خلقه .
كان الشيخ القاسمي – رحمه الله – يمتاز بجانب فضائله الكثيرة، بدقة الملاحظة وعدم الصبر على أخطاء التلاميذ، صغيرةً كانت أو كبيرةً . وكان سريعَ المحاسبة، كثيرَ المؤاخذة، شديدَ المعاقبة في حكمة ولباقة، وأسلوب إيجابيّ ينفع ولا يضرّ؛ فكان الطلاب عمومًا والصغار منهم خصوصًا وصغارُ قريته من أترابي بصفة أخصّ يفزعون منه، ويبتعدون عن مرآه ، ويحاولون أن لا يتعرّضوا لمواقف أمره ونهيه، فلا يقعوا فريسةً لمؤاخذته .
كنتُ عند ذاك في نحو الثامنة من عمري؛ حيث إني وُلِدْتُ في 18/12/1952م (يوم الخميس : 28/ ربيع الآخر 1372هـ). ورغم صغري كنت لا أَتَخَوَّفُ منه – رحمه الله – تَخَوُّفَ أترابي ومن هم كانوا أكبر مني سنًّا . وذلك لسببين : أولاً لأن الله أَكْرَمَنِي بالوعي بما يضرّ وينفع بشكل رُبّما لم يُكْرِمْ به – لمصلحة يعلمها هو – أحدًا منهم في ذاك العمر المبكّر . وربما كان ذلك راجعًا لما سأذكره لاحقًا . وثانيًا لأني كنتُ يتيمًا، اِسْتَوْفَىٰ والدي ظَمَأَ حياته وأنا في الشهر الثالث من عمري؛ فكنتُ أظنه – الشيخ القاسمي رحمه الله – وغيره من ذوي قرباي قائمين مقامَ والدي في التربية والتوعية بما يضرّ وينفع في الحياة؛ فأمنحه من الاحترام والتقدير ما كنت لأمنحه بالتأكيد والدي – رحمه الله – لو كان حيًّا؛ فكنتُ أُنَفِّذُ توجيهاته كلّها صادرًا عن طواعية ورضا قلبيّ تنفيذَ توجيهات والدي – رحمه الله – إذا كان حيًّا، فتعلّمتُ من ذلك الشيءَ الكثيرَ الذي لم أتعلّمه من كِتَابٍ ، ولم يتعلّمه – كما أظنّ – غيري من أترابي الذين كانوا يرغبون في التغيّب عن مرمى عينيه .
وكان أصعبَ وقت عليهم عندما كان يحين الوقتُ الذي يتناول فيه الشيخ الغداءَ أو العشاءَ اللذين يسبقهما تحضيرُ السلطة الذي أقوم به أنا أو أحدٌ أو عدد من أترابي ، وكان قِوَامُها في الأغلب مجردَ البصل التي كنا نُقَطِّعُها بسكين بأسلوب جميل كان – رحمه الله – يُعَلِّمنا إيّاه باهتمام كبير، يُضَاف إليها بعد التقطيع عصيرُ الليمون .
وكان من دَأَب الشيخ في ذلك أنه كان يُفَصِّل أسلوبَ التقطيع وتحضير السلطة بالمجموع – بما فيهما طريقة قبض السكين وتقطيع البصل قِطَعًا مُدَوَّرَةً دقيقةً جدًّا تُشَكِّل لوحةً جمالية إذا نُسِّقَتْ في الصحن المُخَصَّص لذلك – مرة وعلى الأكثر مرتين وفي النادر ثلاث مرات، وبعدها كان ينتظر أن نعود نحن الصغارَ بَارعين مثلَه في عمليّة إعداد السلطة، وعندما يرى أن جهوده في تعليمنا هذا الفنَّ قد تَبَعْثَرَتْ هَبَاءً وأنّ ظنَّه الحسنَ بنا قد خاب، كان يناله الغضبُ، فيتناولنا بعقاب رادع يراه مناسبًا لإثارة الوعي فينا بأمور الحياة والتيقّظِ المطلوبِ لتلقّي علمٍ وفنٍّ .
وكذلك كانت مواعيدُ كنس الغرفة التي كان يسكنها موقفَ اختبار صعب – كما كان يظنّ أترابي هؤلاء من صغار قريتنا المتعلمين بالمدرسة – حيث كان الشيخ يلاحظ بدقة أسلوبَ قبضِنا على المِكْنَسَة، وسحبها على الأرض، والاستئناء في السحب، والتحكّم في المكنسة – حتى لا تتوثـّب الكُنَاسَات إلى هنا وهناك – وتجنّبَ العشوائية في عملية الكنس ، وإعمالَ الاستيعاب في شأنها ، حتى تأتي بالفائدة المرجوة منها ، وتنطق بأن المكان كُنِسَ بدقّة ولباقة .
إنّ الصغار في الثامنة والتاسعة من العمر يجهلون عادةً كلَّ شيء يمكن أن يُصَنَّفَ ضمن «الدقة» و «اللباقة» و «اللياقة» فضلاً عن «الإتقان» و«البراعة» ولاسيّما إذا كانوا قرويِّي النشأة، وافدين إلى مكان للتعليم من البوادي النائية عن المدن ومرابع الحضارة ، فلا يَتَسَقّطون ذلك كلَّه إلاّ بعد وقت يُمْضُونَه لدى مثل الشيخ القاسمي اللَّبـِق المُتَأَنِّق الناشد للجمال والأناقة في كل شيء ، ولا يمكن أن يتعلّموه جملةً أو دفعةً واحدةً؛ ولكن الشيخ من شدة حرصه على تعليم التلاميذ كلَّ شيء عاجلاً، ورغبته الزائدة في تزويدهم بالوعي بشؤون الحياة والضرورات التي نعايشها ليلَ نهارَ، كان يَتَألَّمُ ويَتَأَسَّفُ ويَتَسَخَّطُ عليهم إذا أخطأوا – بعد تدريبهم على شيء مرة أو مرتين – في التعليمات التي كان ينبغي أن يلتزموا بها لدى أدائهم وظيفةً من الوظائف التي كان يُكَلِّفُهُمْ القيامَ بها؛ فكان يُؤَاخِذُهُمْ مؤاخَذةً لائقة تعتمد عطفَه ولطفَه .
وكذلك تنظيفُ ثيابه أسبوعيًّا وبالذات يوم الجمعة ، كان يراه الصغار امتحانًا لهم صعبًا عليهم اجتيازُه بنجاح يتلوه الإشادة والتحبيذ؛ لأن الشيخ – رحمه الله – كان يطلب فيه أيضًا أن ينزل الطلاب الصغارُ على المستوى الذي كان مرضيًّا لديه . وكان ينزل عليه من كان يتمتع منهم بجديّة و بإعمال وعي بشؤون الحياة قدرَ ما تسمح له طفولتُه البريئةُ الْمُبَكِّرة، وكان لاينزل عليه من لايكون كذلك؛ فكان الشيخ – رحمه الله – يَنْزَعِجُ ويَتَأَذىٰ، فربما كان يكتفي بالضجر والتوبيخ والتوجيه، وقد يُوَجِّه إليه ضربةً تُوْفِظ وعيَه وتُذْكِي فهمَه وتثير فيه الجديّةَ والشعورَ بأهمية كلّ أمر من أمور الحياة؛ لأن الحياة وقضاياها حقيقة وليست أسطورة – كما ظلّ يظنها هو وأترابه الصغار – وذلك كله كان يُكْسِبُهم – الصغار – خبرةً وحسًّا سليمًا لم يكن لِيَكْسِبوهما في هذه المرحلة المُبَكِّرة من عمرهم لولا تعاملُ الشيخ معهم بهذا الشكل الذي كان يجعلهم يُجَنِّدُوْن كلَّ رصيد من أرصدة الوعي والتلقّي والانفتاح على شؤون الحياة ، التي أَوْدَعَها الله تعالى إِيَّاهُم؛ والتي تَتَطَوّر مع رحلة العمر.
ولكنّ هؤلاء الصغار – بما فُطِرُوا عليه من حبّ الحرية المُطْلَقَة والانزعاج الزائد من كل حاجز نفسي وحبّ الاحتراز من كل موقف يُعَرِّضُهُمْ لزجر أو ملام أو استجواب بـ«لماذا فعلتَ كذا؟» و«لماذا لم تفعل كذا؟» فضلاً عن أن يُعَرِّضَهُم لمؤاخذة وعقاب – كانوا يَتَهَرَّبون من مسارح عيني الشيخ ، وكانوا يحاولون أن لايَقَعُوا فريسةً لأمر أو نهي من قبله ، حتى لايَتَعَرَّضُوا لزجر منه أو محاسبة . وقد كان جميعُ صغار قريتي يتمتّعون بنوع من الرخاء الماديّ الذي كان مصدره الوحيد آنذاك الزراعة التي كان يزاولها آنذاك جميع أبناء القرى في معظم أقطار الهند أو كان مصدره بعضَ الأحيان اشتغال بعض أبناء القرية في بعض المدن مُوَظَّفِين أو عُمّالاً أو محترفين لبعض الحرف المتواضعة . وكنتُ أنا الوحيد الذي كنتُ يتيمًا لا وليَّ لي من عمّ شقيق أو خال شقيق أو غيره ، سوى جدتي من الأب، فكنتُ أعي جيّدًا أنه لا مَهْرَبَ لي من الخضوع لجميع أوامر وتوجيهات الشيخ . إنّ أبناء قريتي سواي كانت لهم «مبررات» في الإهمال بأوامره؛ لأنهم تَعَلَّموا منها شيئًا أو لم يتعلّموا ، وأكملوا مشوار تحصيل العلم أو لم يُكْمِلُو، وعادوا من بداية المشوار أو وسطه، قد لايَضُرُّهُمْ ذلك كما كانوا يَحْسَبُون؛ لأن لقمة العيش مُتَوَفِّرة لهم الآن، ووسائلَ الحياة اللازمةَ موجودةٌ لديهم في قراهم، مادَام آباؤهم أو أولياؤهم أحياء يُزْرَقُون .
فرغم كون الشيخ – رحمه الله – دقيقَ الملاحظة، كثير المؤاخذة ، وكونه جِدِّيًّا أكثر من أن يكون هَزْلِيًّا ، كانوا يُدِلُّون عليه بفضل آبائهم وأوليائهم أوّلاً وبسبب بعض السعة الاقتصادية لديهم ثانيًا، إدلالاً لم أكن لأُمَارِسَه بحضوره قَطُّ، فقد كنت أَفْقِد كلَّ رصيد من أرصدة الدلال والجراءة النابعة منه .
وحرماني العَامِلَيْن المذكورين لم يكن شَقَاءً لي، وإنّما كان سعادة وتوفيقًا من الله العزيز الحكيم؛ حيث إنّه – الحرمان – أكسبني مُبَكِّرًا الوعيَ والذكاءَ، ومعرفةَ الخير من الشرّ، والتعاملَ مع أمور الحياة بجدِّيَّة كانت تسمح لي بها هذه المرحلةُ المُبَكِّرَةُ من عمري . . المزايا التي لم يسعد بها أترابي آنذاك لكونهم مُمْتَلِئِيْن شعورًا بأنهم أحْظِيَاء حالاً فليسوا بأشدّ حاجة إلى تحصيل شيء يفقدونه؛ فإن تَيَسَّرَ لهم الحصول عليه فذاك، وإلاّ فإنّ ما هم فيه من سعة وحِظَةٍ بالآباء والأولياء يكفيهم . وذلك الشعور كان يدفعهم إلى الإهمال واللاّمباة والنظر إلى كلّ من شؤون الحياة بعدم جِدِّيَّة .
ما أَغْفَلَ الصغارَ وما أَلْهَاهُم عمّا ينفعهم ويَضُرُّهم في حياتهم الآتية ، وما أَجْهَلَهم بالصديق والعدوّ؛ فهم يميلون إلى الحمرة القانية في الجذوة، أكثر من ميلانهم إلى الحمرة القانية في الزهرة ؛ فهم يحتاجون إلى مُنَبِّه يُوْقِظُهُمْ عن الغفله ويَلْفِتُهُمْ إلى ما ينفعهم ويُجَنِّبُهم ما يضرّهم. وقد يكون المُنَبِّهُ مُرَبِّيًا بشريًّا ، وقد يكون توفيقًا إلهيًّا . والتوفيقُ قد يَتَأَتَّىٰ عفوًا إذا شاء الله، وقد يحالف الإنسانَ نابعًا من حوادث الدهر، وتقلبات الأيام، وهزّات الليالي، حسبما يريد الله العليم الحكيم .
وَفَّقَنِي الله – صغيرًا – أن أُنَفِّذَ أوامرَ الشيخ – رحمه الله – حرفيًّا ، وأُدْرِكَ مغزى تعليماته التي كان يعطيني إيّاها لدى أدائي لعمل من الأعمال، وأتشرّب التوجيهات كلها عاجلاً؛ وأن لا أعدّ ذلك – كما كان يعدّه أترابي – مشكلة صعبة، بل أعتبره درسًا شاملاً في شؤون الحياة، وتفتيحًا للعقلية ، وإنارة للبصيرة ، وإنضاجًا للعقل، وتوسيعًا للأفق الفكري . ووَفَّقَنِي الله أن أَلْمَسَ مُعْطَيَاتِه الغالية العاجلة وأدرك ثماره اليانعة الحاصلة آنذاك . وقد أَدْرَكَ الشيخُ أنّي أَسْبَقُ أترابي إلى تلقّف تعليماته وأَسْرَعُ منهم إلى تنفيذها بدقة وجديّة وأسلوب كان يتوخّاه؛ فكان يُكَلِّفُني وحدي أن أُحْضِرَ له من حين لآخر من المطاعم بالمدينة المجاورة للمدرسة ما كان يريده من الإدام – لحمًا مطبوخًا أو نوعًا من خضراوات مُحَضَّرة – وكان يشيد من وقت لآخر بأني أقوم بأوامره بشكل يحبّه ، ويُصَرِّح أن غيري من الأتراب لايحسنون أداءها إحساني إيّاه، وكان كثيرًا ما يقول: «الأخ نورعالم شيخٌ وليس طفلاً، فضلاً عن أن يكون شابًّا» وينشد بإيقاعه الخاصّ بعضَ الأبيات الفارسية التي فيها ذكرٌ لما قد يَتَمَتَّع به الصغيرُ من تجارب الكبير والشابُّ من حلم الشيوخ .
ما إن أَمْضَيْتُ في صحبة الشيخ عامًا دراسيًّا – يبتدئ بالمدارس الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية منذ شوال وينتهي بشعبان – حتى عُدْتُ أحظى بشيء من الدقة والإحسان اللذين كان يريدهما هو و يأمر بهما ويُوَجِّه بشأنهما؛ فصِرْتُ أَكْرَهُ كلَّ عمل يَنْقُصَانِه ويَفْقِدُهما . وغدوتُ أبحث عنهما وأرغب فيهما وأتصدّى لتحقيقهما في كل وظيفة تُسْنَد إليّ ولاسيّما إذا كانت ذات صلة به – رحمه الله – وأصبحتُ أُعْجَبُ بكل من يَتَذَوَّقُهما ولاسيّما إذا كان صغيرًا مثلي . أذكر أني تولّيتُ برغبة من عندي تنسيقَ جميع حياض الأزهار التي كانت على طول هامش الرواق لمبنى المدرسة الذي كان يَتَّجِه مُعْظَمُه نحو الشرق، وكان له جناحان يَتَّجِه أحدهما نحو الشمال وثانيهما نحو الجنوب . وحصلتُ لهذا الغرض على حبل كبير كنت أربط أحد طرفيه بآجرّة ، وآخرهما بأخرى، وأحدّد به استقامة الحياض وأُقَوِّمُها إذا كان بها ميلٌ وأسوّي زواياها طولاً وعرضًا حتى تبدو جميلةً. وكانت أمام المبنى ساحة كبيرة تغطّيها تلافيفُ من عشب نَبَتَ بشكل عفويّ، وتخترقها طرقٌ متقاطعة ملتوية تكوّنت بأقدام الطلاب والأساتذة الذين يمرون بها غادين رائحين إلى الشارع العامّ أو خمس مرات على الأقل إلى المسجد الذي كان يقع بالجانب الشمالي الشرقي من مبنى المدرسة . فوضعتُ من عندي تخطيطاً لتهذيب هذه الطرق الملتوية . ولم يأمرني بذلك أحد ، ولكن مذاق الدقة والجمال وسليقة أداء أمور الحياة ، التي ربما عُجِنَتْ بها طينتي ، والتي ربّاها الشيخ ؛ فنَمَتْ فيَّ مُبَكِّرًا ، جعلتني أتولّى بدوري تقويم كل معوجّ أجده في جانب من المصالح العامّة . وقد أبدى الشيخ إعجابَه الكبير بما صنعتُ من تنسيق الحياض وإعادة بنائها على ما يُرَامُ ومن تهذيب الطرق وتقويمها حسب تخطيط جميل . وأذكر أنَّ مدير المدرسة فضيلة الشيخ محمد تسليم – رحمه الله – المتوفى 1424هـ / 2003م دعاني يومًا وقال : ياولد! لقد علمتُ ما قمتَ به من تهذيب هذه الطرق وتنسيق حياض الأزهار، وأُقَدِّر عملَك جدًّا ولاسيّما لأنّك قمتَ به برضا من عندك دون إيعاز منّا ، وإنَّ حاضرَك مُبَشِّرٌ بمستقبلك الزاهر بإذن الله ، وأدعو لك أن يكون توفيقُه تعالى رفيقَك في مشوار حياتك دائمًا .
الصغار الذين كانوا يَتَهَرَّبُون من التَّعَرُّض لأوامر الشيخ، حَذِرِين من مؤاخذته – رحمه الله – أظنّ أنهم لم يُحْسِنوا إلى أنفسهم ، عندما حُرِمُوا الرؤيةَ الدقيقةَ واللباقةَ الصحيحةَ فيما يتعلق بأمور الحياة . رأيتُ مُعْظَمَهُم الذين تَخَرَّجُوا «علماء» بشكل رسميّ ، لايتمتّعون – وقد تجاوزوا العقدَ الخامسَ من عمرهم – بشيء مما كان لدى الشيخ – رحمه الله – من الدقة واللباقة في جميع شؤون الحياة ، رغم أنّهم تَيَسَّرَتْ لهم من فرص الاستفادة منه أكثر مما تَيَسَّرَتْ لي ، لأنه – رحمه الله – كانت له علاقةُ قرابة بهم أقوى وأكثر تشابكاً من علاقة العمومة التي كانت بيني وبينه، كما أني غادرتُ المدرسةَ التي كان مدرسًا بها والقرية التي كان هو وأنا من سكانها، وظَلُّوا هم بالمدرسة بعدي لعام أو عامين وظلّوا هم وهو من سكان القرية، وكانت منازلُهم ملاصقة لمنزله – رحمه الله – وكان كثيرَ التَّرَدُّد على مضايفهم لدى تواجده بالقرية .
لمستُ بركةَ هذا الفنّ الذي تعلّمتُه منه – رحمه الله – : فن الدقة والإحسان لكل شيء في جميع المناحي الحياتية وجميع المواقف التي كانت جديرةً بالتسجيل في حياتي . وقد تَطَوَّرَ مذاقي مع الأيام فكانت مُعْطَيَاتُه كثيرة وانتصاراته غيرَ معدودة . وسَعِدْتُ – بفضل من الله وتوفيق منه – بعد هذه المدرسة في المدارس التي تعلّمتُ فيها بأساتذة ومشايخ كان مُعْظَمُهم أكثر منه – رحمه الله – تذوّقًا للجمال ، وإحسانًا لأداء الأعمال ، وسليقةً للتعامل مع شؤون الحياة كلها، ودقةً في ملاحظة قضاياها بأسرها؛ فَنَمَّوْا فِيَّ هذه الصفةَ القيِّمةَ وشَجَّعُوها وبلغوا بها المستوى الذي أحظى به الآن بتوفيق الله عزّ وجلّ .
كلّما عدتُ إلى الماضي واطّلَعْتُ عليه ، ذَكَّرَني بتقدير هذه النعمة الغالية التي نَمَتْ لَدَيَّ عن طريق تربية الشيخ – رحمه الله – ولو تَهَرَّبْتُ من عنده تَهَرُّبَ أترابي وحاولتُ أن أُعْرِضَ عن إطاعته ، لما فُزْتُ اليوم بما فُزْتُ به من النجاح الباهر في كثير من المواقف ، بفضل هذا الفن النبيل الذي كان أغلى ما تَمَتَّع عن إطاعته ، لما فُزْتُ اليوم بما فُزْتُ به من النجاح الباهر في كثير من المواقف ، بْتُ به من مُعْطَيَاته – رحمه الله – وصحبته التي بَقِيَت الآن مُجَرَّدَ ذكرى لذيذة؛ حيث لن أحظى بها في الحياة الدنيا التي فارقها – رحمه الله – .
كثيرًا ما أُكَرِّرُ تلاوةَ قوله تعالى : «وَعَسَى’ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى’ اَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّلَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَتَعْلَمُوْنَ» (البقرة/216)
كُنْتُ قد كَرِهْتُ أوّلَ الأمر شدّةَ مؤاخذة الشيخ رحمه الله ، كراهيةَ أترابي لها . وكان مرجعُ ذلك طفولتي وجهلي بطريقة التصرف الصحيح مع التَّطَوُّرَات والمُسْتَجِدَّات في الحياة؛ ولكني ما استجبتُ لدواعي نفسي إلى الدعة والتقاعد والتهرّب من مواجهة ما يَعْرُكُ المرأَ مما يبدو لأول وهلة أنه من المشكلات والمكاره؛ فكان ذلك خيرًا لي أجني وسأظلّ أجني – إن شاء الله – ثماره يانعةً حلوةً؛ فأحمد الله أولاً وأشكر الشيخ وأدعو له دائمًا ثانيًا . أما أترابي فَلَبَّوْا دواعيَ نفوسهم إلى كل ما يشقّ على الصغار؛ فلم يكن ذلك خيرًا لهم بالنسبة إلى هذه المزية القيمة التي تُتِيح للمرء أن يُسَجِّل تَفَوُّقَه وامتيازَه في كثير من مجالات الحياة فَسَيْعَدَ بجزاء ربّه وشكر ودعاء خلقه .
الصغار بطبيعتهم يَهْرُبُون من كل شيء يرونه ماثلاً في طريقهم كشبح مخيف أو كَفَزَّاعَة؛ لأن لديهم من رصيد الخوف ما لايكون لدى الشباب والشيوخ؛ لأن التجارب تُقَلِّل هولَ حوادث الحياة. ولو اسْتَجْمَعُوا هِمَّتَهُم و صمدوا في وجه ما يَحْدُثُ لهم من الْمُسْتَجِدَّات التي لا عَهْدَ لهم بها في الماضي القصير الذي عاشوه منذ أن بدأوا يَعُوْنَ، لتَشَجَّعُوا على التعامل مع كل ما يَسْتَجِدّ لهم ؛ ولوجدوا كل قضيّة سهلةَ العلاج؛ ولزالت عنهم المخاوف الخياليّة؛ ولوجدوا كثيرًا مما يبدو شديدًا ، سهلاً؛ ولعلموا أن كثيرًا مما يكرهونه هو ما سيعود عليهم بخير كثير عاجلاً أو آجلاً؛ فليس كلُّ كريهٍ ضارًّا وليس كل حبيبٍ نافعًا .
(تحريرًا في الساعة 9، من ليلة السبت 14/ رجب 1426هـ = 20/أغسطس 2005م)
أبو أسامة نور
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.