دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ أشرف عباس القاسمي
إن زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتبرها المسلم الصحيح الإسلام شرفًا، ويشعر بالعز والفخار عند ما يقف أمام نبيه ورسوله وحبيبه وشفيعه وقائده ورائده سيد المرسلين ومحبوب رب العالمين. فيسلم عليه وعلى صاحبيه سلامًا ملؤه الإجلال والإكبار والتعظيم، ويرجع بالعواطف الجياشة والأحاسيس العميقة النابعَة من زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتفكير فيما قام به في مدة يسيرة من الأعمال المجيدة والمآثر الخالدة التي أدهشت العالم، وهذا مما عاب العالم المستشرق «المسبوكيمون» في كتابه.
فقال حقدًا على المسلمين وعداوةً لشخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- الفذة:
«وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي، يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويُلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع.والذهول العقلي وتكرار لفظ (الله الله) إلى مالا نهاية» (افتراءات المستشرقين والرد عليها: الدكتور يحيى مراد، ص:28)
أقول: هو ليس بجنون إنما هو الحب العميق النقي من الشوائب الذي ينفخ في المسلم روح التفاني في سبيل الله والتضحية بما لديه من نفس ونفيس لأهداف سامية، الحب الذي لايوجد له نظير في تاريخ العالم كله، الحب الذي لا يُلجئ المسلم إلى الإتيان بمظاهر الصرع حتى يتخذه إلٰهًا من دون الله أو ابنًا من أبنائه أو كمثله في الصفات والأعمال بل يجعله معتقدًا بأنه عبد الله ورسوله. بُعث لهداية الناس أجمعين بإذن ربه إلى الصراط السوي المستقيم.
موضع قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دُفن في حجرة عائشة رضي الله عنها. وهي البيت الذي كان يسكن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أم المؤمنين السيدة عائشة – رضي الله عنها-.
فقد روى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليتعذّر في مرضه أين أنام اليوم؟ أين أنا غدًا؟ استبطاءً ليوم عائشة – رضي الله عنها- فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري ودفن في بيتي (صحيح البخاري، كتاب الجنائز، رقم:1389).
وفي بداية الأمر اختلف الصحابة في مدفن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الأمر استقر على دفنه في الحجرة الشريفة بعد ما روى لهم أبوبكر ما سمعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن. فقد قال مالك: بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي يوم الاثنين ودُفن يوم الثلاثاء. وصلى الناس عليه أفذاذًا. ولا يؤمهم أحد. فقال ناس: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبوبكر الصديق فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما دفن نبي قط إلا في المكان الذي توفي فيه، فحفر له فيه، فلما كان عند غسله أراد وانزع قميصه فسمعوا صوتًا يقول: لا تنزعوا القميص، فلم ينزع القميص وغسل وهو عليه» (موطأ مالك، كتاب الجنائز، بابُ ما جاء في دفن الميت).
ولما بنى عمر بن عبد العزيز المسجد النبوي الشريف هدم حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سوى هذه الحجرة الشريفة.
صفة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-
ويتجلّٰى مما ذكره السمهودي مفصلاً أن قبر النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في جهة القبلة مقدمًا، ويليه قبر أبي بكر – رضي الله عنه- من الخلف، ورأسه عند منكب النبي -صلى الله عليه وسلم-ويليه قبر عمر – رضي الله عنه- ورأسه عند منكب أبي بكر – رضي الله عنه-، كما روي عن نافع بن أبي نعيم أن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في جهة القبلة مقدمًا ثم قبر أبي بكر -رضي الله عنه- حذاء منكب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقبر عمر -رضي الله عنه- حذاء منكب أبي بكر – رضي الله عنه-. قال السمهودي: هذه الرواية هي التي عليها الأكثر. (راجع: وفاء الوفاء 2/55).
وكان قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لحديًا، فقد روى القاسم كان بالمدينة رجل يشق وأخر يلحد، فلما قُبض النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرسلوا إليهما وقالوا: اللهم خِر له، فطلع الذي يلحد. (الطبقات الكبرى 2/292).
وعن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا العباس رجلين فقال: ليذهب أحدكما إلى أبي عبيدة بن الجراح (وكان أبو عبيدة يضرح لأهل مكة) وليذهب الآخر إلى أبي طلحة (وكان طلحة يلحد لأهل المدينة) قال: ثم قال العباس حين سرحهما: اللهم خر لنبيك، فلم يجد صاحب أبي عبيدة أبا عبيدة و وجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة. فلحد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (الوفا بأحوال المصطفى 2/552).
ويخبرنا من تشرف برؤية قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- داخل الحجرة الشريفة أن الصحابة لم يجصصوا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. فروي عن القاسم بن محمد أنه قال: دخلت على عائشة فقلت: أمّه إكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه – رضي الله عنهما- فكشفت لي عن ثلاثة قبور لامشرفة ولالاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» (سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تسوية القبر حديث رقم:3218)
وروى أبوبكر الآجري في صفة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غنيم بن بسطام المدني قال: رأيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إمارة عمر بن عبد العزيز. فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع» (فتح الباري 3/257).
وقال رجاء بن حيوة: كتب الوليد عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز – وكان قد اشترى حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن اهدمها و وسع بها المسجد، فلما هدم البيت ظهرت القبور الثلاثة وكان الرمل الذي عليها قد انهار» (المصدر السابق).
وبهذا تبين أن الصور التي يتداولها بعض الناس وتظهر فيها القبور الشريفة مبنية باللبن مرتفعة عن الأرض لا أصل لها ولا تطابق الواقع الموجود. (تاريخ المسجد النبوي الشريف: ص164).
فضل زيارة البني -صلى الله عليه وسلم-
قد وردت أحاديث في فضل الزيارة ذكرها الشيخ عبد العزيز بوطيبان وحقّقها ومنها: من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى نائيًا أبلغته، قال الحافظ السخاوي في القول البديع، ص153: وسنده جيد كما أفاد شيخنا (أي الحافظ ابن حجر) وكذلك حديث (من زار قبري وجبت له شفاعتي) أخرجه الدارقطني في سننه (2/278) والبيهقي في شعب الإيمان (3/490) والسبكي في شفاء السقام، وصحّحه أو حسّنه، والسيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفاء» (راجع: رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة، للشيخ محمود عبد ممدوح ص280، 351) وقال الشيخ ابن حجر الهيثمي – رحمَهُ الله تعالى- في «تحفة الزوار» عن أنس – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» (أخرجه أبوداود، الحديث رقم: 1745) وقد صدر به البيهقي باب زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- واعتمد عليه جماعة من الأئمة، قال السبكي: «هو اعتماد صحيح لتضمنه فضيلةً للزائر، فيا لها من نسمة بالغة فنحمد الله على ذلك حق الحمد» (تحفة الزوّار إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: 21).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مرّ الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه ردّ عليه السلامَ وعرفه وإذا مَرَّ بقبر لا يعرفه رد عليه السلام» (رواه البيهقي في شعب الإيمان) والكلام لابن حجر قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى-: إن الشهداء بل كل المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلّم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام قال: فإذا كان هذا في أحاد المؤمنين فكيف بسيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم-. وقال الإمام السبكي -رحمه الله تعالى-: إن الزيارة قربة إلى الله تعالى مطلوب فعلها بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، أما الكتاب فقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم جَاءُوْكَ فاسْتَغْفَرُواللهَ واسْتَغْفَرَ لهُم الرَسُوْلُ لَوَجَدُوااللهَ توابًا رَحِيْمًا» (النساء:64) فإنها دالة على الحث على المجيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الاستغفار عنده، وهذه رتبة لا تنقطع بموته، وأما السنة، فما سبق من الأحاديث. وقد جاء في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، وقبر النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد القبور، وأما الإجماع فقال القاضي عياض – رحمه الله تعالى-: زيارة قبر النبي سنة بين المسلمين مجتمع عليها وفضيلة مرغب فيها. وأما القياس فهو ما ثبت من زيارته – صلى الله عليه وسلم- لأهل البقيع وشهداء أحد وإذا استحب زيارة قبور هؤلاء فزيارة قبره -صلى الله عليه وسلم- أولى؛ بماله من حق و وجوب التعظيم. (شفاء السقام، ص:18).
إجماع علماء المذاهب على استحباب الزيارة
اتفق علماء الأمة الراسخون والأئمة الهدى المتبوعون على أن الزيارة مندوبة ومستحبة.
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري:
«والأمة مجمعة على زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر، ولا يجوز الإجماع على الخطإ، قال الشيخ خليل في «مناسكه»: ونقل ابن هبيرة في كتاب «اتفاق الأئمة» قال: اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل – رحمهم الله تعالى – على أن زيارته مستحبة» (ص:132).
فقد قال الحافظ ابن الهمام من الحنفية:
«قال مشائخنا: زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أفضل المندوبات» (فتح القدير، 3/179).
وقال ابن عابدين الشامي:
وزيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مندوبة بل قيل: واجبة لمن له سعة (رد المحتار 2/126).
وقال ابن قدامة الحنبلي:
يستحب زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي»، ثم ساق رواية العتبي عن الأعرابي الذي أتى قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (المغني 3/588) ومثله في كشاف القناع للبهوتي الحنبلي: قال الذهبي: فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلاً مسلمًا مصلِّيًا فيا طوبىٰ له فقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحب، وقد أتىٰ بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه» (سير أعلام النبلاء 4/484).
وقال الإمام النووي من الشافعية:
إنه ينبغي لكل من حج أن يتوجه إلى زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- سواءٌ كان ذلك صوب طريقه أو لم يكن، فإنها من أعظم القربات وأنجح المساعي وأفضل الطلبات؛ وكذلك قال القسطلاني في المواهب اللدنية.
وأما المالكية فقد ذكرنا ما قاله الشيخ خليل في منسكه.
وأما الاستدلال بحديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» على منع زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن كثيرًا من العلماء قد ردّ عليه، ومنهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقد ذكر كلامًا نفيسًا إلى أن قال:
«فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف» (فتح الباري 3/33).
من آداب الزيارة
وقد ذكر العلماء آداب الزيارة بالتفصيل. ونكتفي فيما يلي بذكر بعض منها: ينبغي للزائر عند مايتوجه إلى المدينة المنورة أن يُكثر من الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسأل الله تعالى أن ينفعه بزيارته وأن يتقبلها منه.
وينبغي أن يقدِّم صدقةً قبل الوقوف أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: «يٰأيُّهَا الذِينَ آمنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُوْلَ فَقَدِّمُوْا بَيْنَ يَدَي نَجْوﯨـٰـكُمْ صَدَقَةً» (المجادلة:12).
فالآية وإن نُسخ حكمها ولكن يرى بعض العلماء استحسانها حتى ولو بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ويستحب أن يغسل قبل دخوله المدينة المنورة ويلبس أنظف ثيابه، وإذا وصل إلى باب مسجده -صلى الله عليه وسلم- فليقدم رجله اليمنى بالدخول واليسرى في الخروج، يدخل فيقصد الروضة الكريمة فيصلي تحية المسجد ثم يأتي القبر الشريف ويقف قبالة وجهه الشريف -صلى الله عليه وسلم- على نحو أربعة أذرع من جدار القبر الشريف تأدبًا، ثم يسلم بدون أن يرفع صوته عاليًا بل يكون بين السر والجهر تأدبًا معه، ثم يتأخر عن يمينه قدر ذراع فيسلم على سيدنا أبي بكر – رضي الله عنه- ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع فيسلم على سيدنا عمر – رضي الله عنه-، ثم يعود إلى الروضة الشريفة ويكثر فيها من الصلاة والدعاء.
الاعتداءات على القبر الشريف
أما الاعتداءات على القبر الشريف فهي نوعان: الاعتداء الروحي والاعتداء الظاهري. فمن الاعتداء الروحي اتخاذ قبره -صلى الله عليه وسلم- موضع سجودٍ والاستعانة به واعتقاد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قادر مقتدر فعّال لما يريد. فقد نبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره مسجدًا نهيًا شديدًا. فقد قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (صحيح البخاري، رقم:1390).
وكذلك من الاعتداء الروحي أن لايُقصد التقربُ إلى الله بزيارة قبرالنبي -صلى الله عليه وسلم- ويُزعم أن الزيارة ليست من الدين في شيء؛ بل هي من البدع التي عمت في آخر الزمان. فإننا قد ذكرنا من قبل أن الزيارة قد أجمع العلماء والفقهاء على استحبابها. ومن الاعتداء الروحي أيضًا قلة الاعتناء وعدم المبالاة بآداب الزيارة التي تم ذكرها.
أما الاعتداء الظاهري على قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو ما قام به الأعداء من محاولات خبيثة لنبش قبره -صلى الله عليه وسلم- وسرقة جسده الشريف ونقله إلى أمكنة أخرى.
المحاولات لنبش قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وسرقة جسده
قد ذكر المؤرخون عددًا من محاولاتٍ خبيثة لسرقه جسد النبي -صلى الله عليه وسلم- أو نبش قبره على مدار التاريخ؛ إلا أن جميعها باءت بالفشل، وقد صدق الله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُك مِنَ النَّاسِ» [المائدة:67] حيث عصمه في حياته وبعد مماته.
وذكر تلك الحوادث كلٌّ من محمد إلياس عبد الغني في كتابه «تاريخ المسجد النبوي الشريف» ومحمد علي قطب في كتابه «القبة الخضراء ومحاولة سرقة الجسد الشريف».
ويتجلّٰى من خلال الكتب والمراجع أن المحاولة الأولىٰ لنبش قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت في عام 386هجرية بإشارة من الحاكم العبيدي الملقب بـ«الحاكم بأمر الله»، وهو سادس الحكام العبيديين. وذكر المؤرخون هذه المحاولة نقلاً عن تاريخ بغداد لابن النجّار بسنده أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي بنقل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه من المدينة المنورة إلى مصر، وزيّن لهم الشيطان ذلك، واجتهد الحاكم في مدة قصيرة وبنى بمصر حائزًا أي مكانًا يستقبلون فيه الجسد الشريف، وأنفق عليه مالاً كثيرًا، وبُعث أبو الفتوح لنبش الموضع الشريف.
لما وصل إلى المدينة المنورة وجلس بها، حضر جماعة من المدنيين وقد علموا ما جاء فيه، وحضر منهم قارئ يعرف بالزلباني فقرأ في المجلس «وإن نَكَثُوْا أيْمَانَهُم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِم» إلى قوله تعالى «إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ» [التوبة:12-13] فماج الناس وكادوا أن يقتلو أبا الفتوح ومن معه من الجند، وما منعهم إلا أن البلاد كانت لهم، ولما رأى أبو الفتوح ذٰلك قال لهم: الله أحق أن يخشى والله لو كان عليّ من الحاكم فواتُ الروح ما تعرضت للموضع.
وتفيد المصادر التاريخية بأن المحاولة الثانية كانت أيضًا على يد الحاكم بأمر الله العبيدي؛ إذ حاول مرةً أخرى نبش قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لكنها باءت بالفشل كذٰلك، وحفظ الله نبيَّه. وقد ذكر المؤرخون تفصيل هذه المحاولة نقلاً عن كتاب «تأسي أهل الإيمان فيما جرى على أهل القيروان» لابن سعد القيرواني.
والمحاولة الثالثة ذكرها جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي في رسالة له اسمها «نصيحة أولي الألباب في منع استخدام النصارى» ونقلها عنه السمهودي في كتابه «وفاء الوفا بأخبار دارالمصطفى».
ويذكر أن الحادثة وقعت سنة 557هـ في عهد السلطان الملك العادل نور الدين الزنكي على يد اثنين من النصارى. وذكر المؤرخون أن السلطان نورالدين رأى في نومه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: «أنجدني أنقذني من هذين» فاستيقظ فزعًا ثم توضأ وصلّى ونام، فرآه أيضًا مرةً ثالثةً فاستيقظ، وكان للسلطان وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فخرج معه متوجهًا إلى المدينة، فقدم المدينة في ستة عشر يومًا، فاغتسل خارجها ودخل، فصلّى في الروضة وزار، ثم جلس لايدري ماذا يصنع؟ فقال الوزير لأهل المدينة: إن السلطان قصد زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحضر معه أموالاً للصدقة، فاكتبوا من عندكم. فكتبوا أهلَ المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم، وكل من حضر يأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها له النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجد تلك الصفة فيعطيه ويأمره بالانصراف إلى أن انفضَّ الناس.
فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ الصدقة؟ فقالوا: لا، فقال: تفكروا، فقالوا: لم يبق إلا رجلان مغربيان لا يتناولان من أحد شيئًا، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحتاجين، فانشرح صدره، وقال: عليّ بهما، فأتي بهما، فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهما بقوله: أنجدني أنقذني من هذين. فقال لهما: من أين أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجين، فاخترنا المجاورة عند رسول الله، فذهب معهما إلى منزلهما، وأخذ يطوف في البيت بنفسه، حتى رفع حصيرًا في البيت، فرأى سردابًا محفورًا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك. وقال السلطان عند ذلك: أصدقاني حالكما، وضربهما ضربًا شديدًا، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زيِّ المغاربة لنبش قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر السلطان بقتلهما.
وهذه المحاولة الخطيرة لنبش قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- هي التي دفعت بالسلطان نورالدين إلى حفر خندق عظيم حول الحجرة النبوية من جهاتها الأربع وملء ذلك الخندق بالرصاص المذاب، فصار بمثابة سور يقي الحجرة النبوية من أيّ محاولة اعتداء في المستقبل، وظل السور معروفًا بسقيفة الرصاص إلى أن تهدّم أثناء حريق سوق القماشة في يوم الاثنين الموافق 18/رجب سنة 1397هـ.
وأشهر واقعة حدثت في هذا الشأن كان زمن صلاح الدين الأيوبي، أيام الحروب الصليبية حين اتفق القائد الصليبي أرناط مع بعض من عربان سيناء على أن يدخل من ناحية عيذاب حتى يصل المدينة المنورة لسرقة جثمان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان صلاح الدين الأيوبي حينذاك في مكة. وعندما علم بالخبر توجّه إلى أرناط وشقّه بالسيف نصفين، وقتل اثنين من جنود الفرنجة قبل أن يصلوا إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وتفاصيل تلك الواقعة يحدثنا عنها الرحّالة ابن جبير أبوالحسن محمد بن أحمد حيث قال:
«لما حللنا الإسكندرية في شهر ذي القعدة، عاينّا مجتمعًا من الناس عظيمًا برزوا لمعاينة أسرٰى من الروم أُدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق، فسألنا عن قصتهم، فأُخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقًا وجزعًا.
وذٰلك أن جملة من نصارىٰ الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من البحر الأحمر، ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب لهم بكراءٍ اتفقوا معهم عليه، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم، وأكملوا إنشاءها وتأليفها، ودفعوها في البحر. وركبوها قاطعين بالحجاج، وانتهوا إلى بحر النعم، فأحرقوا نحو ستة عشر مركبًا. وانتهوا إلى ميناء «عيذاب»بالقوص بصعيد مصر فأخذوا فيها مركبًا كان يأتي بالحجاج من جدة، وأخذوا أيضًا في البر قافلةً كبيرة تأتي من قوص، وقتلوا الجميع، وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدةً لمكة والمدينة، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يُسمع مثلها في الإسلام، ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة. وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإخراجه من الضريح المقدس، وأشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم، فأخذهم الله باجترائهم عليه وتعاطيهم ما تحول عناية القدر بينهم وبينه، ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم. فدفع الله عاديتهم بمراكب مرت من مصر والإسكندرية، دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أجناد المغربة البحريين، فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم، وكانت آية من آيات العنايات الجبارية.
أما المحاولة الخامسة فقد ذكرها المحب الطبري في «الرياض النضرة في فضائل العشرة» أن شمس الدين صواب اللمطي كبير خدام قبر الرسول قال: كان لي صاحب يجلس عند الأمير ويخبرني بما يحدث في مجلسه، فبينما أنا ذات يوم إذ جاءني فقال: أمر عظيم حدث اليوم قلت: وما هو؟ قال: جاء قوم من أهل حلب وأغدقوا على الأمير في العطاء وسألوه أن يمكنهم من فتح الحجرة وإخراج أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- منها، فأجابهم، ويقول كبير الخدام: إن هذا الأمر جعله مهمومًا محزونًا، وسرعان ما جاءني رسول الأمير يدعوني إليه فأجبته فقال لي: يا صواب! يدق عليك أقوامٌ المسجد فافتح لهم ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم ولا تعترض عليهم، فقلت له: سمعًا وطاعة ويستطرد «صواب» كبير خدام القبر الشريف قائلاً: وخرجت ولم أزل يومي أجمع خلف الحجرة أبكي حتى إذا كان الليل وصلينا العشاء وخرج الناس من المسجد فدق الباب الذي بجانب باب السلام، ففتحت الباب. فدخل أربعون رجلاً أعدُّهم واحدًا بعد واحد ومعهم آلات الهدم والحفر، وقصدوا الحجرة الشريفة، فوالله ما وصلوا المنبر حتى إبتلعتهم الأرض جميعهم بجميع ما كان من الآلات ولم يبق لهم أثر.
ويشير الكاتب محمد إلياس عبد الغني في كتابه «تاريخ المسجد النبوي الشريف أن هذه المحاولة كانت في منتصف القرن السابع الهجري أثناء انشغال العباسيين بأمر التتار».
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1437 هـ = ديسمبر 2015م – يناير 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 40