دراسات إسلامية

بقلم: عائشة البشير علي الأسطي (*)

إن دعوة القرآن الكريم للنظر العقلي دعوة صريحة لا تقبل التأويل، فقد جعل الإسلام النظر العقلي واجبًا دينيًا، وجعل ممارسة الوظائف العقلية فريضة إلهية؛ بل ومسؤولية حتمية لا يستطيع الإنسان الفكاك منها و سيحاسب على مدى حسن أو إساءة استخدامه لها.

       وعند الحديث عن النظر العقلي في القرآن الكريم فإن الأمر يقتضي أن نتحدث أولًا عن مكانة العقل في القرآن الكريم؛ لأن العقل أساس النظر، ولا يوجد نظر بدون عقل كما يقول الإمام الجويني: إن (شرط ابتداء النظر تقدم العقل)(1).

       ولم يرد لفظ «عقل» في القرآن الكريم على الإطلاق، وإنما جاء النظر العقلي بمعنى استخدام العقل في التعقل؛ لأن العقل ليس له ماهية قائمة بذاته، إنما هو عمليات عقلية صرحت بها الآيات الكريمة في مواضع كثيرة.

       فجاءت مشتقات «العقل» في تسع وأربعين آية كلها بالصيغة الفعلية:

       – صيغة عقلوه: مرة واحدة، سورة البقرة:75.

       – صيغة نعقل: مرة واحدة، سورة الملك:10.

       – صيغة يعقلها: مرة واحدة، سورة العنكبوت: 43.

       – وتكررت صيغة يعقلون  22 مرة.

       – وجاءت صيغة تعقلون 24 مرة.

       وحيث لم ترد كلمة «العقل» بالصيغة الاسمية في القرآن الكريم فقد وردت مرادفات العقل بالصيغة الاسمية مثل اللب، وجمعت على الألباب والحلم وجمعت على الأحلام، والحجر، والنهي والقلب، والفؤاد وكلها جاءت بمعنى العقل.

       وجاءت آيات أخرى كثيرة تدعو إلى إعمال العقل في النظر والتأمل والتدبر والفكر…الخ.

       والقرآن الكريم تحتل فيه العقلانية مكانًا جد كبير، فالله لا ينفك فيه يناقش ويقيم البراهين، بل إن أكثر ما يلفت النظر هو أن الوحي نفسه، هذه الظاهرة الأقل اتسامًا بالعقلانية في أي دين، الوحي الذي أنزله الله على مختلف الرسل عبر العصور وعلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- يعتبره القرآن هو نفسه أداة للبرهان، فهو في مناسبات عديدة يكرر لنا أن الرسل قد جاءوا بالبينات يقول مثلًا عن يوسف: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنٰتِ﴾(2) فإذا تساءلت ما الذي يضمن صحة الدلالة في هذه البيانات، بدا لك أن هذه الضمانة – لدى محمد-صلى الله عليه وسلم- تكمن في معايير من التلاحم الداخلي، من التوافق الجوهري بين مختلف ما أنُزل من وحي في حقب مختلفة على شعوب مختلفة وبواسطة رسل مختلفين؛ بل إن الوحي الذي أنزل على محمد-صلى الله عليه وسلم- نفسه يضمنه أنه متماثل جوهريًا مع الوحي الذي أنزل على غيره من قبل، والذي يبدو له أمرًا وثيق التاريخ، وهو لا يألو بتحدي معارضيه، أن يأتوا بوحي مثله ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صٰدِقِينَ﴾(3)، وحي يحمل نفس السمات الإلهية شكلًا ومضمونًا أن يأتوا بكتاب من عند لله هـو أهدى مما أنُزل على موسى وعلى محمد ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صٰدِقِينَ﴾(4).

       فإذا لم يقبلوا بهذه المعايير ففي المستطاع اللجوء إلى محاكمة تماثل «البرهان» وذلك هو ما يفعله «مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه»(5) دفاعًا عن موسى: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنٰتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ؟﴾(6) والقرآن الكريم ما ينفك يقدم البراهين العقلانية على القدرة الإلهية: ففي خلق السماوات و الأرض، واختلاف الليل والنهار، وتوالد الحيوان، ودوران الكواكب والأفلاك، وتنوع خيرات الحياة الحيوانية والنباتية تنوع رائع التطابق مع حاجات البشر، ﴿لآيٰتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾(7).

       ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلٰـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمٰوٰت وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾(8).

       وقوله تعالى: ﴿مَّا الْـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ ولكنهما كانا بشرين كالآخرين ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾(9).

       ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَّمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾(10).

       و قوله تعالى: ﴿يٰاَهْلَ الْكِتٰبِ لاَ تَغْلُوْا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوْا عَلَى الله إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقٰهَا إِلىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَاٰمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ﴾(11).

       وفعل «عقل» (بمعنى: ربط الأفكار بعضها ببعض، فهو البرهان العقلي) يتكرر في القرآن حوالي خمسين مرة، ويتكرر ثلاث عشرة مرة هذا السؤال الاستنكاري، وكأنه لازمة: «أفلا تعقلون»؟ والكفار، أولئك الذين يرفضون الاستماع إلى دعوة محمد-صلى الله عليه وسلم- يوصفون بأنهم قوم لايعقلون؛ لأنهم قاصرون عن أي جهد عقلي يهز تقاليدهم الموروثة ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوْا لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوْا لاَ يُبْصِرُونَ﴾(12).

       وهم بهذا كالعجماوات والأنعام، بل أكثر عجمة ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلٰـهَهُ هَوٰﯨﻪُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾(13) ولذلك كان الأب «هنري لامنس» على حق في قوله: «إن محمدًا ليس بعيدًا عن اعتبار الكفر عاهة من عاهات الفكر البشري» فالكفار – ككل المحافظين في كل العصور- يقولون: إنه يكفيهم أن يتبعوا ما كان عليه آباؤهم، ومحمد – ككل المجددين- تستثيره هذه الحماقة:  أفلا يدركون أن آباؤهم قد أعملوا فكرهم قبل أن يضعوا قواعد حياتهم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾(14) ولذلك يكره الله هؤلاء الناس الذين لايريدون أن يعيدوا النظر في أسس تفكيرهم ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(15) ولئن كان يرسل الآيات على وجوده وإرادته، وأهمها الآيات المنزلة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلكي يفهمها الناس ويجعلوا منها أساسًا لتفكيرهم ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، ﴿إِنَّا جَعَلْنٰهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(16).

       وترى الله يقدم العقل، ثم يختم البرهان بقوله: ﴿نُفَصِّلُ الْآيٰتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(17)، ويضع أمامهم هذه الآيات، هذه البينات التي ستكون حاسمة قاطعة بمجرد أن يعملوا حواسهم وملكة المحاكمة فيهم. فإن فعلوا فلعلها  تهديهم إلى الإيمان ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فٰسِقُوْنَ﴾(18) فإذا اهتدوا كانوا عالمين ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾(19) وكان لهم نصيب مما جاء الرسول من العلم ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾(20) هذا العلم الذي هو نقيض الجاهلية والجهل، جهل الإنسان البدائي قبل الوحي ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، ﴿إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾، ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجٰهِلُوْنَ﴾(21) الذي يأتي بالحق والصدق ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتٰبَ بِالْحَقِّ﴾، ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ﴾(22) وأما من ظل على كفره فهو الجاهل بإرادته، ذلك الذي ﴿يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتٰبٍ مُّنِيرٍ﴾(23).

       ولمثل هذا يجب أن يقال: ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَّا تَخْرُصُونَ﴾(24).

       على أن الفهم العقلي للحقيقية لا يكفي وحده، فيهود المدينة مثلًا كانوا يفهمون الدعوة كل الفهم، ولكنهم كانوا لا يلبثون أن يحرفوها عامدين ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(25)، وكذلك ينبغي الانتقال من العقل المحض إلى العقل العملي، وإدراك أن الخير والمصلحة هما في اتباع ما أمر به الله، والالتحام بالجماعة التي يبينها رسوله بأمر منه، ولما كان المكيون قبيلة من التجار، وكانوا المدنيون قد اعتادوا النشاط التجاري، فلقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- ليرسخ في أذهانهم هذه الفكرة: فكرة وجوب الإيمان العامل، -كثيرًا ما يستخدم حججًا ذات طبيعة تجارية، حججًا كانت تأتيه عفو الخاطر؛ لأنه كان هو نفسه قد قضى عمره في الوسط التجاري، وكان يزرع خطبه بتعابير تجارية، كما أثبت ذلك «شارل توراي» عام 1892م بصورة مفصلة، ويكفينا هنا أن تترجم الخلاصة التي يختتم بها «شارل توراي» دراسته الدقيقة عن مصطلحات اللاهوت التجارية في القرآن:-

       «العلاقات المتبادلة بين الله والإنسان هي علاقات تجارية بحتة، فالله هو خير الماكرين، يسع علمه السماوات والأرض، وكل شيء لديه بحساب وميزان وهو قد وضع اللوح المحفوظ وميزان الحسنات والسيئات، وجعل نفسه قدوة للتجارة الحسنة، والحياة صفقة، يربح فيها المرء أو يخسر، فمن عمل صالحًا أو طالحًا (من كسب خيرًا أو شرًا) فله جزاؤه، حتى في الحياة الدنيا، وبعض الديون مؤجلة؛ لأن الله ليس بالدائن الملحاح.

       كما أن المسلم يقرض الله حين يدفع سلفًا ثمن الجنة، فتحسن تجارته، أما الكافر فقد باع الحق الإلهي بالثمن البخس، ولذلك يفلس، وكل روح رهينة بما عقدت من دين، فإذا جاء يوم البعث أجرى الله حساباته الأخيرة مع البشر فقرئت أعمالهم في اللوح المحفوظ ووضعت في الميزان، ثم استوفى كل حقه، مسلمًا كان أم من أهل الكتاب. ولكن للمسلم ترجيحًا؛ لأن له أجرًا مضاعفًا على ما قدمه من عمل صالح»(26).

       ويختتم «تواري» دراسته بقوله: «من الصعب أن يتصور المرء لاهوتًا أكثر دقة رياضية ودقة الرياضيات تفترض العقلانية، وهذا بالطبع لا يعني أن كل الأشياء، في هدى العقيدة القرآنية، تدرك بالعقل، فكثير منها لا يبلغه العقل، وهذه بالذات آية من آيات الله على قدرته وعلى إحاطة علمه، وهذه الأشياء التي لا قبل للعقل البشري أن يدركها بقوته وحدها، يكشف الله للناس عن بعض منها بواسطة أنبيائه، أما باقيها فيظل إلى الأبد في عالم الغيب، ومهمة العقل هي أن يفهم صدق ما تقوله رسالات الرسل عن المجهول الذي لا طاقة له على معرفته وأن يدرك أيضًا أن مصلحته هي في إطاعة تعاليمهم»(27).

       وهنا بالطبع، يظهر الإيمان، هذا العنصر اللاعقلاني، والضروري مع ذلك لكل دين وربما لكل عقيدة غير دينية، فأنت واجد أُناسًا يبدون متماثلين في المواهب، متماثلين في الظروف، ثم يقفون أمام ظاهرة واحدة فتكون لهم مواقف مختلفة، بعضهم يؤيد، وبعضهم ينكر وبعضهم يؤيد بجماع قلبه، وبعضهم بطرف لسانه، ولا مهدي لنا عن تفسير لهذا الاختلاف، فإذا نحن كافحنا غير المؤمنين فلابد لنا، كما ندينهم ونتوعدهم بالعقاب، من أن نعترف لهم ببعض المسؤولية في رفض الإيمان، وهذا في الأديان، يصطدم بناموس القوة الألهية المطلقة، ويضع المرء أمام معضلة لا حل لها، هي معضلة الخيار بين اتهام السماء بالعجز النسبي وبين اتهامها بالظلم.

       أما فكرة الإيمان في القرآن فتقف عند الاعتصام العنيد، غير فعل إرادي يأخذ بجماع النفس، بهذا الإيمان الذي منحه الله مجانًا لعباده.

       ولكن الإيمان يظل على صلة مباشرة بالاقتناع العقلي، وآية ذلك أن كافرين ظلوا دهرًا طويلًا على كفرهم، فأنزل الله عليهم من آياته مصائب حاقت بهم، فكفروا بإشراكهم الماضي وقال الله إنهم أصبحوا مؤمنين، ثم أضاف أنهم آمنوا بعد فوات الأوان فلن ينجيهم إيمانهم من العذاب ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَـمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكٰفِرُوْنَ﴾، ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْـمَلـٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ اٰيٰاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعٰلَمِيْنَ * لِمَن شَآء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعٰلَمِينَ﴾(28).

       إن الآيات التي تروي ذلك تحمل الدليل على أن هنالك تماثلًا بين الإيمان وبين الاقتناع (العقلاني) أمام البينة. وما يفعله الله هو الإذن للبينة الموضوعية بأن تحدث أثرها المقنع، وجدير بالتأمل أن الآية ألتي تبرر التسامح، وتشير إلى هذه المشيئة الربانية، تتحدث في الوقت نفسه عن العقل والاقتناع العقلاني(29): ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوْا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(30).

       ولا نستطيع أن ننكر أن الإيمان القرآني هو شيء أكثر من مجرد الاقتناع العقلاني ومن تقبل الحقائق الموحى بها إلى الرسول، ذلك أن هذا الاقتناع يستتبع موقفًا يلتزم به الكائن كله، فالإيمان يهب خلاص النفس، ويؤمن من الخوف (وإن كان في الوقت نفسه ينمي الخوف من الله)، ويمنح الصبر والتجلد، والقدرة على تحمل المهانة والمشقة في سبيل الله، والتواضع، وإرادة المغامرة بكل شيء من أجل الله والقيام بالطيب الصالح من الأعمال، ولكن هذا لا يفترض بالضرورة وجود عنصر لاعقلاني في عملية اكتساب ذلك الإيمان، ولن تجد في كل القرآن أي حديث عن إيمان يأتي عفوًا، بإشراق حدسي لاعقل فيه، صحيح أن الوحي هبط على محمد-صلى الله عليه وسلم- وسط الرعدات الصوتية، ولكن الحديث الذي يصف لنا هذه الرعدات في فرائص الرسول يؤكد أنه في بداية الأمر تشكك في مصدرها، وتساءل أليس الذي به من وحي الشيطان، فذهب يحدث ذلك «المختصين» في شؤون الوحي مثل ورقة بن نوفل، ابن عم زوجته، وهو الموحد الباحث عن الله، كما اقتضى الأمر أن يشجعه أهله، وأن يتبادل الحديث مع جبريل، وأن يخضع هذا الملاك لاختبارات تثبت له أن مايحمله إليه كان حقًا رسالة إلهية(*).

       وإن معلومات الأحاديث هنا مؤيدة بالقرآن، والقرآن وثيقة لا يرقى إلى صحتها الشك، فنحن في القرآن نرى الله يرد على أولئك الذين يصفون الوحي بأنه حدس يبعث مصدره على الاسترابة وتعصي صحته على البرهان، والرد الإلهي لاينكر على هؤلاء المعترضين حقهم في الاعتراض، ولكن يرى أن هذا الاعتراض هنا لا يستند إلى أساس، فمحمد-صلى الله عليه وسلم- لم يكن في نوبة مرض، بل هو في رعاشاته تلقى رسائل واضحة نقلها إليه كائن غير إنساني (جبريل)، ولكنه كائن موجود حقًا، مطاع وأمين، وذلك في ظروف محدودة وأمكنة معرّفة: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوٰى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوٰى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوٰى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوٰى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوٰى* وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلىٰ* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلّٰى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنٰى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحٰى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَاٰى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلٰى مَا يَرٰى﴾(31).

       ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ* وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْـمُبِينِ* وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰن رَّجِيمٍ﴾(32).

       إذن فهناك –خلافًا لما يقوله يحي مبارك-(33) فرق جذري بين هذا الإيمان المبني على وحي معقول، قام بنقله، في ظروف تضمن له الصدق، كائن يمكن أن يتصل به بعض البشر وإن كان غير بشري، وبين ذلك الإيمان العفوي الحدسي، المبني على شعور باليقين داخلي لا سبيل إلى وصفه.

       فإذا كان القرآن بحكم العقل دعمًا للوحي، فمعنى ذلك أنه يعتبر الوحي مؤلفًا من أقوال معقولة، في متناول العقل البشري أو في غير تعارض معه على الأقل.

       وصحيح أن ما ينطق به الرسل من وحي يأتي بمعطيات ما كان للإنسان أن يكتشفها بنفسه، ولكن القرآن يقدم حججًا عقلانية تدلل على أنه ينبغي الإيمان بهذا الوحي وتصديقه، كما نستمع مثلًا إلى معلومات عن بلدان بعيدة، يرويها لنا أُناس نثق بصدقهم، فنعتبر هذه المعلومات صادقة، وهذا بالإضافة إلى حجج أخرى عقلانية جدًا تثبت لنا أن من المصلحة اتباع التعاليم التي يأتي بها الوحي، فالاعتقاد الديني الأصيل يجب أن يبنى على البراهين القديمة والأدلة الصحيحة، لا على تقليد الآباء والأخذ بظنونهم وأوهامهم، وميزة الإسلام أنه يأمر أتباعه أن لا يسلموا بأي مذهب لا يقوم عليه دليل، وأن لا ينقادوا للأوهام والوساوس.

       يقول الإمام محمد عبده في «رسالة التوحيد»: كان «علم الكلام» أو «علم التوحيد» كعلم يبحث في وجود الله ووحدانيته وصفاته وحقيقة الرسالة النبوية، كان هذا العلم معروفًا عند الأمم قبل الإسلام، ولكنهم قلما كانوا ينحون فيه نحو الدليل العقلي، فكان علماؤهم يتذرعون بالبينات الفائقة للطبيعة أو الخارجة عنها، بـ«المعجزات» أو «الخرافات» أو «الخطابيات»، ولما جاء القرآن غيّر ذلك كله، فبين بصورة لاتضارع «ما أذن الله لنا، وما أوجب علينا أن نعلم، لكن لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، بل ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين وكرعليها بالحجة»(34) وبالاختصار، أقام العقل حكمًا فاصلًا في إقرار اليقين، وبنى أحكامه الخلقية على أسس عقلية، وهكذا «تآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل، بتصريح لا يقبل التأويل»(35).

       فتقرر لدى المسلمين أن العقل لا غنى عنه في التسليم بالكثير من المعتقدات، كوجود الله، وإرسال الرسل، وإدراك فحوى الرسالة، والتصديق بها، وتقرر لديهم أيضًا أن من هذه المعتقدات ما قد يعلو على الفهم، إلا أنه لا يناقض العقل.

*  *  *

الهوامش:

(1)        الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق: د، محمد يوسف موسى،والشيخ علي عبيد الحميد، القاهرة، 1950م، ص65.

(2)        سورة غافر، آية 34.

(3)        سورة الطور، آية 34.

(4)        سورة القصص، الآية 49.

(5)        الإسلام في تعريف القرآن قديم لا يبدأ بمحمد-صلى الله عليه وسلم- فكل الرسل الحقيقيين منذ آدم وكل الذين اتبعوهم كانوا مسلمين، أي موحدين مؤمنين يعبدون الله.

(6)        سورة غافر، الآية 28.

(7)        سورة آل عمران، الآية 190.

(8)        سورة النساء، الآية 171.

(9)        سورة المائدة، الآية 75.

(10)      سورة المائدة، الآية 17.

(11)      سورة النساء، الآية 171.

(12)      سورة يونس، الآية 42- 43.

(13)      سورة الفرقان، آية 43، 44.

(14)      سورة البقرة، الآية 170.

(15)      سورة الأنفال الآية 22.

(16)      سورة العنكبوت، الآية 35- 34. سورة الزخرف، آية 3.

(17)      سورة الروم الآية 28.

(18)      سورة الحديد الآية 16.

(19)      سورة العنكبوت الآية 43.

(20)      سورة البقرة الآية 120.

(21)      سورة المائدة الآية 50. سورة القصص الآية 55، سورة الزمر الآية64.

(22)      سورة الزمر الآية 2. سورة الزمر الآية 33.

(23)      سورة الحج الآية 8.

(24)      سورة الأنعام، الآية 148.

(25)      سورة البقرة، الآية75.

(26)      نقلًا عن مكسيم رودنسون: الإسلام والرأسمالية. ترجمة: نزيه الحكيم، الطبعة الثالثة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1976م، ص88.

(27) نفس المرجع السابق، ص88.

(28)      سورة غافر، الآية 84-85. سورة الأنعام،آية 159. سورة التكوير، الآية 27-29.

(29)      نقلًا عن مكسيم رودنسون: الإسلام والرأسمالية. مرجع سبق ذكره، ص89.

(30)      سورة يونس،الآية 99،100.

(*)         بعد أن يروي الطبري حكاية استشارة ورقة بن نوفل، يروي عن خديجة زوجة النبي-صلى الله عليه وسلم- أنها قالت له تحدثه عن جبريل: «ابن عم» أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: إذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل – عليه السلام- كما كان يأتيه، فقال الرسول الله-صلى الله عليه وسلم- لخديجة: ياخديجة هذا جبرئيل قد جاءني. فقالت نعم. فقم يا ابن عمي فاجلس على فخذي اليسرى، فقام فجلس عليها، فقالت هل تراه؟  قال: نعم قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى. فتحول فجلس عليها.

            فقالت: هل تراه؟ قال نعم: فتحسرت، فألقت خمارها ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- جالس في حجرها، ثم قالت هل تراه؟ قال: لا، فقالت: يا ابن عم، اثبت وابشر فوا لله إنه الملك وما هو بشيطان، الطبري، جـ 2، ص302 (السيرة النبوية) لابن هشام، ط1، ص157.

(31)      سورة النجم، الآية، 1-12.

(32)      سورة التكوير، الآية 19-25.

(33)      نقلًا عن دراسة الفرنسية: «إبراهيم في القرآن» باريس، 1958م، والتي تعطي عن محمد-صلى الله عليه وسلم- صورة شبه مسيحية.

(34)      محمد عبده: رسالة التوحيد، القاهرة، 1932م، ص24.

(35)      نفس المرجع، ص25.

* * *


(*)             طالبة في جامعة علي كره، قسم الدراسات السنية

                للحصول على دكتوراه.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1437 هـ = فبراير – مارس 2016م ، العدد : 5 ، السنة : 40

Related Posts