الفكرالإسلامي
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية(*)
إن الأمور الفطرية ذات جذور غريزية باطنية في الكائن الحي عمومًا، وليس هناك أحد من أبناء البشر كائن من كان يفقدها ويخلو منها، وهي تتحقق بوحي الفطرة وهدايتها، ولا تحتاج إلى تعليم معلم، وكل فكرة أو عمل تكون له جذور فطرية لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية، بل هي تعمل وتتحقق بعيدًا عن نطاق هذه العوامل وتأثيرها، والدعايات المكثفة والمستمرة ضد الأمور الفطرية يمكن أن تضعفها وتحد من نموها، ولكن لا تتمكن أبدا من استئصالها والقضاء عليها بالمرة، هكذا تكون الأمور الفطرية، بينما تكون الأمور العادية أي الغير فطرية على العكس منها، فهي تتأثر بالعوامل والمؤثرات المحيطية والبيئية، وهي تخضع لتعليم معلم، وأخيرا هي مما تتمكن الدعايات المضادة من استئصالها بالمرة.
ولقد كان الدين وما يزال وسيزال، مفجرا للطاقات، ومعالجا للأمراض النفسية والاجتماعية، وكافلاً لإقامة التوازن بين الجسم والروح والعقل، وضابطًا للانفعالات السيئة والعواطف المنحرفة والميول الجامحة، ومعينا لا ينضب من الراحة والطمأنينة. أضف إلى ذلك تأثيره الخلقي في الفرد والمجتمع فقد رأى «فيخته» تلازما بين الدين والأخلاق، فقال: «إن الدين من غير أخلاق خرافة، والأخلاق من غير دين عبث». ولم ير «كانت» ضمانا للأخلاق يوثق به غير الدين. فالدين يبشر المؤمنين بحسن الجزاء في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما، فالمظلوم ينتظر ذاك اليوم الذي سيأخذ فيه حقه من الظالم عند ملك الملوك، إن لم يأخذه منه في الدنيا، والشهيد يستيقن بأن له الجزاء الأوفى، والعالم يدرك أن نتيجة التفكر والبحث، أعلى المراتب، وكذلك الغني الشاكر والفقير الصابر، فالجميع في ثبات وسكينة، وفي مثل هذا المفهوم يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) رواه مسلم. كما أن الدين احتياج نفسي، يصدر من داخل الإنسان ومن عمقه الفطري، وقد أخطأ الفلاسفة وعلماء الأديان الوضعيون حين جعلوا المجتمع والظواهر الكونية، مجالا للبحث عن أسباب التدين. ولابد للإنسان من اتباع دين، واتخاذ معبود، ومن لا يعبد الله لا شك يعبد غيره. كما دلت البحوث العلمية البحتة، على أن لكل قوم من أقوام العالم عامة، مهما كانت ثقافتهم، دينا، يسيرون على هديه ويخضعون لتعاليمه.
والتدين غريزة طبيعية ثابتة في الإنسان، إذ هو الشعور بالحاجة إلى الخالق المدبر، بغض النظر عن تفسير هذا الخالق المدبر، وهذا الشعور فطري يكون في الإنسان من حيث هو إنسان، سواء أكان مؤمنًا بوجود الخالق، أو كافرًا به، مؤمنا بالمادة أو الطبيعة، ووجود هذا الشعور في الإنسان حتمي؛ لأنه يخلق معه، ويكون جزءًا من تكوينه، ولايمكن أن يخلو منه أو ينفصل عنه، وهذا هو التدين، والمظهر الذي يظهر به هذا التدين هو التقديس لما يعتقد أنه هو الخالق المدبر، أو الذي يتصور أنه هو الخالق المدبر. وقد يظهر التقديس بمظهره الحقيقي فيكون عبادة، وقد يظهر بأقل صوره فيكون التعظيم والتبجيل، والقرآن الكريم يعتبر مسألة التدين والاتجاه إلى الله أمرا فطريا، يقول تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوٰتِ وَالأَرْضَ لَيَقُوْلُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيْزُ الْعَلِيْمُ﴾ (سورة الزخرف: آية 9)، ويقول: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوٰتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ (سورة العنكبوت آية 61) و يقول: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ (سورة العنكبوت آية 63) وللتدليل البرهاني على وجود غريزة التدين، المتلخصة في توحيد الله – سبحانه وتعالى- والإقرار بربوبيته، وجودها عند الإنسان، ورسوخها في ذاته، رسوخ الوتد المغروز في الأرض أو أكثر، وهو مازال بعد لم تكتمل بنيته الذاتية كجسم وروح، فقد لقن هذا وهو في عالم يصطلح عليه بعالم الذر، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلٰى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غٰفِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْـمُبْطِلُونَ﴾ (سورة الأعراف الآيات 172-١٧٣) وفي هذه الآيات الكريمة يعلمنا الله – سبحانه وتعالى-، أنه استخرج ذرية بني آدم، من ظهورهم أي من أصلابهم، قبل أن يولدوا ويخرجوا إلى الدنيا كخلق مكتمل، فأقام حينذاك عليهم الحجة بأنه ربهم ومالكهم وأنه لا إله إلا هو، ومن هنا تكون هذه الحادثة، مسألة غيبية، خاصة بعالم الأرواح، قبل انضمامها إلى الأجساد، وهي بذلك تمثل ما يمكن أن نصطلح عليه بحادثة «إشهاد العدالة» إذ أنه تم على صورة تجريدية محضة غير متعرضة لنزاعات أو نزوات شهوانية أو شبهات شيطانية، فكانت بهذا المعنى فطرية وغريزية، بكل ما تحمله الغريزة من معنى كما سبق وأوضحنا، ومن هنا جاء الخطاب الآخر المؤكد لآثار هذا الإشهاد العادل، بقول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ (سورة الروم آية ٣٠) وكذلك في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «كل مولود يولد على الفطرة» كما ورد في الصحيحين. فالقرآن الكريم ينص على أن النزعة الدينية عند الإنسان بصورتها التوحيدية، وجدت بوجود الإنسان منذ أن وطئت رجل آدم – عليه السلام- تراب هذه البسيطة، فضلا عن الترسخ الأول في عالم الذر كما ذكرنا، وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلٰهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (سورة الأنبياء آية 25)، وقال عز وجل: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْـمُرْسَلِينَ﴾ (سورة الأعراف آية 6) وقال: ﴿وَ إن مِن أُمَّةٍ إلَّا خَلاَ فِيْهَا نَذِير﴾ (سورة فاطر آية 24)، وقال: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه فَقَالَ يٰقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ سورة الأعراف آية 59)، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يٰقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ (سورة الأعراف آية 65) وقال: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يٰقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (سورة الأعراف آية 73)، وقال: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يٰقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (سورة الأعراف آية 85) حتى إن أعتى الكفار في تاريخ الإنسانية، يصرح بعقيدة التوحيد اضطرارًا، وعودة إلى أصلها، رغم فوات الأوان، يقول الله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّه لا إِلٰهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْـمُسْلِمِينَ﴾ (سورة يونس آية 90) ولقد كان آخر إعلام بعقيدة التوحيد، وختم الرسالات والنبوات، هو ما أرسل الله به سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، كدعوة للعالمين إلى التوحيد الخالص، محددا من خلال هذه الرسالة عقيدة التوحيد تحديدًا مجملاً ومفصلاً. وعلى رأس هذا التحديد المجمل نجد سورة الإخلاص التي تعادل ثلث القرآن في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَمِنْ هنا فالعقيدة الدينية التي نادى بها الرسل والأنبياء تمثل تذكيرا وحثا للغريزة الدينية الأولية المترسخة في روح الإنسان وهو مازال في عالم الذر.
* * *
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1437 هـ = ديسمبر 2015م – يناير 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 40