الفكر الإسلامي

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

       تعددت الآياتُ القرآنية والأحاديث النبوية التي تُحذِّر الإنسان من حب الدنيا والتكالب عليها والتصارع من أجلها ، بكل ما فيها ولكل ما بها من نعم ومتع ومشتهيات . وأكثرُ القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم للآخرة؛ بل هو مقصود الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فلم يبعثوا إلا لذلك . قال – عليه الصلاة والسلام – محذِّرًا من حب الدنيا والانشغال بها : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» (1) وقال: «لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا» (2) فنهى عن ذكرها فضلاً عن أصابة عينها كما رُوِي عنه أنه قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها» (3) وقال – ﷺ – : «إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادي من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا يقين له» (4) وقال عيسى – عليه السلام – «لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن ، كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد» وقيل لعيسى – عليه السلام – : علِّمْنا علمًا واحدً يحبنا الله عليه ، قال : «ابغضوا الدنيا يحبكم الله تعالى». كما قال عليه السلام : «لا تتخذوا الدنيا رَبًّا فتتخذكم عبيدًا كنِّزوا كنزكم عند من لا يضيعه ؛ فإن صاحب كنز الدنيا يُخاف عليه الآفة ، وصاحب كنز الله لا يُخاف عليه الآفة . وأوحى الله تعالى إلى موسى – عليه السلام – : يا موسى ! لا تَرْكَنَنْ إلى الدنيا ؛ فلن تأتينني بكبيرة هي أشد منها». وقال لقمان لابنه: «يا بُنَيَّ ! بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا ولا تبع أخرتك بدنياك تخسرهما جميعًا». وقال علي – كرَّم الله وجه – : «الدنيا والآخرة ضرتان ؛ فبقدر ما تُرضى إحداهما تُسْخِط الأخرى» . كما قال : «من جمع فيه ستَّ خصال لم يدع للجنة مطلبًا ولا عند النار مهربًا : أولُها من عرف اللهَ وأطاعه ، وعرف الشيطان فعصاه ، وعرف الحق فاتبعه ، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها ، وعرف الآخرة فطلبها». وقال الحسن – رحمه الله – : «من نافسك في دينك فنافِسْه ، ومن نافسك في دنيا فألقِها في نحره». كما قال : «والله لقد أدركت أقوامًا كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا؟» وقال أيضًا : «والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرحمن بحبهم الدنيا». وقال أيضًا بعد أن تلا قوله تعالى : «فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا» (سورة فاطر آية5) من قال ذا؟ قاله من خَلَقها ومن هو أعلمُ بها!: «إياكم وما شغل الدنيا ؛ فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجلٌ على نفسه بابَ شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب» (5) .

       كما بينت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إن السعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة ، إنما يمد البصر إلى آفاق أعلى ؛ فلا يكون المتاع في هذه الأرض هو الهدف والغاية ، كالذين لا ينطلقون إلى أبعد من هذه الأرض بوحلها ودنسها ورجسها ، ويستمتعون فيها كالأنعام ، ويستسلمون فيها للشهوات والنزوات ، ويرتكبون في سبيل تحقيق اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم . ومن أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها ، فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حيث يشاء . ومن أراد الآخرة لابد أن يسعى لها سعيَها ؛ فيؤدى تكاليفها ، وينهض بتبعياتها ، ويقيم سعيه فيها على الإيمان . قال تعالى في سورة النازعات آية 34-41: «فَإِذَا جَآءتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَىٰ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَىٰ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيْمُ لِمَنْ يَّرَىٰ فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ وَآثـَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيْمَ هِيَ الْمَأْوىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهىٰ النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوىٰ» وأما من آثر الدنيا على الآخرة ، ابتلاه الله بثلاث : هَمًّا لا يفارق قلبه ، وفقرًا لا يستغني أبدًا ، وحرصًا لا يشبع أبدًا(6) والمال جزء من كل ما تشتمل عليه الدنيا ، وما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء ؛ بل هو أحد أهم أركانِ ومقومات الدنيا ؛ إذ به تُبَاع السلعُ والخدمات ، وبه يتيسر الحصول على كل ما في هذه الدنيا من نعم ومتع ومشتهيات ، أو غيرهم من مستلزمات الترف والتنعم بالحياة . ولذا ينظر الإسلام إلى المال على أنه قوام للحياة حيث يتم به تبادل المنافع والمصالح ، والخدمات والحاجيات . قال تعالى في سورة النساء آية 5 : «وَلاَتُؤْتُوْا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِيْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا» (7) وقد زُيِّنَ للناس حبُ المال والحرص على جمعه ، حتى ينشغلوا في طلبه وتنميته وبالتالي تعمير الأرض. قال تعالى في سورة آل عمران آية 4 : «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوٰتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِيْنَ وَالْقَنَاطِيْرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَه حُسْنُ الْمَآبِ» وقال تعالى في سورة الكهف آية 46 : «الْمالُ وَالْبَنُوْنَ زِيْنَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» والمال ليس غاية في ذاته، والمسلم إذا كان مكلفًا بطلب المال وتنميته ، فهو لا يطلبه لذاته وإنما يطلبه للاستعانة به على عبادة الله وذكره ، والتحدث بفضله ونعمه . قال تعالى في سورة القصص آية 77: «وَابْتَغِ فِيْمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ» وقال رسول الله – عليه الصلاة والسلام –: «نعم العون على تقوى الله المال! » أخرجه السيوطي في الجامع الصغير. وحتى لا ينشغل الناس في جمع المال عن الغاية المطلوبة من جمعه ، لأن الرغبة في جمع المال ليس لها حد تنتهي إليه ؛ فالغني توَّاقٌ إلى ازدياد الغنى ، والذي يمتلك عشرات الألوف يطمع في أن يمتلك مئات الألوف ؛ لأن المال كالبحر المالح كلما ازداد الفرد منه شرابًا ازداد عطشًا ، أو كما قال الرسول – عليه الصلاة والسلام – : «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لاَبْتغى لهما ثالثًا ولايملأ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ ويتوب الله على من تاب» (متفق عليه من حديث ابن عباس وأنس). وإذا ما أرخى الإنسان لنفسه عنانها ، واعتقد الناس أن الغنى الحقيقي سبيله القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تهالكوا على المال وتهافتوا على جمعه ، فصارت الحياة مادية ، وضعفت القيم الخلقية ، واضطربت أحوال الجماعات ، وتفشى الشر، وحرص كلُ فرد أن يحرز المال ، ولو من طريق غير مشروع ، فنجم عن ذلك كله أثره ، وشح وبعد عن البذل في سبيل الخير. ولذلك قال تعالى محذِّرًا : «يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَّفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولـٰـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُوْنَ» (سورة المنافقون آية 9). وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ليس الغنى من كثرة العِرض ، إنما الغنى غنى النفس» (متفق عليه) . والمراد بغنى النفس أن يقنع الإنسان بما رزقه الله ، ويرضى بما يكسبه من جهده وكده ، ويعرف أن سعادة النفس فوق كثرة المال ، فينظر إليه على إنه وسيلة ، لا غاية للوصول إلى مرضاة الله وعبادته(8). وقال الحسن : «والله ما أعزَّ الدرهم أحدٌ إلا أذله الله». وقيل : إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعهما إبليس ثم وضعهما على جبهته ثم قبلهما ، وقال من أحبكما فهو عبدي حقًا .

       وقد حدد الرسول – ﷺ – : الرزق الحقيقي للفرد من كل ما جمعه من مال كثر أم قل ، قال – عليه الصلاة والسلام – : «يقول العبد : «مالي مالي» وإنما له من ماله ثلاث ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى فأقنى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس». (رواه مسلم من حديث أبي هريرة) . وقال – ﷺ – : «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه . قال : «فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر» (رواه البخاري والنسائي عن ابن مسعود)(9) . وقال المصطفى – عليه الصلاة والسلام– : «كل شيء فضل عن ظل بيت وكسر خبز وثوب يواري عورة ابن آدم فليس لابن آدم فيه حق» ولنتأمل حديثًا شريفًا سجله الطبراني فقد رُوِي عن ثوبان رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله ما يكفيني من الدنيا ؟ قال – عليه الصلاة والسلام – : «ما سد جوعتك ووارى عوراتك ، وأن كان لك بيت يظلك فذاك ، وأن كانت لك دابة فبخ». هنا يقول نبي الإسلام : «يكفيك من الدنيا طعامك وشرابك ولباسك ولا بأس من امتلاكك بيتًا . أما إن كانت لك دابة فهذا أمر يزيد عن الحاجة الضرورية للحياة . ذلك أن بخ التي وصف بها الرسول – عليه الصلاة والسلام – امتلاك الإنسان لدابة ، كلمةٌ تقال عند مدح شيء فيه تزيد فوجئ به الإنسان ، وأراد الإعلان عن تعجبه له مع رضاه منه(10).

       والإنسان سيستوفي رزقه الذي قضاه له الله في الدنيا كاملاً ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : «أيها الناس ! إن الغنى ليس عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس وأن الله يؤتي عبده ما كتب له من الرزق ، فأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم» (رواه أبو يعلي سنده حسن وأوله متفق عليه). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله – ﷺ –: «إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله» (رواه ابن حبان والبزار والطبراني ولفظه : إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله)  وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله – ﷺ – : لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت (رواه الطبراني في الأوسط والصغير بسند حسن(11). فمن أصبح معافى في جسمه آمنًا في سربه عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها(12).

       كما ينظر الإسلام إلى ما بين أيدي البشر من مال وما خفي عنهم على أنه ملك لله عز وجل ؛ لأنه جل شأنه مالك كل شيء في السموات والأرض وما بينهما . قال تعالى في سورة المائدة آية 17 : «وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمـٰـوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا» وأنه جل شأنه يملك كل هذا وحده دون أن يكون له في ملكه شريك من البشر أو من غير البشر. قال تعالى في سورة الإسراء آية 111 : «وَلَمْ يَكُنْ لَه شَرِيْكٌ فِي الْمُلْكِ» (13) وأن ماليكه إنما هم مستخلفون من قبل الله تبارك وتعالى على تدبير جمعه وإحسان إنفاقه . قال تعالى في سورة الحديد آية 7 : «وَأَنْفِقُوْا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُّسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ» وهذا يدل على أن ما في أيدي البشر من مال ، ليس بأموالهم في الحقيقة ، وإنما هم فيه بمنزلة النواب والوكلاء(14) ويترتب على ذلك أنه لا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يتصرف في جمع المال واستثماره وإنفاقه تبعًا لهواه أو لقوانين ودساتير، تخالف ما شرعه لنا المولى عز وجل ، في كتابه الكريم وسنة رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام .

*  *  *

الهوامش والمراجع :

  • أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا والبيهقي في «شعب الإيمان» من طريقه من رواية الحسن مرسلاً .
  • الحديث أخرجه البيهقي في «الشعب» من طريق ابن أبي الدنيا من رواية محمد بن النضر الحارثي مرسلاً .
  • أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث أبي هريرة .
  • أخرجه أحمد من حديث عائشة مقتصرًا على هذا وعلى قوله (ولها يجمع من لا عقل له) دون بقيته وزاد ابن أبي الدنيا والبيهقي في «الشعب» من طريقه (ومال من لا مال له) إسناده جيد .
  • «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد الغزالي ج3 ص 190-198 .
  • إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ج4 ص 207.
  • «الحل الإسلامي فريضة وضرورة» ليوسف القرضاوي ص 67.
  • فتاوى الشيخ كشك ، هموم المسلم اليومية لعبد الحميد كشك ص 175 .
  • «مشكله الفقر وكيف عالجها الإسلام» ليوسف القرضاوي ص 120 .
  • «لا للفقر في ظل القرآن» لأحمد سعيد ص 158-159 .
  • «مختصر الترغيب والترهيب» للحافظ ابن حجر العسقلاني ص 149-150 .
  • «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد الغزالي ج4 ص 182.
  • «الإسلام وأوضاعنا السياسية» لعبد القادر عوده ص 36 .
  • «دين ودولة» لأحمد محمد جمال ص 333 .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.


(*)         6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

الجوّال : 0101284614

Email: ashmon59@yahoo.com

Related Posts