دراسات إسلامية
بقلم: أسامة نور/ القاسمي (*)
إذا كانت الأُمِّيَّة ممايعيب الإنسان فإنّ كون سيّدنا ونبيّنا محمد – صلى الله عليه وسلم – النبيّ الأُمِّيّ من معجزاته الخالدة. و ذلك يرجع إلى حكمة الله – عزّ وجلّ- ومشيئته؛ لأنّه لو كان قد تعلم وتثقف على مُعَلِّم أو في كُتَّاب قبل أن يُبْعَث لَاتَّهَمُوه بأن تعلمه هو الذي أَهَّلَه أن «يَدَّعِي النبوة» وأن دعواه للنبوة نابعة من العلم والحكمة وهو الذي جعله يزعم أنه يُوْحَىٰ إليه وأنّه يأتيه جبريل بآيات الله وأن ما جاء به من دين جديد إِنّما هو من عند الله.. لاَتَّهَمُو أن ذلك كله فيضٌ من مُعَلِّمه أو من فقيه كُتَّابه؛ لأنه بفضل تعلّمه منه أو تخرّجه في الكُتَّاب قدر على أن يبتكر ما ابتكره مما طَلَعَ به على الناس. كما قال تعالى:
«وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰبٍ وَّ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْـمُبْطِلُونَ» (العنكبوت/48).
يقول العلاّمة شبير أحمد العثماني الديوبندي – رحمه الله تعالى – (1305-1369هـ = 1887-1949م) في تفسير هذه الآية باللغة الأردية:
«مضى أربعون سنة من عمرك قبل أن يُنْزَل عليك القرآن في أهل مكة هؤلاء الذين كلُّهم يعلمون أنك في هذه الفترة ما جلستَ إلى أستاذ، وما قرأتَ كتابًا، وما أمسكت بيدك بالقلم. لو كان الأمر كذلك لكان لهؤلاء المبطلين مجال للتشكك بأنه ربّما نقل ما يقول عن الكتب السابقة ويطرحه على الناس مصوغًا في عبارته. وإن كان هذا القول رغم ذلك خاطئًا؛ لأن أي إنسان مُثَقَّف؛ بل المثقفين جميعًا في العالم لم يكونوا – ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا – ولو استعانوا بقوى جميع الخلق ليأتوا بمثل هذا الكتاب المنقطع النظير، إلا أن المبطلين كانوا ليجدوا فرصة للتقوّل، أمّا إذا كان كونك أميًّا من الـمُسَلَّمَات فانقلع أصل هذه الشبهة السطحية هي الأخرى وإن كان المُتَصلِّبُون منهم كانوا رغم ذلك يقولون: «أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَّ أَصيلاً» (الفرقان/5) (التفسير العثماني بالأردية للعلامة شبير أحمد العثماني الديوبندي على هامش الترجمة الأردية لمعاني القرآن الكريم لشيخ الهند الشيخ محمود حسن الديوبندي (1268-1339هـ = 1851-1920م)، طبع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عام 1409هـ/1989م).
وقد سَمَّى الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – بـ«النبي الأُمِّيِّ» في مواضع شتى في مواقف الإشادة، فقال تعالى:
«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰﯨﺔِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهٰهُمْ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» (الأعراف/157).
وقال:
«فَاٰمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمٰتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (الأعراف/158).
وكلمة «الأُمِّيّ» منسوبة – كما جاء في قواميس اللغة – إلى «الأم» التي هي بمعنى الوالدة. وذلك لأن الإنسان الأمّي يبقى على الحالة التي قد ولدته أمه عليها؛ حيث يظلّ على حالة الجهل بالقراءة والكتابة اللتين عن طريقهما يكتسب الإنسان العلوم والمعارف؛ ولهذا كان اليهود والنصارى يطلقون على العرب وصف «الأميين»؛ لأن الأميّة كانت سائدة فيهم؛ ولذلك أيضًا وصفهم الله تعالى بـ«الأميين» في معرض المنّ عليهم بأنه تعالى رغم كونهم «أميين» لا يعرفون القراءة والكتابة بعث فيهم رسولاً منهم، فقال تعالى:
«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ اٰيٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَق وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰلٍ مُبِينٍ» (الجمعة/2).
ولكون القراءة والكتابة نادرة في العرب وصفهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – مُدْخِلاً نفسَه فيهم بأنهم أمّة أمّيّة، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «إنا أمّة أُمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب» (البخاري عن ابن عمـر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – رقم الحديث: 1913؛ ومسلم: 1080).
على كلّ فإن كون النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أُمِّيًّا اعْتُبِرَ مدحًا له ودليلاً على أن كمال علمه وكونه مُعَلِّمًا للعرب والعجم رغم أمّيّته من معجزاته – صلى الله عليه وسلم – التي صاحبت إعجازَ القرآن الكريم المُتَحَدَّى به الإنسُ والجنُّ أن يأتوا بمثله أو بعضه حتى بسورة من مثله. ولم يدرج أُمّيّ قبله – صلى الله عليه وسلم – ولا بعده أتى بمثل ما أتى به من هذا القرآن المُعْجِز.
حقًّا لقد كان من أبهر المعجزات أن ينزل على أُمِّيّ هذا الكتاب المهيمن على الكتب السماويّة السابقة كلها، وأن يعلن أنه رسول الله الخاتم إلى أمم الأرض كلها وليس للعرب وحدهم. ولم يصدر هذا الإعلان من عند نفسه ولا تفاخرًا بأنه عظيم عظمةً لم يبلغها نبيٌّ مُرْسَل ولا فيلسوف تجري الحِكَمُ على لسانه ويتفجّر العلمُ من جوانبه؛ بل أعلن ذلك على أمر من ربّه تعالى:
«قُلْ يٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ن الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوٰتِ وَالأرْضِ» (الأعراف/158).
وقال تعالى:
وَمَآ أَرْسَلْنٰكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَّ نَذِيرًا» (سبأ/28).
وقال تعالى: «تَبَـٰرَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعٰلَمِينَ نَذِيرًا» (الفرقان/1).
لقد كان معجزة جليلة جليّة أن يكون معلم الناس الدين والأخلاق والعلم والعقائد والأحكام والشرائع والأفكار التي لم تخطر من ذي قبل على قلب أكبر مثقف ومتعلم في الكون.. أن يكون أمّيًّا مبعوثًا في أمة أمية متخلفة حضاريًّا وثقافيًّا، منعزلة تمامًا عن مراكز الحضارة والثقافة المعاصرة، منطوية على نفسها، فخورة بأدبها وشعرها ولغتها وحكمها وأمثالها، الأمر الذي كان طبعًا فيها لا تطبعًا ولا تعلمًا.
كان معجزة أعظم المعجزات أن ينهض أمِّيٌّ في تلك الأمة الأميّة ليتحدّث إلى العالم كله عن طريق صحابته – الذين كانوا وسيلة لبلوغ تعاليمه العالمَ كلَّه والأممَ جميعها في الشرق والغرب – عن القضايا الكونيّة الهامّة بنحو لايزال صحيحًا كلَّ الصحة ولا يزال يُصَدِّقه الشرق والغرب، حتى الأعداء والمثَقَّفُون من أهل أوربّا الذين لايعترفون لأهل الشرق بأيّ فضل في العلم والثقافة وحتى بعض علماء اليهود المغضوب عليهم والنصارى الضالّين الذين لا يقرّون بصدق نبيّ الإسلام.
كان معجزةً صارخةً ناطقةً بنفسها أن يَتَصَدَّىٰ أمّي ليُحَكِّم العقل والمنطق والفكر المشرق فيما ادّعاه من حقائق الإيمان والتوحيد والنبوة والبعث بعد الموت والحشر والحساب والجزاء والحقائق الصارخة عن الحياة والطب والصحة والقضايا الاجتماعية والإنسانية. ولم يطلب ربَّه ليُجْرِي على يديه – كما أجرى على أيدي إخوانه الأنبياء والرسل السابقين معجزات خارقة حسيّة على طلب منهم – ورغم ذلك أيّده الله تعالى من المعجزات الحسية بما لايقل عمّا أَيَّدَ به من المعجزات الأنبياء والمُرْسَلِين الذين سبقوه.
وقد قال الإمام الشافعي – رحمه الله – : «ما أعطى الله – عز وجلّ – نبيًّا (يعني من المعجزات) ما أعطى محمدًا – صلى الله عليه وسلم – : الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هُيِّئَ له المنبر حَنَّ الجذعُ حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذاك» (أخرجه ابن ماجه:1414).
أمّا حديث الجذع فقد أخرجه البخاري في صحيحه عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال:
«كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشًا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، هل لك أن نجعل لك منبرًا تقوم عليه يوم الجمعة وتُسْمِع الناس يوم الجمعة خطبتك؟ قال: نعم. فصنع له ثلاث درجات هي اللاتي على المنبر. فلما صُنِعَ المنبرُ وُضِعَ موضعه الذي وضعه فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقوم على ذلك المنبر فيخطب عليه، فمرّ إليه. فلما جاوز ذلك الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تَصَدَّعَ وانْشَقَّ، فنزل النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده، ثم رجع إلى المنبر. فلما هُدِمَ المسجد أخذ ذلك الجذعَ أُبَيُّ بن كعب، فكان عنده في بيته، حتى بَـلِيَ وأكلته الأرضة وعاد رفاتًا. (البخاري، فتح الباري 6/601).
وأيضًا أخرج البخاري «أن رجالاً أتوا سهلَ بنَ سعد الساعديَّ – وقد امْتَرَوْا في المنبر ممّ عودُه – فسألوه عن ذلك، فقال: والله إني لا أعرف ممّا هو، ولقد رأيتُه أَوَّلَ يوم وُضِعَ وأوّلَ يوم جلس عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرسل رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – إلى فلانة: امرأة من الأنصار قد سمّاها سهلٌ: «مُرِي غلامَكِ النجّار أن يعمل لي أعوادًا، أجلس عليهن إِذا كلّمتُ الناسَ» فأَمَرَتْه فعَمِلَها من طَرْفَاءِ الغابة، ثم جاء بها، فأرسلتْ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأمر بها، فوُضِعَتْ ههنا، ثم رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلّى عليها وكَبَّرَ وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القَهْقَرَىٰ، فسجد في أصل المنبر ثم عاد. فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: «أيها الناس! إنما صنعتُ هذا لتَأْتَمُّوا ولتَعَلَّمُوا صلاتي» (البخاري: 917).
وجملة القول أنه – صلى الله عليه وسلم – رغم أميته جاء بما لم يجئ به إخوانه السابقون من الأنبياء، فضلاً عن أن يجيء به عامّة عظماء التاريخ البشري. وكانت أميته بدورها من أقوى معجزاته؛ حيث جعلها الله تعالى دليلاً ضد الحاقدين والمعادين والمغرضين من المستشرقين وعلماء أوربّا الذين يزعمون دونما دليل وعن تعنت وبهتان أنه – صلى الله عليه وسلم – قد أخذ عن كتب الأنبياء السابقين. وكيف وكان لا يعرف الكتابة والقراءة ولم يطلع على أي من الكتب السماوية السابقة ولم يعرف لغتها.
* * *
(*) المتخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1437 هـ = ديسمبر 2015م – يناير 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 40