إشراقة

       اللَّبَاقَةُ (Tact or Tactfulness) تنفع في كل مجال في الحياة. والكلمةُ معناها – لغةً – من «سَمِعَ» لَبِقَ فلانٌ لَبَقًا فهو لَبِقٌ ومن «كَرُمَ» لَبُقَ لَبَاقَةً فهو لَبِيقٌ: حَذَقَ كُلَّ عمل وأَحْكَمَهُ؛ وظَرُفَ ولاَنَتْ أخلاقُه. واصطلاحًا هي مجموعةٌ من القواعد في التعامل مع الآخرين، تدلّ على السلوك الحضاري والذوق الراقي، وتعتمد على حسنِ التصرّفِ ومراعاةِ شعورِ الآخرين، والتفهّمِ الواعي للموقف، وتقديرِه تقديرًا صحيحًا.

       فالرجل اللِّين الأخلاق اللطيف الظريف، المتعامل من خلال هذه الصفة الجليلة الجميلة مع قضايا الحياة، يكسب النجاح في كل حَلْبَة، مهما كانت الظروف؛ لأن اللَّبِق يكسب ودَّ الناس ويتحبّب إليهم بسهولة ساحرة؛ لأن اللباقة تُنْمِي قُدُرَاتِه على مخاطبة الآخرين بثقة واقتناع تامّ وتقدير جيّد لما يناسب قولُه أو فعلُه أو يجمل تجنّبه في العلاقات البشرية والتصرّفات الاجتماعية، فاللباقةُ بتعبير آخر هي التزام سلوك يُؤَدِّي حتمًا إلى الوصول إلى حلم الشخصية المحبوبة، فاللَّبِقُ بلطافتِه وتصرّفِه الظريف يُصْبِح محبوبًا لدى الآخرين؛ حيث إن لباقتَه تُعِينُه على التواصل معهم أو التحدّث إليهم بأسلوب يرفع شأنَه لديهم مع ابتعاد كامل عن إثارة أو استفزاز أو أي طريقة تُثِيرُ في نفوسهم – الآخرين – حزنًا أو قلقًا أو معنىً من الكراهية. وهي – اللباقة – إحدى الصفات الهامّة التي تتوافر في الأشخاص الذين يُصَنَّفُون «اجتماعيّين» يتخذون من الحكمة والهدوء منهجًا لهم في الحياة. وهي صفات محمودة مرغوبة مطلوبة، ينبغي أن تتوافر في كل شخص – مهما كان عاديًّا – ليستطيع التعامل مع الآخرين بأريحية ولطافة، وظرافة وكياسة، ويجب أن تتوافر في كل عامل في المجالات الاجتماعيّة كالتجارة والتسويق والتدريس والدعوة والتبليغ والمصالح الحكوميّة العامّة.

       والرجلُ الذي يتعامل مع الناس باللباقة ويُوَظِّفها في الاتصال بهم، يسهل عليه أن يُحَقِّق كلَّ ما يودّ تحقيقَه منهم؛ لأنه بظرافته ولين أخلاقه ولطفاته يسترعي لفتاتِهم وتعاطفَهم المثمر، مهما كانوا مُكَبَّلِين بالأشغال والأعذار والأمراض، التي تفرض عليهم أن يحافظوا على الأوقات، ويَضَنُّوا بها على الضياع، فلا يصرفوها إلّا فيما يعنيهم جدًّا وبنحو مُبَاشِر في دينهم ودنياهم.

       على كل فلكون اللباقة بهذا المكان من الأهميَّة أَوْصَى الحكماءُ – قديمًا وحديثًا – بالعناية بها ولا سيّما فيما يتعلّق بفنّ الاتصال بالآخرين وبالحياة الاجتماعية المباشرة؛ لأنه باب واسع مُهِمٌّ جدًّا يمكن القائمَ بالاتّصال الولوجُ منه إلى ساحات فسيحة من التأثير.

       وجَرَّبَ كاتبُ السطور كثيرًا من اللِّبَاق في كثير من المواقف، فسُرَّ بهم جدًّا، وظلّ مُعْجَبًا بتصرفاتهم طويلًا؛ حيث تمكنوا بلطافة تعاملهم معه – كاتب السطور – أن يَقْتَطِع لهم فرصةً كافيةً من أوقاته المزدحمة بالأشغال اللازمة الرتيبة، ويفي بحاجاتهم التي ربما أَدْخَلَتْهم عليه في وقت ذُرْوَةِ الاشتغال؛ لأن حسن تصرفهم وجميل خطابهم جعله لايستاء من دخولهم عليه – وهو منهمك في وظائفه الواجبة- مُقَاطِعِينَ عليه مسيرةَ العمل الذي يشتغل به؛ حيث ربما قَاطَعُوا عليه التواصلَ الكتابي والتَّيَّارَ التفكيري الذي انقطاعُه يُؤْلم الكاتب بنحو لا يُوْصَف؛ لكنه تَحَمَّلَ ذلك منهم على رضا وطواعية، وصَنَعَ لهم ما طلبوه منه، ولم يَأْسَفْ على ضياع الوقت المُحَدَّد لعمل من الأعمال الكتابية أو الثقافية؛ لأنهم زرعوا في قلبه طِيبًا وإعجابًا لا يَقْبَلُ وصفًا.

       كما جَرَّب كثيرًا من الخُرْقِ الذين آذَوْهُ بتصرفاتهم الحَمْقَاء، فلم يرضَ أن يُعْطِيَهم لفتةً فضلًا أن يُضيع معهم فرصةً من أوقاته الثمينة المُوَزَّعة بدقة على واجبات دينية ودنيوية لافِكَاكَ له منها، وظلَّ طويلًا مسكونًا بالحزن والقلق واضطراب الفكر من أجل تصرفاتهم الغَبِيَّة التي مَسَّتْ مَشَاعِرَه المُرْهَفَة في أعماقها.

       ولكي يأتي المُتَوَاصِل على مستوى اللَّبَاقة المطلوب يُوْصِي الحكماء المُجَرَّبُون — على صيغة اسم المفعول هو الذي تكلمت به العرب كما قال صاحب اللسان انظر شرح ديوان المتنبئ لعبد الرحمن البرقوقي، الجزء الأول، ص294، دارالكتاب العربي، بيروت لبنان، 1400هـ/ 1980م، ويجوز على صيغة اسم الفاعل كذلك — باتِّبَاع خطوات آتية كثيرة منها:

       أن ينظر المتواصل لمُحَدِّثِه بكامل كيانه ويُظْهِر اهتمامَه به واحترامه وتقديره لشخصه، سواءٌ كان مُحَدِّثه ممن يعرفهم أو ممن لا يعرفهم، ولا يَنْسَيَنَّ أن الناس يهتمّون به أكثرَ عندما يُشْعِرُهم بسلوكه الطبيعي الصادق باهتمامه بهم؛ لذا يجب أن يحرص على تحية الآخرين الذين يتواصل معهم بحرارة وحفاوة وأن يصافحهم بقوة وحماس وبطريقه تُشْعِرُهم أنه مسرورٌ حقًّا بلقائهم؛ بل إنهم مُهِمُّون جدًّا بالنسبة إليه؛ وأن يجعل أسلوبَه للحديث معه مُهَذَّبًا وطبيعيًّا، ويَتَجَنَّبَ الأسلوبَ المُصْطَنَعَ المُتَكَلَّفَ؛ وأن يُقَابِل مُحَدِّثَه بابتسامة عريضة، وفي لين الجانب، وبتواضع جمٍّ؛ وأن يَتَعَرَّفَ إليه – إذا لم يكن بينه وبينه سابق تعارف – بعد مفاتحته بالسلام عليه ومصافحته، قبل أن يبدأ أيَّ حديث معه؛ وأن يَتَعَرَّفَ عليه كذلك إذا كان لا يعرفه من ذي قبل؛ وأن يَتَأَكِّدَ دائمًا أن التعبير الذي يرتسم على وجهه أَهَمُّ لدى مُحَدِّثه من الملابس التي يرتديها؛ لأن لغة الجسم والحركات والسكنات والتصرفات أبلغ من لغة الكلام؛ وأن لا يغيبنَّ عن باله أن الانطباع الأوّل عنه الذي ينشأ لدى مُحَدِّثه هو الانطباع الأخير الذي سيبقى ثابتًا في ذاكرته عنه، فالتصرفُ اللَّبِقُ الجميلُ اللطيفُ الظريفُ سيُثَبِّت صورتَه الجميلة وشخصيّتَه المحبوبةَ في مُخَيِّلَتِه؛ فلا يغفلنَّ عن الاهتمام بهذا الجانب لدى مُقَابَلَتِه أيَّ شخص يَوَدُّ أن يقضي هو له حاجةً تُهِمِّه وتُلِحُّ عليه.

       وليَذْكُرَنَّ دائمًا أنْ يَتَفَهَّمَ مواقفَ مُقَابِله ومُحَدِّثه، فلا يُزْعِجَنَّه في أوقاته الحَرِجَة التي يكون فيها في ذُرْوَة الاشتغال المُلِحِّ الذي لا مَعْدَىٰ له عنه بطريقة ما، فيلتمس له الأعذارَ ويحترز من انتقاده وملامه. ولا يَعْزُبَنَّ عنه أن حسن الاستماع جزءٌ لا ينفكّ من لباقة الكلام، وأنّ الاستماع أَهَمُّ بكثير من التحدث؛ لأنه يُمَكِّنُه من التفكير فيما يقول وفيما لايقول حتى يكون أقدر على التعامل مع الموقف الذي عَرَاهُ. وَجَدَ كاتبُ السطور كثيرًا من الناس حتى الذين يُصَنَّفُون «خَوَاصَّ» لا يقدرون على الاستماع لمُحَدِّثِهم وإنما يُحْسِنُون التحدّثَ المتواصل دونما توقّف ودونما تفكير فيما يقوله لهم مُقَابِلُهم. ومثلُ هذا المتحدث – الذي يقدر على الحديث المتصل ولا يقدر على الاستماع – يَتَسَبَّب في نشوء انزعاج وعاطفة سلبية وكراهية شديدة نحوه لدى مُقَابِلِه؛ لأنه يَتَأَكَّد أنه مُتَعَالٍ مُصَاب بمُرَكَّب الشعور بالتَّسَامِي.

       الإنسان خَطَّاءٌ طبعًا، وخير الخَطَّائين هم المُعْتَذِرُون؛ ولكن قليلاً منهم يعتذر عن خَطَئِه نحو من يعنيه خَطَؤُه من المُقَابِلِين والمتحدثين؛ بل إن أغلب الخَطَّائين يَتَمَادَوْن في خَطَئِهم رغم أنهم يعلمون أنهم على خطإ؛ لأنهم وُلِدُوا معجونةً طِيْنَتُهُم بعدم القدرة على الاعتذار؛ فهم محتاجون بشدة أن يُنْمُوا فيهم ثقافةَ الاعتذار ليَحْظَوْا بحب الآخرين من المُقَابِلين والمُتَحَدِّثِين ومصافاتهم وإخلاصهم لهم.

       بعضُ المُثَقَّفِين يتحدّثون مع من يُصَنَّفُون «رجال الشارع» أو «العوامّ» بلغة مزيجة بالإنجليزية ليُشْعِرُوهم أنهم مُثَقَّفُون من الطبقة العالية؛ فذلك لا يعني بشكل أنهم لِبَاق، وإنما يعنى مُبَاشَرَةً أنهم يفتقرون لمهارة لباقة  الحديث والتواصل مع الناس، التي تعني أن لكل مقام مقالًا، ولكل من المجموعة البشرية حديثًا يتفق وفهمَهم وقدرةَ إساغتهم؛ فلابدّ أن يتعامل المتحدثُ مع البَوَّاب أو الطَبَّاخ أو الحَلَّاق أو القَصَّار أو الإِسْكَاف بطريقة لا يجد فيها نوعًا من الطبقيّة أو التعالي أو الأنانيّة أو النَّرْجَسِيَّة أي افتتانه بذاته وإعجابه بها دون سواها.

       ويُعِين الرجلَ على التعامل باللباقة أن يحفظ وجوهَ الآخرين وأسماءَهم، ولاسيّما الأشخاص غير المعروفين أو الذين لا تربطه بهم علاقة قوية، ولكنه سبق له أن قَابَلَهم بمناسبة؛ حيث إن تذكّر وجوههم وأسمائهم يُشْعِرُهم أَنَّه يحترمهم جدًّا ويُقَدِّرُهم بالغًا؛ ومن ثم يُتَاحُ له أن يكون لَبِقًا في الحديث معهم والاتصال بهم، فيكسب وُدَّهم ويحظى بلفتاتهم، ويسعد بتحقيق ما تَوَخَّىٰ تحقيقَه من وراء مقابلتهم والتحدّث معهم وإجراء الاتصال بهم.

       ويجب على من يَوَدُّ أن يكون لِبِقًا في إجراء الاتّصال بأحد أن يلتزم الصدقَ ويَتَجَنَّبَ الكذبَ؛ لأنه ينكشف في النهاية فيُحْرِجُ الكاذبَ؛ فينبغي أن يتَّخِذَ من الصدق منهجًا له في الحياة؛ لأن الكاذب يكون أسلوبُه مُصْطَنَعًا مُبالَغًا فيه وغيرَ مَنْطِقِيٍّ، على أن الكاذب في الغالب يروي أحداثًا ومواقف ينكرها هو نفسه بعد فترة أو يروي أحداثًا ومواقف نقيضة لما رواه في السابق.

       وينبغي له كذلك أن يُقَابل الآخرين بكلمة الثناء الصادقة مع ذكر محاسنهم والإشادة بأهميّتهم لديه، ويُشْعِرهم أنه يظلّ متواجدًا معهم، مُتَابِعًا أحوالَهم وأخبارهم، مُتَمنِّيًا سعادتَهم. وَ أن يَتَذَكَّرَ دائمًا أن يُعَامِلَ الآخَرِين كما يَرْغَبُ أن يُعَامِلُوه، وإذا شاء أن يَتَصَدَّرَ النّاسَ فَلْيَجْعَلْ نفسَه خَلْفَهم. وقبل بدء الكلام ينبغي أن يجمع أفكاره ويُنَسِّقَها ويُرَتِّبَها ليَتَأتَّىٰ متصلاً متتابعًا يأخذ بعضُه بحُجَزِ بعض ومُؤَثِّرًا في المُخَاطَب تأثيرًا إيجابيًّا مُحَقِّقًا لنتائج مرجوّة. وينبغي أن لا يتحدّث بصوت مرتفعٍ مُزْعِج أو بعاطفيّة سلبيّة، وإنما ينبغي أن يكون هادئًا هينًا لَيِّنًا، ويبتعد كليًّا عن اللمز والغمز والرمزيّة التي تُؤَدِّي إلى الانزعاج والقلق. وينبغي أن يحرص على الابتعاد عن استخدام ضمير «أنا» أو «أنتَ» لأنه يُحْدِث نوعًا من الإرباك وردَّ فعل سلبيّ لدى المُخَاطَب وانطباعًا سيئًا في قلبه لا يَمَّحِي على مرّ الأزمان والدهور، ويستخدم مكانَ ذلك «حضرتك» أو «سيادتك» أو «فضيلتك» أو «سعادتك» وما إلى ذلك من الكلمات التي تُحْدِث عنه انطباعًا جميلًا عنه لدى المخاطب، فيتعامل معه بالاحترام الـمُتَـبَادَل.

       وأخيرًا، إن المتكلم اللَّبِقَ يحرص دائمًا أن يأتي كلامُه مُوجَزًا جامعًا في عدم إخلال بالغرض، فينجو من الانتقاد والملام، ويكون كلامه مقبولًا مُؤَثِّرًا.

(تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأربعاء: 23/ربيع الآخر 1437هـ  = 3/فبراير 2016م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1437 هـ = أبريل – مايو 2016م ، العدد : 7 ، السنة : 40

Related Posts